بعد أن أعطينا، في الجزء الأول من هذه الدراسة، لمحة عن أهمية الانتخابات باعتبارها الآلية المثلى لتحقيق الديمقراطية في أسمى معانيها وأوضح صورها خاصة من حيث إسناد المهام وتولي المسؤوليات الانتخابية، وعن النظام القانوني للانتخابات بوصفه من الآليات القانونية والمؤسساتية الضامنة لتجسيد هذه الديمقراطية، خاصة وأنه يتيح الفرص أمام الشعب (صاحب السيادة ومصدر كل السلطات) للمشاركة في الانتخابات والاستفتاءات والتعبير الحر عن إرادته في النظام السياسي الذي يختاره وعن انتقائه لحكامه ومراقبتهم ومحاسبتهم وعزلهم عند الاقتضاء. وعن فشل الجزائر، في محولاتها المتكررة، لتجسيد قواعد هذه الديمقراطية المنشودة في كل الاستحقاقات الانتخابية، رغم الترسانة الضخمة من الميكانيزمات القانونية “نصوص دستورية، قوانين عضوية وعادية، نصوص تنظيمية…” والمؤسساتية (اللجان الوطنية والمحلية السابقة مثل اللجنة الوطنية القضائية للإشراف على الانتخابات، اللجنة الوطنية السياسية لمراقبة الانتخابات والهيئة العليا المستقلة لمراقبة الانتخابات)، التي سخرتها لها وذلك نتيجة عوامل كثيرة وأسباب عديدة منها: الغش، التحايل، التزوير والفساد بوجه عام “الأخلاقي، السياسي، الإداري، المالي، الاجتماعي، الثقافي، الانتخابي…” والذي يعزى بدوره إلى نقائص واختلالات وثغرات وتشوهات في تلك الآليات القانونية والميكانيزمات المؤسساتية. وبعد أن أشرنا إلى ما عانته الجزائر، دولة وشعبا، هيئات ومؤسسات، من مرارة في تجاربها الانتخابية بشأن تزوير هذه الأخيرة مع ما ترتب عنها من مؤسسات منتخبة ذات هشاشة عميقة وسمعة سيئة (معطوبة في بنيتها ومطعون في مصداقيتها…) داخل الوطن وخارجه. وبعد أن قدمنا عروضا عن الأسباب المتعلقة بالمشروع التمهيدي للقانون العضوي الخاص بالسلطة العليا المستقلة لتنظيم ومراقبة الانتخابات وكذا عن بعض المسائل ذات الصلة المباشرة بهذه السلة ذاتها مثل: تعريفها وبيان مفهومها، أسسها الدستورية وأسانيدها القانونية، مكوّناتها وتركيبتها البشرية…بعد كل ذلك وغيره نواصل استعراض بقية المسائل الأخرى ذات العلاقة، وذلك على النحو التالي: رابعا/هيكلتها، تنظيمها وعملها ينص المشروع التمهيدي لهذا القانون على أن تتكون السلطة العليا المستقلة لتنظيم الانتخابات ومراقبتها وإعلان نتائجها، من ثلاثة أجهزة مع ضبط وتحديد صلاحيات كل منها، ويتعلق الأمر ب الرئيس (1) بوصفه المنسق والمشرف العام للسلطة، ومجلس السلطة(2) المكون من مجموع أعضاء السلطة ال 600 والذي له سلطة المداولة والتقرير، ولجنة دائمة أو جهاز أو مكتب تنفيذي(3). ويتشكل هذا الأخير من ستة عشر عضوا يتم انتخابهم من طرف نظرائهم حسب التوزيع المشار إليه أعلاه (أربعة ممثلين لكل فئة). كما ينص ذات المشروع على أن تكون لهذه السلطة امتدادات محلية (مندوبيات ولائية وبلدية) بعدد (59) مكتب انتخابي موزع على جميع ولايات القطر ال48 وكذا المناطق ال9 التي تتواجد فيها الجالية الوطنية المقيمة في الخارج بمعدل اثنا عشر عضوا لكل مكتب بمن فيهم المنسق، إلى جانب 1541 مندوب أو منسق بلدي، مع ضرورة الاستعانة بمساعدي العدالة في هذا الخصوص. خامسا/شروط العضوية فيها: ينص المشروع التمهيدي لهذا القانون على أن العضوية في السلطة تتطلب بعض الشروط منها، أن يكون العضو من الكفاءات المستقلة من المجتمع المدني، وألا