محتالون يستهدفون المسنين لسلب أموالهم    مستحضرات التجميل تهدد سلامة الغدة الدرقية    الشروع في إنجاز سكنات "عدل 3" قريبا    الرئيس تبون جعل السكن حقّا لكل مواطن    مجلس الأمن: مجموعة "أ3+" تؤكد على ضرورة احترام سيادة سوريا وتدعو إلى وقف شامل لإطلاق النار    الرابطة الأولى موبيليس - تسوية الرزنامة: شبيبة القبائل ينفرد مؤقتا بالصدارة وشباب بلوزداد يواصل سلسلة النتائج الايجابية    الوضع العالمي مؤسف.. والجزائر لا تريد زعامة ولا نفوذا في إفريقيا    تتويج مشروع إقامة 169 سكن ترقوي بتيبازة    افتتاح الملتقى الكشفي العربي السادس للأشبال بالجزائر العاصمة    عناية رئاسية لجعل المدرسة منهلا للعلوم والفكر المتوازن    شياخة: هذا ما قاله لي بيتكوفيتش واللعب مع محرز حلم تحقق    "الكاف" تواصل حقدها على كل ما هو جزائريٌّ    صيود يسجل رقما وطنيا جديدا في حوض 25 متر    رفع مذكرات إلى رئيس الجمهورية حول قضايا وطنية هامة    حملة "تخوين" شرسة ضد الحقوقي المغربي عزيز غالي    "حماس" تؤكد إمكانية التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار    "الوزيعة"عادة متجذّرة بين سكان قرى سكيكدة    لقاء السنطور الفارسي بالكمان القسنطيني.. سحر الموسيقى يجمع الثقافات    تأسيس اتحاد الكاتبات الإفريقيات    حكايات عن الأمير عبد القادر ولوحاتٌ بألوان الحياة    5 مصابين في حادث مرور    دبلوماسي صحراوي: "دمقرطة المغرب" أصبحت مرتبطة بتصفية الاستعمار من الصحراء الغربية    نجاح الانتخابات البلدية في ليبيا خطوة نحو استقرارها    الإطاحة بعصابة تروِّج المهلوسات والكوكايين    اليوم العالمي للغة العربية: افتتاح المعرض الوطني للخط العربي بالمتحف الوطني للزخرفة والمنمنمات وفن الخط بالعاصمة    الجزائر تتسلم رئاسة الدورة الجديدة لمجلس وزراء الإسكان والتعمير العرب    سوناطراك: استلام مركب استخراج غاز البترول المسال بغرد الباقل خلال السداسي الأول من 2025    "اللغة العربية والتنمية" محور ملتقى دولي بالجزائر العاصمة    المالوف.. جسر نحو العالمية    مشروع جزائري يظفر بجائزة مجلس وزراء الاسكان والتعمير العرب لسنة 2024    المحكمة الدستورية تكرم الفائزين في المسابقة الوطنية لأحسن الأعمال المدرسية حول الدستور والمواطنة    هيئة وسيط الجمهورية ستباشر مطلع سنة 2025 عملية استطلاع آراء المواطنين لتقييم خدماتها    ربيقة يواصل سلسة اللقاءات الدورية مع الأسرة الثورية وفعاليات المجتمع المدني    ترشيح الجزائر للسفيرة حدادي لمنصب نائب رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي يهدف لخدمة الاتحاد بكل جد وإخلاص    آفاق واعدة لتطوير العاصمة    مولوجي: علينا العمل سويا لحماية أطفالنا    95 بالمائة من المغاربة ضد التطبيع    إلغاء عدّة رحلات مِن وإلى فرنسا    عطّاف يلتقي نظيره الإثيوبي    مولى: الرئيس كان صارماً    برنامج الأغذية العالمي يعلن أن مليوني شخص في غزة يعانون من جوع حاد    الاتحاد يسحق ميموزا    حرمان النساء من الميراث حتى "لا يذهب المال إلى الغريب" !    انطلاق فعاليات "المهرجان المحلي للموسيقى والأغنية الوهرانية" : وزير الثقافة يدعو إلى ضرورة التمسك بالثقافة والهوية والترويج لهما    تصفيات مونديال 2026 : بيتكوفيتش يشرع في التحضير لتربص مارس    اتفاقية تعاون بين كلية الصيدلة ونقابة المخابر    وفاة الفنان التشكيلي رزقي زرارتي    سوريا بين الاعتداءات الإسرائيلية والابتزاز الأمريكي    جزائريان بين أفضل الهدافين    خطيب المسجد الحرام: احذروا الاغترار بكرم الله وإمهاله    المولودية تنهزم    90 بالمائة من أطفال الجزائر مُلقّحون    الجوية الجزائرية تعلن عن تخفيضات    التوقيع على اتفاقيات مع مؤسّسات للتعليم العالي والبحث العلمي    باتنة : تنظيم يوم تحسيسي حول الداء المزمن    الصلاة تقي من المحرّمات وتحفظ الدماء والأعراض    كيف نحبب الصلاة إلى أبنائنا؟    أمنا عائشة رضي الله عنها..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"شروقٌ".. يتجدّد ويتمدّد
في الذكرى الأولى لرحيل المؤسس القائد والرئيس الشرفي الأستاذ المرحوم علي فضيل:


التاريخ: البارحة واليوم وغدا…
"سنة أولى رحيل، سنة أولى ريادة"… شمس "الشروق" لن تغيب!
يتذكر الجميع، كلّ من عرف الأستاذ علي فضيل عن قرب، حديثه الدائم والمستمر عن وجود وصفة سرية لنجاح الشروق، وصفة لا يعرف تفاصيلها أحد سواه، مكوناتها غامضة لا يدركها منافس ولا تخطر على بال صديق…كنّا نستقبل مثل هذا الكلام بكثير من الابتسامة والمرح، وبسؤال تشوبه الجدّية، وتردد في المعرفة مع علامات تعجب لا تتوقف… فالرجل لم يكن يتكلم من فراغ، بل يعلم جيدا ما يقول وكيف يقول ذلك!
