محمد أرزقي فراد ferradrezki@yahoo.fr تعتبر المغنية القبائلية "حنيفة" من الأسماء الرائدة في الأغنية القبائلية، اقترن اسمها بصدق العاطفة ورقة الأسلوب وعمق المعاني وسلاسة العبارات، لذلك فهي تعد بمثابة اللؤلؤة التي رصعت سجل الأغنية القبائلية. وبالنظر إلى كون أغانيها صرخات خرجت من رحم معاناتها الاجتماعية جراء تعسف المجتمع الذكوري القاهر، فقد خلت أغانيها من التكلف والتصنع الأمر الذي جعلها تتحدى الزمن وتحتفظ برونقها عبر السنين. وباختصار فإن حياتها مزيج من المعاناة والتمرد والنفي، فقد مكنتها موهبتها الشاعرية من تحويل معاناتها إلى لآلئ إبداعية فنية تستحق مكانة سامقة في عالم الأغنية الراقية. اسمها الحقيقي "إغيل لاربعا زبيدة"، ولدت في قرية إغيل مهنى القريبة من آزفون بولاية تيزي وزو في 04 أفريل 1924، وهي قرية جميلة تجمع بين نسيم البحر وصقيع الجبل، ذات غطاء نباتي كثيف أضفى عليها جمالا خلاّبا، كثيرا ما ألهم أهل منطقة آزفون المشهورة بكثرة فنّانيها ومثقّفيها. تخرّجت من مدرسة الواقع المفعمة بالبؤس والمعاناة والمحن، فهي تنتمي إلى أسرة رقيقة الحال، كثيرة الأفراد وقد لازمها سوء الحظّ مدى الحياة. بدأت مأساتها حينما فرض عليها أهلها الزّواج مع أحد أصدقائهم من قرية كانيس وعمرها آنذاك يقلّ عن خمس عشرة سنة، وهكذا وجدت نفسها محمّلة بمسؤولية بناء الأسرة في سنّ المراهقة دون أن تكون مستعدّة لهذه المسؤولية الكبيرة والخطيرة في نفس الوقت. وفي الوقت الّذي كانت في حاجة إلى من يأخذ بيدها لمساعدتها في رعاية عشّها الزّوجي وللتأقلم مع عائلتها الجديدة، خصّها زوجها بمعاملة قاسية حطمت كرامتها وأفقدتها وعيها، الأمر الّذي دفعها إلى الفرار من بيت زوجها، والرّجوع إلى أهلها بعد ستة أشهر من الزّواج فقط، ولم يحاول أهل زوجها تفهّم ظروفها الخاصّة، بل اعتبروا الهروب سببا كافيا للطلاق الّذي كان يعتبر شيئا عاديا في مجتمع ذكوري يحتقر المرأة. وعلى أيّ حال، فإن هذه الحادثة تعدّ بداية لتمرّدها على قيم المجتمع البالية، ولم يمنعها ذلك من الزّواج ثانية لينتهي بالفشل بعد سنة واحدة، عادت إثرها إلى أهلها مع طفلة صغيرة تدعى ليلى، ومن المعلوم أنّ طلاق المرأة – بغضّ النظر عن أسبابه – كان يعدّ وصمة في جبين المرأة، ولما كانت حنيفة تدرك ذلك جيدا فقد قرّرت الانفصال عن عائلتها، فكانت وجهتها مدينة الجزائر حيث تمكّنت بفضل مساعدة بعض معارفها من الحصول على وظيفة بالإذاعة كمنظّفة، وكانت تقيم في حي صالامبي بالعاصمة مع الفنّانة شريفة. استغلت تواجدها في الإذاعة لتفجير موهبتها الفنّية بدعم من بعض أصدقائها خاصّة الشيخ نور الدين سنة 1952. وبعد نجاح أغانيها في الإذاعة قامت بتسجيلها في أستوديو " باتي – ماركوني" سنة 1953، وكانت الانطلاقة بأغنية "أَرَبِّي فّرَّجْ". وفي هذه الفترة احتكت بالموسيقار العالمي محمد إقربوشن، ثمّ انضمت إلى المجموعة الصوتية النسوية سنة 1956. وبعد فشل زواجها الثّالث سنة 1957، هاجرت إلى فرنسا حيث كانت تنظّم الحفلات في المقاهي للمهاجرين بمعية فنانين آخرين، أمثال طالب رابح، وبهية فارح، وفي هذه الفترة قامت بتسجيل أغنية "يذم، يذم، (دائما معك)"، مع الفنّان كمال حمادي. وفي سنة 1962 عادت إلى الجزائر حيث واصلت الغناء الّذي تمحورت مواضيعه حول وجدانها