ينتسب إلى أي حزب سياسي، وألا يكون قد حكم عليه في جريمة ما، وألا يكون ممارسا لوظيفة عليا أو منصب سامي في الدولة. وينبغي أن تكون الكفاءات المستقلة من المجتمع المدني ممثلة لجميع الولاياتالجزائرية والجالية الوطنية المقيمة بالخارج وكذا جميع فاعلي المجتمع المدني. ويحظر على أعضاء الهيئة المشاركة في جميع أنشطة الأحزاب، باستثناء الحالات التي يمارسون فيها مهمتهم الإشرافية المنصوص عليها في المشروع التمهيدي لهذا القانون العضوي. ينبغي التأكيد على هذه الشروط وغيرها خاصة وأن توسيع هذه السلطة إلى عدد كبير من الشخصيات وفعاليات المجتمع المدني “هو من أجل حث الطبقة السياسية وكل الفاعلين في المجتمع على الانخراط في العمليات الانتخابية والاستفتائية”. سادسا/ استقلاليتها المالية والإدارية: يقضي المشروع التمهيدي لهذا القانون بأن ترمي أحكامه إلى تكريس الاستقلالية المالية والإدارية للسلطة العليا المستقلة لتنظيم ومراقبة الانتخابات بغية ممارسة مهامها بكل حيادية وبعيدا عن الضغوط التي يمكن أن تسببها أي سلطة أو هيئة مركزية أو محلية. وكذا إلى تدعيمها بصلاحيات واسعة تتمثل أساسا في التأكد من السير الحسن للعملية الانتخابية والاستفتائية ومدى مطابقتها للأحكام التشريعية، بدءا من استدعاء الهيئة الناخبة إلى غاية إعلان النتائج المؤقتة والنهائية مع تعزيزها أيضا بجملة من الآليات لتمكينها من التدخل في حالة الإخلال بالعملية الانتخابية والاستفتائية، واتخاذ الإجراءات الضرورية لوضع الحد لهذه التجاوزات وتتجسد هذه الاستقلالية من خلال: أ- الطبيعة القانونية للسلطة، التي تتيح لها الاستقلال المالي والتسييري، إذ يمكن رئيسها، الذي يعتبر آمرا رئيسيا، من تسيير ميزانية خاصة واعتمادات مالية لازمة لتنظيم ومراقبة كافة العمليات الانتخابية والاستفتائية. ب- المركز الدستوري والقانوني الذي يتميز به رئيس السلطة والذي ينتقى من بين الشخصيات الوطنية والكفاءات العلمية التوافقية، بعد استشارات واسعة، والمشهود لها بالاستقلالية عن كل انتماء سياسي أو وظيفي مع النزاهة والكفاءة وعدم التورط مع النظام البوتفليقي وينتخب من طرف أعضاء السلطة. ج- الشروط الواجب توافرها في أعضاء السلطة وآليات اختيارهم: والذين ينتقون أو ينتخبون هم أيضا من بين ومن طرف الفئات الأربع المشكلة للسلطة، مركزيا ومحليا، على أن يكونوا هم كلك من الشخصيات والكفاءات العلمية المشهود لها بالاستقلالية عن كل انتماء سياسي أو وظيفي مع النزاهة والكفاءة وأداء اليمين وعدم التورط في الفساد مع النظام البوتفليقي. فعلا لقد جعل منها هذا المشروع، حقيقة، سلطة فعلية مستقلة في إدارتها، هيكلتها، تنظيمها، سيرها، عملها، ميزانيتها، في تنظيم ومراقبة كافة العمليات الانتخابية والاستفتائية من بدايتها إلى نهايتها، عن كل الوصايات والمؤسسات والهيئات والسلطات الإدارية والقضائية والدستورية ونحوها. سابعا/مهامها وصلاحياتها عموما وإجمالا: يقضي المشروع التمهيدي لهذا القانون بأن تتولى السلطة العليا المستقلة للانتخابات القيام بجميع العمليات المرتبطة بتنظيم الانتخابات والاستفتاءات وإدارتها والإشراف عليها ومراقبتها طبقا لهذا القانون وللتشريع والتنظيم الانتخابي حيث تقوم في هذا الإطار خاصة بما يلي: 1.مسك سجل الناخبين وتحيينه بصفة مستمرة، 2.