كنا نسأل، كيف لهذا المجمّع الذي بدأ حلما صغيرا أن يكبر ويكبر ويستمر، رغم كل الهزّات والحروب والأزمات والمواجع… رغم كل الخيبات والانكسارات التي لم تكن لتوجد أصلا أو نشعر بها إلا لأننا تعودنا في الشروق، على طعم النجاح ومذاق المكاسب وشكل الانتصارات!
كنّا نسأل، ما لهذا الرجل لا يملّ من النجاح، ولا يكلّ من إحداث التغيير والتجديد الدائمين؟ كيف له أن يصنع بمفرده هذا الفارق مع غيره؟ ثم ما هي هذه الوصفة السحرية والسرية التي يقول إنه يمتلكها فتجعله ملِكا متوّجا على عرشه، مرتاحا غير مهتم بالمتنافسين ولا بالمتآمرين ؟!
بعد سنة عن الرحيل، اكتشفت(كغيري) أن الوصفة سهلة جدا… وصفة ليست معقدة، بسيطة لكنها ليست في متناول الجميع، أساسها أن تعمل بجدّية، وأن تحترم عقول الناس، شعارها لا تفكر في الفشل قدر تفكيرك في النجاح، ومضمونها أن تتذكر دوما أنك هنا بمشيئة الله… وأنّك مستمر على بركة الله!
عام بعد الرحيل... الريادة اسمها الشروق!
لا يمكن الحديث عن السنة أولى "رحيل"، دون رصد ما عاشته الشروق بكل فروعها من تجارب، وما واكبته من أحداث ووقائع وحالات، صحيح أن تجربة الفراق المفاجئ لم تكن سهلة ولا يسيرة، فظن البعض وقتها، أن الرحيل المدّوي سيؤدي إلى فقدان الشروق لبريقها، ولريادتها، فيما شطح البعض الآخر بخيالهم المريض بعيدا متمنين الاستيقاظ يوما، دون العثور على الشروق اليومي في الأكشاك، أو أن يشعلوا التلفزيون فلا يجدون (الشروق تي في) أو (الشروق نيوز) إلا شاشة سوداء، لكن خابت أمانيهم!
قبل سنة ظنّ البعض أن ترديد فريق الشروق لكلمات (على العهد باقون) مجرد شعار سرعان ما سيسقط في الماء، وبأن كل شيء سينتهي بمجرد توديع المعزّين، وكفكفة الدموع، واسدال الستار على تأبينية غير مسبوقة، لكن الأفعال فضحت خيبة البعض، وكشفت نفاق آخرين!
استمرت الشروق اليومي في الحضور رغم أزمة كورونا التي جعلت الصحف تغيب عن الأكشاك وفرضت طقسا خاصا على الجميع، الجريدة لم تتوقف والطبع استمر كما تم تجاوز عدة أزمات مالية معقدة، حيث أثبتت الأيام أن المعلومة كانت ومازالت تعد في الشروق اليومي وموقعها الالكتروني مرجعا في المصداقية، وعلامة فارقة في نشر قيم الاختلاف واحترام المهنية وتقديس الاحترافية.
هذه هي الشروق اليومي، الجريدة التي راهن عليها علي فضيل يوما لتكون صوتا للمظلومين ومنبرا للمهمشين، وامتدادا للتيار الوطني المستقل وحاضنة لكل الأصوات الحرة والأقلام الشريفة والنزيهة.
رصدت الشروق اليومي عبر صفحات الجريدة يوميا وعبر "الشروق أون لاين" في كل لحظة وحين، جميع الأحداث وتابعت كل الفاعلين، من محاكمات فساد أسقطت الرؤوس الكبيرة التي أينعت، إلى استكمال المسار الدستوري عبر انتخابات وإصلاحات سياسية واقتصادية، ثم ما عاشته البلاد من أحداث وهزات ومخاوف صحية بسبب وباء كورونا الذي ضرب العالم "وما يزال" ينتقل من موجة أولى مخيفة إلى ثانية أشد رعبا، كما خيبت "الشروق" آمال من كانوا يعتقدون أن الجريدة ستكون الضحية الأولى لرحيل علي فضيل، وبأنها ستختفي من الأكشاك أو تخذل قراءها الأوفياء يوما، لكن تلك الخطط كلها سقطت ولم يعد لها من وجود سوى في مخيّلة أولئك المرضى بنجاح الشروق والمهووسين باستمراريتها وريادتها.
ومثل الجريدة، استمرت قناة "الشروق تي في" ومعها "الشروق نيوز" في صناعة المشهد السمعي البصري على مدار سنة كاملة، فلم تنتظرا طويلا بعد رحيل الأستاذ علي فضيل من أجل لملمة الجراح، وتجاوز الأحزان والتمسك بالاستمرارية، لا بل إن "الشروق نيوز" وبعد الرحيل مباشرة، قررت أن تمارس مهنيتها بشكل كامل، فلم تنقطع عن تقديم المعلومة حتى في عزّ المحنة الشخصية ووجع الفقدان، ولأنها تحترم المشاهدين وتقدس خدمتها العمومية للجمهور، كان لزاما أن يتحول الحزن إلى اجتهاد وينقلب الوجع إلى عمل دؤوب وهو ما تم فعلا مع طاقمي "الشروق تي في"، و"نيوز"، حيث استمرت القناتان في صناعة صورة رائدة، تمت ترجمتها عبر برامج تحترم العائلة الجزائرية، ولا تتراجع عن مبدأ المهنية والاحترافية والمصداقية… برامج راقية، وأخبار حصرية، وترفيه هادف، ناهيك عن حصص اجتماعية وخيرية ورياضية ومتابعة مستمرة لوباء كورونا، واهتمام بما يشهده العالم، ومن قبله الجزائر، في مسارها المتحرك، هكذا كانت الشروق بقناتيها وهكذا تم التعهد من الجميع على أن تستمر وتبقى.