المكسور ومصيرها المجهول، ومعاناة المرأة الّتي تحترق بصهد اللّوعة والفراق جرّاء ظاهرة الهجرة، وقهر العادات البالية الّتي لا تقيم وزنا لعواطف المرأة الجيّاشة. ونظرا لانقطاع الرّوابط العائلية بينها وبين أهلها بسبب ممارستها للغناء، وكذا فشل زواجها فقد لازمتها خيبة الأمل مدى الحياة حتّى صارت شخصيتها قلقة، الأمر الّذي دفعها ثانية إلى شدّ الرّحال نحو فرنسا، ملزمة على نفسها النفي بما يحمله من تعاسة وانكسار ومعاناة، كان ذلك سنة 1975. هناك واصلت الغناء، كما جرّبت أيضا التمثيل السينمائي مع الشّيخ نور الدين في فيلم "خيول الشّمس"، إلا أنّها لم تحقّق النجاح الّذي كانت تصبو إليه. وهكذا كان الحفل الّذي أقامته في تعاضدية باريس في 02 نوفمبر 1978، آخر ظهور عمومي لها، ثمّ انزوت في فندق متواضع بباريس حيث لفظت أنفاسها الأخيرة في 24 ديسمبر 1981، ولم يعد جثمانها إلى أرض الوطن إلاّ بفضل المعجبين بها هناك في فرنسا، ليوارى التّراب في مقبرة العالية في صمت، وبذلك كانت حياتها كما ذكرت في إحدى أغانيها: - طفولتي يتم / - وخاتمتي ترمّل وتركت للإذاعة الجزائرية سجلاّ غنائيا ثريّا يتضمّن حوالي مائتي (200) عنوان منها أربع وستون (64) أغنية مسجّلة، وعددا من اسطوانات ذات 45 دورة، ومن أشهر أغانيها: - يا رب فرّج- أين تمّ بيعك يا حظّي- إنّني لا أغني- جنيت على نفسي- أمرك لله - أين الحلّ- ملكته الفرنسيات - دائما معك - يا حبيب العين- إنّي غفرت لك- جنايتي على نفسي- اصبر يا قلبي - طفح القلب وإذا أمعننا النظر في مواضيع أغانيها، فإنّنا نجدها تتمحور حول الحبّ العذري والوفاء وكيد الزّمان ومآسي الهجرة وسوء الحظّ والأمل. إنّ هذه الميزة الّتي طبعتها قد صنعت منها أحد الأسماء الرّائدة في الأغنية الاجتماعية القبائلية. إنّ أهمّ ما يطبع شخصية الفنّانة هو تمرّدها على العادات البالية التي تحتقر المرأة، وعليه فإنهّ ليس تمردا سلبيا، بل اتخذ وجهة إيجابية نحو إعادة الاعتبار للمرأة كإنسان، الأمر الّذي جعلها تصطدم بذهنية المجتمع الذّكوري الّتي كانت تعتبرها ضمن سقط المتاع، ولا أدلّ على ذلك من عدم استشارتها في الزّواج، واعتبارها قنبلة موقوتة تهدّد شرف العائلة ممّا يستوجب التخلّص منها مجرّد اقترابها من سنّ البلوغ، وكذا حرمانها من حقّها في الميراث. ومن مظاهر تمرّدها أنّها أشارت بذكاء إلى ظاهرة التحرّش الجنسي الّتي كثيرا ما عانت منها المرأة في صمت، خاصة أثناء غياب زوجها سنين طوال في المهجر، وقد يصدر هذا التحرّش الجنسي حتّى من دائرة المحارم: - أفق أيّها الشّيخ/إنّها زوجة ابنك ْ/- عودته قريبة وممّا لا شكّ فيه أنّها ذهبت بعيدا في تمرّدها عندما وضعت أصبعها على "طابو الجنس" في مجتمع يحرّم الخوض في هذا الموضوع، حتّى ولو كان من طرف الضّحية لا بالتصريح ولا بالتلميح، فالجنس مقرون بالعار الّذي لا يمكن غسله إلاّ بالدّم. ومن نافلة القول التّذكير أيضا أنّ مجرّد تعاطيها للغناء كان يعدّ تمرّدا على مجتمعها، لذلك اتخذت اسما فنّيا (حنيفة) حفاظا على سمعة عائلتها. وعبّرت عن تأثّرها بعمق إزاء نبذ المجتمع للفنّان في أغنية "الخَيْرْ ذَشَّرْ – الخير والشرّ":- ولما صرت حنيفة/ أمسيت مضغة للأفواه وشكّل الحبّ العفيف الّذي يعبّر عن العواطف النبيلة والوفاء محورا هاما في أغانيها، و تجلى ذلك