"في لحظة تمرد قررتُ المغامرة وتجريب حظي في "الحرڤة"، حالما بمستقبل مشرق وعمل وبيت يأويني في الضفة الأخرى من المتوسط، لكنني في نهاية التجربة أدركت أن بلادي أفضل، وأن الموت في أحضان عائلتي أشرف بكثير من الانتحار غرقا..." كانت هذه شهادة أحد أولئك الذين يركبون البحر من الشباب الجزائري الآيس من الحياة في وطنه، وهي شهادة تعكس انقلابا جذريا في نظرته "للحرڤة" وانقلابا أكبر في طريقة تفكيره بشأن المرور إلى هناك.. إلى بلاد ما وراء البحر. لقد قادنا الفضول إلى محاولة التقرب من بعض "الحراقة" الذين فشلوا في الوصول إلى الجهة الأخرى للمتوسط وبالضبط الى جنة أحلام أغلب شبابنا بلاد الغجر "إسبانيا" بعد ما سمعنا بمغامرة ثلاثة عشر شابا من حي الباهية بالقبة، وهنا بدأت رحلة البحث عنهم، وكللت مساعينا بأن التقينا بعض أولئك الذين غامروا وتحدوا البحر ليصلوا الى الضفة الأخرى بأمان، غير أن الأقدار أجبرتهم على العودة الى أرض الوطن. يُؤمّن مبلغ "الحرڤة" من طاولة لبيع الملابس لم يكن صعبا علينا الوصول إليهم طالما أنّهم لم يرفضوا ذلك، بل إن أكثرهم يتباهى بتجربته "المريرة"، وهو يروي تفاصيل مذهلة، سابحا في بحر ذكريات مميزة. كان أولهم "نعيم" الشاب ذي ال18 ربيعا من القبة والذي كان ضمن الجماعة التي غادرت البلاد ليلة 23 من رمضان الماضي والمكونة من 21 فردا هربوا من "جحيم لبلاد"، على حدّ تعبيرهم، ومن البطالة، ليقعوا فريسة غول، لا يشفع اسمه "البحر"، فتح لنا نعيم قلبه وهو يشير الى طاولته قائلا: "راودتني فكرة الحرڤة وأمل الاستقرار في إسبانيا التي يعتبرها الكثيرون من أمثالي مفتاح الدخول الى أوروبا، وبالفعل حضّرت نفسي لهذه الرحلة في غفلة من عائلتي طبعا، لأنهم ما كانوا ليسمحوا لي بالتفكير في المغامرة، فعملت بكد واقتصدت في مصاريفي إلى أن تمكنت من تأمين مبلغ "الحرڤة" وكان حوالي 15 مليون سنتيم من هذه الطاولة التي ترونها، وكعادتي خرجت صباحا، لكن هذه المرة بدون وثائقي الثبوتية، ولم أتزود بشيء حتى لا أثير شكوك والدتي أو أقلقها علي، قبّلتها ومضيت إلى وجهتي دون أن أُعلمها أو أُعلم أيّا كان من عائلتي أو أصدقائي، وذلك بعد أن اتفقت و13 فردا آخر من حيّنا.. وِجهتنا كانت شخصا في بني صاف بعين تموشنت وهو الذي كان الوسيط بيننا وبين دليلنا في الرحلة، وقد تعهّد بتوفير الزورق المطاطي والوقود مقابل المبالغ المالية التي قدمناها له والتي فاقت 195 مليون سنتيم (15 مليون سنتيم عن كلّ واحد منا)، وفي حدود الحادية عشرة ليلا من ليلة 23 رمضان الماضي ركبنا الزورق المطاطي (5.80 متر) وكنا ثلاثة عشر راكبا إضافة الى الدليل، وانطلق معنا زورق آخر من قياس (4.80 متر) على متنه تسعة أفراد ومعهم الدليل أيضا، الدليل، ما شد انتباهي في تلك الرحلة، طفلة صغيرة لا تتجاوز الثلاث سنوات كانت برفقة أمها (24 سنة) وخالتها وخالها مع مرشد آخر طبعا". البحر الغاضب.. وأطياف الموت "الظلام كان حالكا والبرودة محسوسة جدا، ورغم ذلك كانت المعنويات مرتفعة، فكنا نغني طيلة الطريق... خرجنا من المياه الإقليمية الجزائرية. في حدود السادسة صباحا من اليوم الموالي، شارفنا على الوصول، غير أن تعطل القارب الثاني في عرض البحر حال دون ذلك، فكان لزاما علينا تزويدهم بالوقود، ثم كان أن توقف محرّكهم للمرة الثانية