واليوم مع استمرار المجمّع بعمله وعماله، وتحت إدارة العائلة من الإخوة والأبناء الذين حفروا إسم وذكرى علي فضيل في قلوبهم قبل "وثائقهم وهوياتهم"، ندرك تماما أنهم ورثوا عن الرجل تلك الوصفة السحرية، ورثوا حلما لا يجب التخلي عنه ومشروعا لا يمكن التفريط فيه، ورثوا "شروقا" لابد أن تبقى أبدا، وأن تضيء شمسها أكثر وأكثر.
هل رددنا الدين يا أستاذ علي؟
قبل ثلاثين سنة من الآن، وفي خضم الانفتاح الإعلامي والسياسي الذي عايشته الجزائر بعد أحداث أكتوبر، وقد كنت لا أزال وقتها طالبا جامعيا في العلوم السياسية، أخذني شغف الكتابة إلى محاولة كتابة مقال عن واقع الشباب الجزائري، وصادف أن حدثني زميلي رشيد فضيل الذي كان يدرس معي في نفس القسم، عن ميلاد أسبوعية الشروق العربي، وعن إمكانية الانضمام إليها، فتوجهت بمقالي الأول ذاك إلى مقر الجريدة الوليدة بحيدرة، لأجد أمامي الأستاذ علي فضيل مستقبلا، وما إن اطلع على المقال حتى قرر فورا برمجته في العدد الموالي، مع منحي ركنا ثابتا بالجريدة سماه المرحوم بنفسه "منشاريات".
كانت المفاجأة كبيرة بالنسبة إلي، فلم أكن لأحلم بأكثر من نشر المقال تشجيعا، غير أن إصرار المرحوم علي فضيل على توظيفي مباشرة ومنحي ركنا ثابتا بالجريدة قام بنفسه بتسميته والسهر على بروزه، أخلط جميع أوراقي، ومما حكاه لي الكاريكاتيريست الكبير عبدو أيوب، أن الأستاذ علي فضيل، جاءه بعدها مباشرة إلى مكتبه بجريدة الخبر بدار الصحافة طاهر جاووت، وطلب منه رسما كاريكاتوريا خاصا بالمقال الذي كتبته، وقد أصر عليه أن ينجزه بسرعة فائقة، حتى يتمكن من نشره مع مقالي في أول ظهور لركن منشاريات، وقد استجاب الزميل عبدو للطلب وصدرت الجريدة بعدها بيومين بالشكل الذي أراده الأستاذ علي، وأنا لا أكاد أصدق ما يحدث.
ظل هذا الدين الذي ألزمنيه الأستاذ علي معلقا في رقبتي طوال عمري.. وقد شعرت بعدها مباشرة، بأنني مطالب برد دين هذا الرجل العظيم، هذا الذي لم يكن يعرفني من قبل، لكنه آمن بموهبتي مباشرة بعد أول سطر قرأه مني، ولم أعرف كيفية رد الجميل، غير أن أكون شروقيا دائما متى استطعت، أين أمضيت سنواتي الأولى في الصحافة مواظبا على تقديم ما لدي من طاقة وجهد لصناعة نجاح "الشروق العربي" وتميزها، وبالفعل لم تمض فترة طويلة حتى تبوأت الأسبوعية مكانة مرموقة جدا ليس على المستوى الوطني وحسب، بل وعلى المستوى العربي، حين راحت تنافس في بديات التسعينيات كبريات الصحف العربية، كالأهرام، في عدد السحب، غير أن ذلك لم يكن بأي ثمن، بعد أن تولى الأستاذ علي مهمة قيادة كوكبة من الإعلاميين الشباب، وتوجيههم ناحية قضايا كانت من الطابوهات أو المسكوت عنها، ليس في الجوانب الاجتماعية والفنية فحسب، بل إن الشروق العربي كانت المنبر السياسي الأبرز، وصاحبة الصوت الأعلى والأكثر شرفا في مرحلة ما بعد توقيف المسار الانتخابي في الجزائر.. حينها توالت هجمات المنظومة الحاكمة، بقيادة أحمد أويحيى، على الجريدة، ومما أذكره عمليات الاعتقالات المتتالية لطاقم الجريدة لكسر شوكتها وترهيب أفرادها، وإذ أنسى فلا يمكنني أن أنسى أبدا، يوم تم اعتقال الأستاذ علي فضيل، وعدد كبير من الزملاء الصحافيين، وقد وصلتني وصية الأستاذ علي بضرورة استكمال العدد الذي كان يقترب موعد طباعته، فاضطررت إلى الهروب وإكمال العدد في غرفة من غرف أحد الأحياء الجامعية، قبل أن أسلم نفسي لفرقة الدرك الوطني ببوزريعة، بعد أن أقام لي الزملاء في المقر مأدبة وداع مؤثرة .
لقد كان علي أن أرد بعض الجميل الذي غمرني به الأستاذ الكريم، ولم يكن يهمني أن أدخل السجن، أو أن أكون مهددا بالقتل من الإرهاب، وقد دفعت الشروق ثمنا باهظا من طاقمها الصحفي والإداري الذين اغتالتهم أيادي الغدر والإرهاب، فلقد ظل الأمر بالنسبة إلينا ونحن نحتمي بهيبة الأستاذ علي، تحديا أكبر من مجرد خوض معركة عادية، إنها معاركنا المصيرية التي خضناها دائما معا، حتى وقرارات توقيف الجريدة تنزل علينا بعدها كالصاعقة، استمرت الشروق الأسبوعي في شكل مجلة، واستمررنا في محاولاتنا الحثيثة لرد الدين الجميل علينا، ولو بالعمل دون أجرة لعدة شهور، إدراكا منا للظروف الصعبة التي تمر بها الجريدة.