بوضوح في أغنية "يِذَمْ يِذَمْ – دائما معك" الّتي أدّتها مع الفنان القدير كمال حمادي. كما تعدّ أغنية "أيَا فْرُوخِيوْ – يا عصفوري" خير تعبير على الشّوق والصبابة: - يا عصفوري/ يا مالك عيني/ وساكن بالي/ أذاب صهد حبّك لحمي/ بعدك نار/ أحرقتْ قلبي. أمّا أغنية "أَزَهْرِيوْ – حظي" الّتي عبّرت فيها عن لوعة الفراق من خلال وصف رحيل الحبيب، بدءا بحجز تذكرة السفر إلى الصّعود إلى الحافلة، لتنطلق به نحو الغربة، فقد نوهت فيها بالوفاء والإخلاص من خلال الدّعاء بالخير للحبيب: - بجاه الأولياء الصّالحين/ أدعو له بالرّعاية/ فقد تجمعنا أقدارنا لكنّ كيد الرَجال عظيم، فكثيرا ما يخدعون النّساء بزيف العواطف. وقد خصّصت المغنّية حنيفة عدّة أغاني لهذا الموضوع أهمّها، أغنية "كَلَفْغَاكْ رَبِّي – أوكلت أمرك لله" هذا وانعكست مأساة الهجرة بشكل بارز على الأغنية القبائلية حتّى صارت تشكّل حجر الزاوية فيها، وتحتل مجالا واسعا في جلّ إبداعات المغنّين الذين كثيرا ما كانوا هم أيضا ضحايا للهجرة. ولمّا كانت المغنّية حنيفة إحدى هذه الضحايا، فقد عايشت عن قرب سقوط بعض المهاجرين إلى الدرك الأسفل، فأبدعت في وصف هذه المأساة خاصة في أغنية "الفراق" الّتي جاء فيها: - أيّها الأحباء/ ما أصعب الفراق / فالشّوق لا يعرفه إلاّ من يكابده أمّا أغنية "إن أردتِ اليمين"، فهي تصوّر انغماس المهاجرين في اللّهو، والزواج بالفرنسيات، في الوقت الّذي يتركون فيه القبائليات ضحايا للبؤس والمعاناة: - إِن أردتِ اليمين / أقسمت بسيدي هلال/ أنّ زوجك في باريس/ ملكته ذات السروال/ أمّا القبائلية الصبورة/ فسخّرها لرعي الأنعام/ فأين الحل ؟ ومن جهة أخرى، صوّرت المغنية حنيفة نفسيّة الزّوجة المنهارة الّتي غاب عنها زوجها وطال مكوثه في الغربة. ففي الوقت الّذي ترى فيه غيرها من النّسوة يتمتّعن بشبابهن مع أزواجهنّ والبهجة تغمرهن، وترى أطفالهنّ يتمتعون بالرّعاية الأبوية والدفء العائلي، فإنّها ترى شبابها يذبل رويدا رويدا، ويومياتها ألوان من السّخرية والتهكم، والنظرات المريبة الّتي يرسلها ذوو النّفوس المريضة، والتلميحات الجارحة الّتي تصدر عن هذه المرأة أو تلك، وتزداد معاناتها تفاقما عندما ترى أطفالها فريسة للمذلّة واليتم وأبوهم على قيد الحياة. لقد نجحت المغنية في تصوير هذا الوجدان المكسور لدى زوجة المهاجر المنهارة في أغنية "يسثما خاقغ – إنّي مشتاقة": - إنّي مشتاقة/ مكسورة الوجدان/ خسرت عزيزي/ الّذي سحرته الفرنسيات /قلبي يقطر ذوبانا/ احترق بلا نار/ وصرت مضغة الأفواه/ لأصحاب الألسن الطويلة/ فَلِمَ الخديعة/ أيّها المتلاف؟.. ورغم الشقاء الّذي ألمّ بها، فقد ظلّ قلبها مفعما بالأمل والتسامح. وهكذا تعدّ أغنية "غفرت لك" خير تعبير عن رحابة صدرها المفعم بالتسامح رغم ما لحقها من غدر ونكران الجميل. وبالنّسبة للوصية الّتي تركتها للمجتمع فقد جاءت في أغنية "عليك يا ابنتي رهنت شبابي"، توصينا من خلالها بضرورة الأخذ للحياة سلاحها بالإقبال على العلم والتّربية، والتحلي باليقظة لتلافي كيد الزمن الّذي لا يرحم، وكأنّي بها تريد أن تضع تجربتها في خدمة الجميع. فقد عانت من الأمرّين بسبب جهلها وافتقارها إلى العلم والتكوين، وعليه فرسالتها لنا مفادها أنّه على من أراد الحياة الكريمة أن ينهل من المعرفة والعلم.