ضبط قوائم الناخبين الخاصة بكل انتخاب أو استفتاء، مراجعتها عند الاقتضاء وإشهارها خاصة على الموقع الإلكتروني الرسمي للسلطة وفي آجال يحدّدها القانون الانتخابي، 3.السهر على ضمان حق الاقتراع لكل ناخب، 4.ضمان المعاملة المتساوية بين جميع الناخبين وجميع المترشحين وجميع المتدخلين خلال العمليات الانتخابية والاستفتائية، 5.وضع روزنامة الانتخابات والاستفتاءات وإشهارها وتنفيذها بما يتفق مع المدد المقررة بالدستور والقانون الانتخابي، 6.استقبال ملفات الترشح للانتخابات والبت فيها وفقا لأحكام التشريع الانتخابي، 7.وضع آليات التنظيم والإدارة والرقابة الضامنة لنزاهة الانتخابات والاستفتاءات وشفافيتها، 8.فرز الأصوات والإعلان عن النتائج الأولية والنهائية للانتخابات والاستفتاءات، 9.وضع مدوّنات حسن السلوك الانتخابي الضامنة لمبادئ النزاهة والشفافية والحياد وحسن توظيف المال العام وعدم تلقي الرشاوى وتضارب المصالح، 10.اعتماد ممثلي المترشحين في مكاتب ومراكز الاقتراع واعتماد الملاحظين والضيوف والصحفيين المحليين والأجانب لمتابعة مراحل المسار الانتخابي. على أن تحدّد السلطة بقرار من مجلسها معايير وشروط اعتماد الملاحظين والضيوف والصحفيين الأجانب والمترجمين العاملين معهم، 11.تكوين المشرفين على مختلف مراحل ومكوّنات المسار الانتخابي، 12.ضبط برامج التحسيس والتثقيف الانتخابي والتعاون في هذا المجال مع جميع منظمات المجتمع المدني الناشطة في مجال الانتخابات وطنيا ودوليا، 13.مراقبة الالتزام بقواعد الحملات الانتخابية ووسائلها المضبوطة بالتشريع الانتخابي وفرض احترامها طبق القانون بالتعاون مع الهياكل العمومية، 14.مراقبة تمويل الحملات الانتخابية واتخاذ القرارات اللازمة في شأنه مع ضمان المساواة بين كل المترشحين في التمويل العمومي، 15.تقديم مقترحات لتطوير المنظومة الانتخابية، 16.إبداء الرأي في جميع مشاريع النصوص ذات العلاقة بالانتخابات والاستفتاءات، 17.إعداد تقرير خاص حول سير كل عملية انتخابية أو استفتائية في أجل أقصاه ثلاثة أشهر من تاريخ الإعلان عن النتائج النهائية يعرض على رئيس الجمهورية ورئيس المجلس الشعبي الوطني ورئيس مجلس الأمة والوزير الأول أو رئيس الحكومة وينشر بالجريد الرسمية للجمهورية الجزائرية وعلى الموقع الإلكتروني الخاص بالسلطة، 18.إعداد تقرير سنوي حول نشاط السلطة للسنة المنقضية وبرنامج عملها للسنة التي تليها يعرض على الجلسة العامة لغرفتي البرلمان بمناسبة التصويت على الميزانية السنوية للسلطة وينشر بالجريدة الرسمية للجمهورية الجزائرية وعلى الموقع الإلكتروني الخاص بالسلطة. ثامنا/مهامها وصلاحياتها بالتفصيل يقضي المشروع التمهيدي لهذا القانون بأن تتولى السلطة العليا المستقلة للانتخابات القيام بمهام وصلاحيات تشمل جميع مراحل العمليات الانتخابية والاستفتائية منذ بدايتها “استدعاء الهيئة الناخبة” وإلى غاية نهايتها “إعلان النتائج المؤقتة والنهائية”. وهي على الخصوص كما يلي: مهامها وصلاحياتها قبل الاقتراع: -مراقبة عملية مراجعة القوائم الانتخابية والتأكد من احترام الأحكام القانونية الخاصة بوضع هذه القوائم الانتخابية تحت تصرف المترشحين وذلك بموجب حقهم الدستوري ،-مراقبة عملية إيداع الترشيحات، -ضمان حق المترشحين في الحصول على قوائم أعضاء مراكز ومكاتب التصويت وكذا تعيين ممثليهم على مستواها، -التكفل بالتوزيع المنصف