لكن، يأبى الأستاذ علي، إلا أن يكون أكبر من كل تضحياتنا، يأبى أن تسقط أفضاله علينا بسهولة، وما إن تراجعت الضغوط عن الجريدة، حتى ناداني وقد كنت وقتها في باتنة، وعرض علي رئاسة تحرير الشروق العربي، مكررا جملته التي يرددها دائما على مسمعي: "أنت ابن الشروق يا حسان، والشروق اليوم في حاجة إليك"، ومما أذكره أنني كنت أريد أن أقول لا.. لا يمكنني أن أعود إلى العاصمة.. لكن وجدتني أردد: حاضر يا أستاذ.. أنا في الخدمة.. لتمضي بعدها سنوات من الحب والعطاء، قبل أن تأخذنا الدنيا إلى آفاق أخرى، وينقطع تواصلي بالشروق وبالأستاذ علي سنة 2001.. ليرن هاتفه مجددا عام 2005، وأفاجأ بنفس الطلب وأنا في باتنة مجددا، الشروق تحتاجك يا حسان، رئيسا لتحرير "اليومي" هذه المرة، ومرة أخرى كنت سأقول لا.. لا يمكنني العودة إلى العاصمة.. غير أن صوتا من الداخل رد عليه: حاضر يا أستاذ.. فإن الدين الذي على عاتقي تجاهك أكبر من كل تضحية، وبفضل الله وقيادة الخبير الكبير، علي فضيل، وهمة الجميع، أشرقت أنوار الشروق اليومي في بداياتها الأولى، وحققت نجاحا عظيما قبل أن أقدم استقالتي لأسباب يعلمها الجميع، وأشهد الله أن الأستاذ علي ظل يرفضها إلى أن أصررت عليها بشدة، ورغم المواقع والمنابر التي توليتها بعد ذلك، ظلت الشروق ودين الرجل الكبير علي فضيل يطاردني، إلى أن اندلع الحراك الشعبي المبارك مؤخرا، ويهاتفني أخي الحاج رشيد فضيل يخبرني أن الأستاذ علي يطلب مني شخصيا أن أكتب ولو من بعيد إسهاما في صناعة وعي حراكي جماهيري جديد، ولم يكن بوسعي إلا أن أستجيب، وقد تزاوج في مخيلتي دين الرجل العظيم علي، ودين الوطن الذي نبتّ في أرضه، فكانت مقالات الحراك آخر محاولاتي لرد دين عمره أكثر من 30 عاما، لرجل يغمرك بالعطاء، فتستحي عمرك كله أن ترفض له طلبا.
فهل رددنا الدين، الأستاذ علي؟ أتمنى أن نكون قد وفقنا في رد ولو جزء بسيط منه.
رحم الله سيد الابتسامة البريئة، إذا ما دخلت إلى مكتبه تشتكي وجع الرأس، خرجت من عنده وقد شفيت من شدة الضحك على الدنيا الفانية.
لم يترك مجالا إعلاميا إلا وطرق بابه بنجاح
هكذا بنى علي فضيل أكبر صرح إعلامي في الجزائر
قد يكون ألم الفراق موجعا، ولا يمكن للسنوات أن تكفكفه، خاصة إذا كان الراحل عنّا بحجم رجل جمع بين الأخلاق وقوة الحضور والثقافة العالية والذكاء الذي امتلكه الإعلامي الكبير، علي فضيل، موهبة واكتسابا، ولكن، إذا نظرنا إلى ما حققه من إنجازات إعلامية متميزة، نكاد نجزم بأن رسالة الرجل الإعلامية والاجتماعية اكتملت، حتى قلنا له في قبره: مرحى وطوبى لك، فقد كنت على الدوام عنوانا للنجاح، مهما كان نوع هذا المجال، سواء كان ورقيا أم إلكترونيا أم سمعيا بصريا.
بمجرد أن ظهر بصيص من الأمل لخوض الجزائر الصحافة الحرة، بعد سنوات الأحادية العجاف، حتى ودّع الأستاذ، علي فوضيل، في قمة عطائه وعنفوانه العملي والشبابي الجرائد العمومية، التي كان مُسيرا ورئيس تحرير فيها من الشعب إلى المساء، وبثقة بالنفس، أبرق إلى الجزائريين المشتاقين إلى الإعلام الحر، أول عدد من "الشروق العربي"، في ربيع 1991، عندما كانت الجزائر تعيش شتاء أمنيا، بأعاصيره ورعوده الدامية، التي غرقت فيها.. لم يكن الأمر هيّنا، ولكن الذين مازالوا يذكرون صيحات "الشروق العربي" وأقلامها الرصاصية، يشهدون على أن الصحافة الحرة في الجزائر بدأت كبيرة.. بل كبيرة جدا، بفضل عدد من الصحف، ومن بينها "الشروق العربي".
ولو عددنا الأقلام التي باشرت العمل وتعاملت مع "الشروق العربي"، وقادت بعد ذلك وسائل إعلام عربية وحتى غربية، لأحصينا قرابة الخمسين من رجال ونساء، بعضهم احترف مهنة المتاعب في دول الخليج، وآخرون جاوروا الأهرامات الثلاثة، وآخرون مازالوا إلى حد الآن يصنعون ربيع بعض الصحف والتلفزيونات، وحتى المواقع الإلكترونية في البلاد الأوربية.