فاضطررنا لجرهم بواسطة حبل، غير أنّ حالة الهلع والرعب مما قد يحصل لم تتوقف هنا، وبدأ مؤشر الإطمئنان ينخفض.. ففي لحظة ثار البحر وضاق بنا وراح يتقاذفنا بين أمواجه، كان موقفا لا ينسى، إذ تعالت صيحات النساء وعويلهن (4 نساء) وبدأ التكبير، حينها فقط أدركت أن الموت سيدرِكني في البحر لا محالة وأنني سأكون طعاما للأسماك، وعندها تذكرت خالقي وقلت في نفسي أنني بهذا أتعمد الانتحار غرقا، كوني قصدت هذه المغامرة.. وفي لحظات مر شريط حياتي كاملا أمام عيني فتضرعت لله مثل زملائي إلى أن هدأ البحر وعاد مسالما من جديد، وفي حدود الواحدة بعد منتصف الليل قمنا بتشغيل هواتفنا بعد أن صرنا بعيدين عن مجال المراقبة الجزائرية، وكانت أغلب هواتفنا تشتغل بالخط جازي، فتغيرت الشبكة إلى فودافون وهنا تحققنا من أننا بلغنا مرادنا والحمد لله، وكانت فرحة عارمة، عندها فقط قمت بإرسال رسالة نصية قصيرة إلى والدي أطمئنه على حالتي طالبا منه الصفح والدعاء، إلا أنه وفي حدود 14:30 أُصيب زورقنا بخلل وبدأ يفقد الهواء على اعتبار انّه زورق مطاطي، وهنا بدأت المياه تتسرب، وعادت أطياف الخوف بالرغم من أن الفاصل بيننا وبين الأراضي الإسبانية كان 15 ميلا فقط، ووسعتنا رحمة الله للمرة الثانية حينما رصدتنا مروحية مراقبة السواحل الاسبانية، واختبأنا وسط زوارق الصيد، إلا أنهم كانوا يروننا، وما كان منهم إلا أن باشروا عمليات الإنقاذ من خلال العجلات المطاطية التي رموها لنا، لتصل بعدها سفينة من الحجم المتوسّط بيضاء، كما وصلت باخرة برتقالية أخرى كان على متنها فريق من الصليب الأحمر الدوليّ، ثم نقلونا إلى مدينة "آرمينيا" جنوبإسبانيا وهناك وجدنا امرأة جزائرية "حراڤة" هي الأخرى، كانت حاملا، ربما كانت تتوقع مستقبلا أجمل لمولودها على هذه الأراضي، ولكن... القُرآن سَحر الإسبان.. لم نمكث طويلا في "أرمينيا" أين حصلنا على ملابس جديدة ونظيفة وبطانيات، لننقل بعدها إلى مدينة "ماقوانديا" أين نقلنا أفراد شرطة كانوا يرتدون بدلة خضراء، وهنا بدأت المتاعب مع التحقيقات الأولية التي سمحت للمغاربة بالبقاء والإقامة داخل التراب الإسباني وقرّرت ترحيل الجزائريين إلى وطنهم (...)، لم نفهم الموضوع وأدخلنا رغما عنا إلى الزنزانات، أين قضينا أربعة أيام كاملة وكان هذا مجرد إجراءات قانونية، حسب ما تناهى إلى مسامعنا، ونقلنا بعدها إلى مركز للإيواء، حيث قضينا فيه مدة تفوق شهرا ونصف الشهر، كانت هذه الفترة قريبة للاستجمام والراحة منها إلى الحجز.. فكنا نخرج للتسوق. كانت هناك قاعدة قانونية يُمنح بموجبها مبلغ 60 أورو للجماعة القليلة، فيما تُمنح 30 أورو للجماعة الأكثر عددا، وكنا نقضي اليوم في لعب البلياردو ومشاهدة التلفاز، أما الوجبات الغذائية المقدمة فهي صحية مائتين بالمائة، أحدنا شغل طيلة فترة تواجدنا هناك منصب إمام الجماعة وهو "ع.ن.