لوسائل الحملة الانتخابية على المترشحين، سواء تعلق الأمر بالحيز الزمني المخصص للحملة الانتخابية في وسائل الإعلام الوطنية السمعية البصرية المرخص لها بالممارسة أو بأماكن عقد التجمعات الانتخابية أو بالأماكن المخصصة لتعليق قوائم الترشيحات، -متابعتها لمجريات الحملة الانتخابية والسهر على سيرها الحسن. مهامها وصلاحياتها أثناء الاقتراع: -ضمان حق المترشحين في حضور عمليات التصويت، -التأكد من احترام ترتيب أوراق التصويت، -الحرص على توفر أوراق التصويت وباقي العتاد الانتخابي، -التأكد من احترام المواقيت القانونية لافتتاح واختتام التصويت. مهامها وصلاحياتها بعد الاقتراع: -التأكد من ضمان السير القانوني لعمليات الفرز، -الضمان للمترشحين ممارسة حقهم في تسجيل احتجاجاتهم بخصوص عملية الفرز، -الضمان للمترشحين حقهم في الحصول على نسخ من المحاضر المتعلقة بالفرز، وكذا محاضر مختلف اللجان. وقصد أدائها لصلاحيتها على أحسن وجه، ينص المشروع التمهيدي لهذا القانون العضوي على تمتع السلطة بجملة من الآليات، إذ يمكنها أن تتدخل تلقائيا أو بناءا على إخطار من الأطراف المعنية. من جهة أخرى تتمتع السلطة العليا بصلاحية اتخاذ قرارات، ويمكنها عند الحاجة تسخير القوة العمومية وكذا إخطار النائب العام، عند ملاحظتها لوقائع تحتمل وصفا جزائيا. علاوة على ذلك، تضمن المشروع التمهيدي لهذا القانون وضع إطار التعاون والتنسيق بين السلطة ومختلف الأطراف المعنية بالعملية الانتخابية “القضاء، الاتصال والإعلام، الخارجية والداخلية” لاسيما من حيث الوسائل المادية واللوجيستيكية…، تكلف السلطة لاسيما بما يأتي: -إخطار السلطات العمومية وكذا المترشحين بكل ملاحظة أو تقصير أو نقص أو تجاوز تتم معاينته، مع إلزام الأطراف المعنية بالعمل على تصحيحه وإعلام السلطة بالتدابير والمساعي التي شرع فيها، -طلب كل الوثائق والمعلومات من الهيئات المعنية، قصد إعداد تقييم عام حول العمليات الانتخابية، -القيام بكل التحريات التي تتعلق بمختلف مراحل العملية الانتخابية والاستفتائية واتخاذ القرارات الملائمة. للإشارة فإن السلطة العليا، فضلا على تقاريرها المرحلية، تعد بمناسبة كل اقتراع أو استفتاء تقريرا نهائيا يتضمن تقييما حول العملية الانتخابية، تعلم به كلا من رئيس الجمهورية ورئيس المجلس الشعبي الوطني ورئيس مجلس الأمة والوزير الأول، مع نشره بالجريدة الرسمية للجمهورية الجزائرية وعلى الموقع الإلكتروني الخاص بالسلطة. وللعلم فإن المشروع التمهيدي لهذا القانون يتكون من ستة أبواب موزعة على خمسين مادة، كما يلي: الباب الأول، يستعرض أحكاما عامة، الباب الثاني، يركز على تنظيم السلطة وتشكيلها، الباب الثالث، يتناول جهاز المداولة (مجلس السلطة)، الباب الرابع، يتناول جهاز التنفيذ (اللجنة الدائمة)، الباب الخامس، يعالج صلاحيات ومهام السلطة، الباب السادس، يتضمن تدابير مالية وجزائية. ختاما، يجب التأكيد على أن المشروع التمهيدي لهذا القانون يهدف إلى تجسيد المبادئ السامية للدستور المتعلقة بالشفافية ومصداقية الانتخابات والاستفتاءات وتكريس دولة القانون وتعزيز التجربة الديمقراطية وتدعيم الحقوق والحريات الفردية والجماعية لبلادنا. تلكم هي أسباب ومضامين المشروع التمهيدي لهذا القانون التي نأمل أن تجد القبول والإثراء مساهمة في حل جزء، ولو يسير، من أزمتنا الراهنة.