كان الجزائريون ينتظرون نسخ أسبوعية "الشروق العربي"، بما يشبه الظاهرة الثقافية والاجتماعية، فقد كانت "الشروق العربي" أول صحيفة في تاريخ الجزائر تطرق باب العائلات، وتلامس الأيدي الناعمة للجنس اللطيف، وبين الفن والآهات الاجتماعية، وأخبار نجوم الكرة، كانت "الشروق العربي" تعجن بإتقان طبخات سياسية، فجرت الكثير من الأقلام، حتى نكاد نجزم بأن كل من له حاليا عنوان إعلامي أو قناة تلفزيونية أو شرفة إلكترونية يطل منها، كان تلميذا تخرّج من مدرسة "الشروق العربي"، التي مازالت تطلّ إلى حد الآن على قرائها في شكل مجلة باهية الشكل والمضمون، وستحتفل في شهر ماي القادم بعيد ميلادها الثلاثين، لتكون الوسيلة الإعلامية الورقية الأكثر صمودا من بين كل وسائل الإعلام في الجزائر، ولم يحدث أن غادر اسم شروقي المؤسسة، إلا لأجل تأسيس عنوان آخر، أو ليتبوأ مكانا مرموقا في عالم مهنة المتاعب، الذي تحوّل إلى مهنة الألفة والمتعة والطمأنينة، مع الراحل، علي فضيل.
عانت "الشروق العربي" من الحواجز السياسية المزيفة، وكان في غالب الأحيان الوزير الأول السابق، أحمد أويحيى، هو من يضع هذه المتاريس، فقد كان يريدها جزءا من قاطرة الاستئصال، وكانت تريد النور مثل اسمها، وتمكن بقوة ما يملكه حينها من سلطة، من نسف حلم جميل كان يصحو عليه وينام عشاق الحرف العربي، إلى أن ظهرت "الشروق اليومي"، في نوفمبر من سنة 2000، لتكمل المسيرة، وتبلغ أيضا في ظرف وجيز عمر النضج وصناعة الحدث، بالدفاع عن ثوابت الأمة، قبل أن تحطم كل أرقام السحب في شتاء 2009، عندما بلغ سحبها المليونين، ولم تكن حينها الأهرام المصرية، تسحب أكثر من ثلاثمائة ألف نسخة.
أتمّ الراحل، علي فضيل، نجاحاته الإعلامية من خلال الموقع الإلكتروني ل"الشروق اليومي"، الذي حاز عديد الجوائز على المستوى العربي، واحتل المركز الثاني عربيا، من حيث التأثير والمتابعة، وبصم على وجوده في المسابقات العربية الكبرى.. ولولا الطعنات الغادرة التي كانت تتلقاها "الشروق اليومي"، بين الحين والآخر، من نفس الأعداء، لنافست كبريات الصحف العالمية، وتفوقت عليها، ليس من حيث السحب اليومي، وإنما من حيث قوة تأثيرها، بعد أن صارت مواضيعها وسبقها الإعلامي وأقلامها مرجعا وصانعة للحدث، تقدم نموذجا راقيا يفتخر به كل الجزائريين الذين تابعوا بكثير من العزة معركة "الشروق اليومي" أمام أوزان الإعلام الثقيلة في مصر، في نهاية سنة 2009 وبداية سنة 2010، عندما ركبوا موجة توريث في بلادهم، على حساب مقدسات الجزائر، على خلفية خسارة الفراعنة مباراة في كرة القدم، كان الفوز فيها انتصارا سياسيا لحاكم مصر في ذلك الوقت، واعترف كبار الإعلاميين في مصر بعد أن وضعت تلك الحرب الإعلامية أوزارها، بأن "الشروق اليومي" خاضت المعركة باحترافية ورقي جعلا كل القوى الإعلامية العربية في الشام والخليج والمغرب العربي وحتى في مصر نفسها، تقف إلى صفها، وتعترف بنبل وأخلاق أقلامها وثقافتهم وذكائهم الإعلامي.
كان الأستاذ علي فضيل في أيام هذه المعركة يتنهد ويقول: "ليت الإعلام السمعي البصري في الجزائر أفسح لنا المجال لنطير مع الطيّارين دفاعا عن الجزائر"، ولم تمر سوى أشهر قليلة حتى بزغت فرصة أخرى للتحليق عاليا في عالم الإعلام العصري، فكانت قنوات "الشروق" التي كان عليها أن تكون المدرسة والجامعة ومكان التخرج والعمل في نفس الوقت لشلة من الصحافيين، الذين خاضوا التجربة تحت إشراف الأستاذ الموهوب علي فضيل، الذي كان كلما حقق نصرا إعلاميا إلا ودخل معركة إعلامية جديدة، غير معترف بما يسمى باستراحة المحارب، وفي كل محطة، تتكرر نفس الحكاية، فكل المغادرين من وجوه قنوات "الشروق"، البيت الكبير، إنما لقيادة تجارب أخرى، بذخيرة حصلوا عليها من المدرسة التي تقدم من دون توقف.
الآن، وقد مرّت سنة دامعة برحيل فارس الإعلام الأول في الجزائر، ننظر يمينا وشمالا، وفي كل مكان، فنجد صدى الرجل أحرفا ذهبية في "الشروق اليومي" وربورتاجات هادفة في "الشروق العربي"، وفضاء لامعا في تلفزيونات "الشروق" ومواقعه الإلكترونية، وفضاءاته الملوّنة.
سنة دامعة وحالمة من عمر أهل "الشروق"، أكملوا فيها مسار الألف ميل، وزادوا أميالا أخرى، ولن يكون لهم راحة بال ولا طمأنينة، إلا بالمحافظة على الإرث الثقيل، الذي تركه أخ وصديق عزيز، افتقدوه جسدا، ولكنه بينهم في قاعات التحرير، وفي مختلف الأقسام، وفي الذاكرة، وحتى في خرجاتهم الميدانية، وهم يحاورون المعذبين والمظلومين في الأرض، من أبناء الجزائر.