م" الذي افتخرنا به وله الفضل في إظهار صورتنا المشرفة كجزائريين في الخارج، إذ كان يصلي بنا الصلوات الخمس وكان يقضي معظم وقته في قراءة القرآن وتجويده، وبما أن الرواق كان طويلا ويكرر الصدى، كان صوته الجميل يصل إلى كل شبر من المركز وهذا ما جعله يستقطب اهتمام الكثير من الحراس الإسبان داخل المركز والذين أحبوا سماع القرآن الكريم وترديده دون أن يعرفوا فحواه، وهو بدوره الذي عودنا على الالتزام بصلواتنا وحبب إلى قلوبنا القرآن بعدما كنا لا نعنى به قبل مغامرتنا هذه، وكأنها الفرصة التي جعلت أغلبنا يعلنون التوبة والرجوع الى الله عز وجل ، والطريف هنا أن الإسبان حفظوا أغنية "يا طيبة" التي كنا نرددها كثيرا. وانتهت مدة إقامتنا بالمركز سريعا ويوم مغادرتنا بكى الحراس، حيث عُرضنا على المصالح الإسبانية المختصة للكشف عن هوياتنا ولو أن أغلبنا كان بدون هوية؛ فمنا من لم يأخذها معه، ومنا من ألقى بها في البحر ومنا من ابتلعها خوفا من اكتشاف الوجهة التي قدم منها خشية أن يُعاد من حيث أتى.. كنا ندخل الواحد تلو الآخر لنخضع لمساءلة عادية، فمن تكلم العربية ضُبط وأُعيد إلى بلاده، غير أنّ خالد الذي كان معنا نجح في إقناع القنصل بأنه فرنسي مقيم بالجزائر، وهذا ما سمح له بالإقامة هناك والحصول على عمل ومأوى... لقد بكى خالد لفراقنا وللغربة التي تنتظره، وبكينا نحن لإخفاقنا في التجربة.. وكان آخر يوم لنا بالتراب الإسباني مميزا جدا، إذ قمنا بجولة عبر إسبانيا قطعنا فيها مسافة تزيد عن 1800 كلم بالحافلة. .. وعُدنا إلى أرض الوطن "مثلنا أمام القنصل الجزائري، وكنا بمجرد انتهاء فترة الاستجواب نخرج من مكتبه مرفقين بأعوان للشرطة بالزي الأزرق الفاتح المعروفون "بالكناش"، حيث نُعزل عن بقية الموقوفين لِئلاّ نُعطيهم فكرة عما يحدث في الاستجواب فيوفقوا في الإجابة ويضمنون بذلك الاستقرار"، وهنا يتدخل "رمزي" قائلا: "بعدها أعادونا إلى أرض الوطن على متن باخرة أوصلتنا إلى ميناء الغزوات، أين كانت الشرطة في انتظارنا للتحقيق معنا حول كيفية هجرتنا، في محاولة منها للوصول إلى هوية الشخص الذي ساعدنا وأمّن لنا القوارب التي نقلتنا إلى إسبانيا، ولكننا التزمنا الصمت ولم نكشف لهم شيئا بناء على اتفاق مُسبق بيننا، حيث كنا قد تعهّدنا لهذا الشخص بألاّ نشيَ به، إذ يقضي الاتفاق المبرم بيننا بأن نتقاسم الخسارة في حالة ما إذا لم نوفق وأُعدنا إلى أرض الوطن خائبين، وفعلا تقاسمنا المبالغ مناصفة، حيث أخذنا سبعة ملايين ونصف، وأخذ صاحبنا سبعة ملايين ونصف". فارس: "أنا مُصمّم على إعادتها مرّة أخرى.." تركناهم مع طاولاتهم ومع جِدّهم في جمع مبلغ آخر يمهد لخوض محاولة "حرڤة" ثانية، وتوجّهنا إلى بلدية براقي التي عبر كثيرٌ من أبنائها إلى الضفة الأخرى فيما لايزال آخرون منهم يحاولون ذلك، بحثنا مطولا عن بعضهم بين جنبات الحي المشهور ب"لاسيتي" حي 2004 مسكن، و"الغوازي" إلى أن التقينا ب "عمر" و"فارس"، اللذان أكدا لنا أنهما وصلا إلى البئر بعد عطش شديد ولم يشربا، في إشارة إلى أنّهما عبرا إلى الضّفة الأخرى ولكنّهما أُعيدا، يقول فارس: "لا أريد التذكر، فلقد وطئت أقدامنا التراب الإسباني وبقينا هناك سبعة أشهر كاملة، الى أن ضبطتنا الشرطة بجنوب البلاد وأوقفتنا بتهمة الهجرة غير الشرعية وأعادونا بعدها إلى الوطن، ومع هذا لاأزال مصمما ككل الذين مروا بالتجربة نفسها على إعادتها يوما ما إلى أن يكتب الله لنا الاستقرار هناك، لأننا مللنا من المعيشة هنا.. فنحن بلا مستقبل وبلا عمل، وحتى السلطات تمنعنا من الاسترزاق عندما تُطاردنا في الطرقات وتصادر طاولاتنا التي نبيع عليها سلعتنا، فماذا نفعل؟". غادرنا هؤلاء الشباب وسؤال واحد يقرع آذاننا: أيّ مصير ينتظر هؤلاء في ظلّ الوضع القائم..؟. راضية.ح