يختلط الدمع بالحبر وبالعرق، عندما نخطّ كلمات للذكرى، عن رجل بنى مؤسسة عملاقة لا تغرب عنها شمس المعارف والمصداقية، ولكن العزاء يبقى في صمود هذه المؤسسة، التي تمتلك شهداء ورموزا وأوفياء وقائدا خالدا.
المسيرة تتواصل بنفس جديدة
علي فضيل لم يمت.. روحه حاضرة مع أسرته وموظفيه
عام كامل ينقضي على رحيل المرحوم علي فضيل، مؤسس مجمع "الشروق" الإعلامي وروحه النابضة.. عام مرّ حزينا كئيبا مظلما على أسرته وأهله وأحبائه وموظفيه.. غاب فيه المرحوم جسدا، لكن روحه بقيت حاضرة في كل الأركان والزوايا وفي كل شبر من مؤسسات المجمع الذي ترك فيه أثر طيبا يتحاكاه الجميع.
وعلى مدار هذه الفترة حاول جميع الشروقيين مواصلة المسيرة ورفع التحدي عاليا لتمكين المجمع من الحفاظ على ريادته ومكانته الأولى وطنيا بأنفاس جديدة مسحت فيها العائلة المسيّرة الدموع وشقت طريقها للعمل، فكان لأبناء الراحل وإخوانه مسؤولية كبيرة في استلام المشعل والمضي قدما بالمجمع.
بعد عام.. علي فضيل لا يزال في مكتبه
دخلنا غرفة المكتب الفسيح للرئيس المدير العام للشروق التي تضم طاولة اجتماعات كبيرة ومكتبا خاصا فإذا به أوّل من استقبلنا ببشاشته المعهودة.. صورته أول ما يقع على العين ومكتبه لازال يحتفظ بأوراقه وملفاته وبلافتة ذهبية تحمل اسمه.. إلى جانب اسم ابنته سلسبيل، حتى أشياءه الخاصة ووشاحه الذي كان معلقا على حامل المعطف إلى جانب وشاح الجزائر التي سكنته إلى آخر أنفاسه.. كل شيء ظل وفيا للرجل في عين المكان وكل شيء يوحي لك بأن علي فضيل لا يزال موجودا في مكتبه وروحه حاضرة مع الجميع.
بثينة فضيل: كنا مجبرين على الاستمرارية ونستمد طموحنا من والدنا
ترى بثينة فضيل البنت الكبرى ومديرة البرمجة على مستوى القناة أنّ الاستمرارية في تسيير مجمع الشروق وحمل المشعل كانت إجبارية ولا اختيارية فالظرف والوضع والإرث الفكري والإعلامي يحتم ذلك، وقالت بثينة: "كنا ندرك جيدا أن ما ينتظرنا ليس سهلا أبدا وأنه محفوف بالعراقيل والصعوبات والمضايقات، لكننا في كل مرة نحاول تفادي الوقوع في الأخطاء لأن أعداء النجاح يترصدون في كل مكان وفي كل حين، وكان لنا في احتكاكنا مع الوالد فرصة لأن دم الإعلام في عروقنا ورضعناه منذ نعومة أظافرنا لذا حرصنا كثيرا على الاستثمار في طموحنا مستلهمين ذلك من طموح الوالد رحمه الله فنحن نتعلم منه الصمود والشموخ وروحه حاضرة معنا وبها نواصل المسير".
ولأنها الأخت الكبرى تقع عليها، كما صرحت به، مسؤولية كبيرة عائليا في احتواء ألم الإخوة ومساندتهم ودعمهم لبعض وكثيرا ما نواسي بعضنا لنتغلب على حزننا الذي لا يزال يسكن أعماقنا..
وتضيف بثينة: "حياتنا العائلية والمهنية تغيرت 180 درجة، فالعمل بات يأخذ من وقتنا الكثير لنثبت أننا أبناء رجل فريد ونستحق أن نكون كذلك وأننا على نهجه ودربه سائرون فقد اكتسبت في هذا العام بالممارسة تجربة سنوات لم أكسبها طيلة سنواتي السابقة تعلمت أيضا الصبر والتريث في التعامل مع الأفراد، وأن أقف على أدق التفاصيل لأن صورة الشروق وسمعتها تحت المجهر، خاصة في العمل".
سلسبيل فضيل: الحمل ثقيل لكننا سنكون على قدر المسؤولية
بكثير من التأثر تحدثت سلسبيل فضيل المديرة العامة لقناة الشروق عن رحيل والدها علي فضيل وكيفية استقبال الخبر الصاعقة، كما وصفته، وعن الأيام والأشهر الأولى من فقدانه حيث قالت "وفاة الوالد كانت صدمة كبيرة جعلتني أحس بالعجز وانتابتني أفكار يائسة برحيل أساس البيت والحضن الدافئ ومصدر الأمان وكأن الدنيا كلها توقفت ولم يعد لها معنى"
وأضافت: "بعد وفاة الوالد أصبنا بانهيار تام لقد نزل علينا خبر الموت كالصاعقة، غير أنني استمددت الطاقة من الوالدة حفظها الله.. هي من ضخت فينا القوة والطاقة الايجابية وحثتنا على الاستمرارية، فقد كانت تذكرنا دوما أن الشروق لم توجد في رمشة عين بل هي ثمرة سنوات كفاح ونضال وبناها المرحوم طوبة بطوبة وحفي لأجلها وليس من السهل التخلي عليها.. عندها فقط قلت انه يتعين علي ان ابذل قصارى جهدي لاحتفاظها بريادتها في الساحة الإعلامية."
وبنبرة الواثق من نفسه أكدت سلسبيل أنها رغم سنها ورغم استصغار البعض لكفاءتها إلا أنها خاضت التحدي ورفعته عاليا وهنا قالت: "لا أخفيك أنه مرات عديدة كنت أشك في أنّ شابة مثلي في ال 26 من العمر ستقدر على حمل ثقيل ومسؤولية كبيرة، خاصة وأن سيناريو حياة المرحوم كان يتكرر في مخيلتي في كل مرة مع ما فيه من كثرة الضغوطات، لكنني كنت أقوّي إيماني وأتوكل على الله وأستجمع نفسي وألملم حزني"..
ومع مرور الوقت والأشهر، اتضحت الرؤية ل"المديرة الصغيرة" وتعلمت وتكونت من خلال الممارسة ومن خلال استحضار جميع توجيهات والدها الذي كانت تحتك به مهنيا وتعود إليه في مختلف القرارات أثناء تسييرها للوكالة الإشهارية "ميديا سانس" وساعدها في ذلك، كما قالت، مؤهلاتها العلمية والمهنية.
والدتي وعمي الحاج رشيد أكثر من ساعدنا وشكرا لموظفي الشروق
عبرت ابنتا المرحوم علي فضيل سلسبيل وبثينة عن عميق شكرهما لعمال وموظفي المجمع الذين ظلوا أوفياء لذكرى المرحوم وذلك لمختلف أفراد العائلة والأهل والأحباب ممن أحاطوهم بالدعم والتضامن، كما عبرتا عن امتنانهما لوالدتهما وعمهما الحاج رشيد فضيل اللذين زرعا فيهما الأمل والثقة بالنفس لرفع المشعل ومواصلة المسيرة وتقول سلسبيل: "تعد الوالدة حفظها الله من جنود الخفاء من خلال تحفيزها ودعمها بالأفكار والتذكير دوما بعدم الفشل أو الاستسلام، إلى جانب توجيهات "عمي الحاج رشيد" الذي وجدت فيه السند والكتف الذي اتكأ عليه ويعينني ويرشدني حيث نتشاور دوما على أهم المسائل التي قد تشكل بالنسبة لنا حجر عثرة".
بدورها قالت بثينة إن والدتها كانت ولا تزال مصدر الطاقة التي تنبعث منهم وإنها تسهر على توجيههم وتشجيعهم ومساندتهم في أصعب الظروف وكلما تملكهم العجز أو الضعف إلى جانب العم رشيد فضيل الذي يقف إلى جانبهم باستمرار.
بثينة وسلسبيل: كنا نمسح الدموع ونلتحق بالعمل
بدأناها صعبة جدا ولم نكن نعرف من أين ننطلق ومن أين سننتهي لم نستطع الحزن براحتنا ولم يكن لدينا الوقت أصلا للحزن.. كنا نمسح دموعنا ونلتحق بالمكتب وصوب أعيننا هدف واحد "المحافظة على مرتبة الشروق رقم واحد "نامبر وان" باعتبارها اكبر قناة تحوز نسبة مشاهدة عالية".. هكذا ردت ابنتا الراحل علي فضيل سلسبيل وبثينة على استئنافهما العمل في مؤسسة والدهما حيث قالت بثينة: "لم يكن لدينا الوقت للحزن كنا نمسح دمعة ونمد خطوة للأمام، فالشروق إرث فكري وأمانة في أعناقنا ولا بد علينا أن نوصلها إلى أعلى المراتب". وأردفت شقيقتها سلسبيل: "أسهر الليل واعمل لساعات طويلة المهم أن أفرح المرحوم في قبره وأن تبقى الشروق في أعلى المراتب والحمد لله ظلت الشروق واقفة وستظل كذلك". وأضافت سلسبيل: "فعلا لم أتمكن من الحزن لأن المحافظة على الريادة لمجمع إعلامي بحجم الشروق يتطلب العمل والكد.. وبعد 3 أشهر بالتمام وبعد ضياع وتيه قررت بدعم من عائلتي أن ألتفت إلى مواصلة مسيرة الكفاح والنضال التي بدأها الوالد وكان لي في خبرتي المتواضعة في تسيير وكالة ميديا سانس فرصة لشق طريقي، كما أن احتكاكي بالوالد ونصائحه لي في كل مرة كان رصيدا إضافيا لي، فقد لقنني رحمه الله الإنسانية في التسيير وحسن التدبير في تسوية الخصومات وسوء المفاهمات، خاصة في مجال الإعلام والذهنيات المختلفة.. علمني رحمه الله كيف أفرق بين المحبين المخلصين وبين الخائنين اللئيمين.. وبعد فترة تعودت وتأقلمت مع الذهنيات".
سنحتفظ بالوصفة السحرية للمرحوم والتسيير الإنساني للمجمع
أكّد "خلفاء" علي فضيل أنّ صدق المرحوم ونيته الخالصة وصدقاته التي لم تكن تنتهي ولم يكن يعلم بها الغير.. هي سر نجاح المؤسسة وريادتها وتجاوزها لعديد الأزمات والصدمات، فأفكاره وتوجيهاته دوما تحضرهم ودوما تكون مصدر إلهامهم في قراراتهم إلى جانب توجيهات الحاج رشيد الذي تتم استشارته في كل الأمور المهنية وبعض من ذوي الخبرة المقربين، كما أكدته بنتاه سلسبيل وبثينة.
وتضيف سلسبيل: "المرحوم كان معروفا بطيبة قلبه وصدقه إلى أقصى درجة.. كان لا يخرج من مكتبه شخص متخاصم إلا وهو مبتسم ضاحك.. كان يعرف كيف يرضي الناس ويلين القلوب ونحن كما كان سنواصل نفس السيرة ونفس الدرب".
أمّا بثينة فتقول: "في كل مرة تصادفنا صعوبة اتخاذ القرار أو الحيرة فيه نتصور لو أن المرحوم كان معنا أي قرار كان سيتخذ ومباشرة نتعامل مع الأمر وفق المبادئ الأساسية الكبرى لتسيير الوالد رحمه الله".
وبالنسبة للمرحلة المقبلة فقد أفادت سلسبيل فضيل "هدفنا في الوقت الحاضر العمل على جودة التقنيات في الصورة والصوت والمضمون والديكورات وإثراءه، فالمنافسة شرسة وفي أوجها.. حاليا اهتمامنا وتركيزنا على المحتوى خاصة وأن شهر رمضان على الأبواب فنحن نفكر في برامج مناسبة ولائقة للعائلات الجزائرية لذا يجب العمل بجد وبقوة"
المدير العام للمجمّع الحاج رشيد فضيل:
"الشروق" وقْفُ علي فضيل في خدمة الدين والوطن والمواطن
بعد مرور عام من رحيل القائد المؤسس لمجمع "الشروق"، الأستاذ علي فضيل، عليه شآبيب الرحمة والرضوان، يسترجع المدير العام، الحاج رشيد فضيل، بقدر كبير من الصبر والاحتساب والأمل، شريط الذكرى الأليمة والفاجعة الكبرى التي رُزئت بها العائلة والمؤسسة والأسرة الإعلامية الجزائرية والعربية، بفقدان ركيزتها الوثقى وأحد أعمدتها الصلبة على مدار أربعين عاما من العطاء والاحترافية والتأسيس لتجارب صحفية رائدة وطنيا إقليميا.
وبنرة لا تزال خشخشة الحزن تخنقها، قال الحاج رشيد فضيل " لقد كان خبر وفاة الراحل علي فضيل صدمة لنا جميعا، تأثرت به الأسرة الصغيرة ومؤسسة الشروق على السواء، فقد ترك فراغا كبيرا في كليهما، لكن إيماننا بالله وبأنّ ما أصابنا لم يكن ليخطئنا وأن أجل الله إذا جاء لا يقدم ولا يؤخر، منحنا القوة للصبر والتحمل، وربط على قلوبنا".
وفي مقابلته معنا، يستحضر الحاج رشيد فضيل تلك الهبة التضامنية الشعبيّة والرسمية والنخبوية التي عبّر عنها الجزائريون في ربوع الوطن وعبر القارات الخمس من الجالية الوطنية بالخارج، وهو يعربون عن خالص مواساتهم، ويجسدون تعاطفهم بالزيارات والمكالمات والرسائل، حيث عرف مسقط رأسه بمنطقة بئر أغبالو جنازة حاشدة غير مسبوقة لدى أهلها، تداعى لها الناس من كل صوب وحدب، ليشهدوا لحظات الوداع الأخير من كلّ فجّ عميق، في يوم مضطرب جويّا، بكت فيه السماء مطرا غزيرا حزنًا على رحيل الفقيد.
تلك الصور الإنسانيّة التي عكست محبة الرجل في قلوب الجزائريين وتقديرهم لمساره الإعلامي الحضاري الوطني القومي، ودوره في التعبير عن هموم البسطاء والوقوف إلى جنب الفقراء منهم، أفرغت صبرا جميلا، يقول الحاج رشيد، على قلب العائلة، وهي تتلقّى سيل الإشادات بمناقب عزيزها وآثاره الحسنة في كل مكان، وتتسلّى بالدعوات المباركات لفقيدها بالمغرفة والفردوس الأعلى في جنان الخلد، وهو ما شحذ همتها، برغم الوجع ولوعة الفراق، على مواصلة رسالة المرحوم في خدمة الحق ونقل الحقيقة، على حدّ تعبيره.
ولأنّ التسليم بالقضاء والقدر ينتصر عند أهل الإيمان على محنة المصاب الجلل، فقد تسلّحت قيادة الشروق الجديد بعزيمة من حديد وهي تتحمّل مسؤولية ثقيلة في اعتلاء مقام شخصية كبيرة في المشهد الإعلامي العربي، بوزن وتجربة وسمعة المرحوم علي فضيل.
وبهذا الصدد، يؤكد الحاج رشيد فضيل، أن الرهان الكبير كان هو الحافظ في فترة عصيبة على ذاك الصرح الشامخ، في مواجهة مؤامرات وضربات وموت مبرمج طال المجمع في عهد العصابة البائدة، عبر التضييق الخانق الذي لازم المؤسسة بكل فروعها طيلة أربع سنوات، كان من أهم نتائجه تجويع أكثر من ستمائة عائلة، وإثقال كاهل المجمع بالديون، وتجفيف جميع منابع التمويل، ضف إلى ذلك المنافسة غير الشريفة من زملاء وقنوات لعبوا أدوارا قذرة في مرحلة من المراحل ولا يزالون، بالوشاية الكاذبة وتشويه صورة المجمع وعماله لدى المسؤولين، ولكن الحمد لله "تمكنا من تجاوز كثير من تلك العقبات بل وتقدمنا أشواطا في تثبيت مكانة الشروق، جريدة، وقناة، في صدارة المشهد الإعلامي في الجزائر"، مثلما يوضح المتحدث.
وبعد عام من رحيل مؤسسها وقائدها الروحي والشرفي الذي يبقى حاضرا فيها بمكتسبات ثلاث عقود من التجربة والعطاء والبذل والتضحية والاستثمار بلا حدود، ها هي "الشروق" لا تزال تتربع على ريادة الإعلام وطنيا وحتى مغاربيّا، داحضة ادعاءات المغرضين والحاقدين الذين كانوا يمنّون النفس المريضة بأفول نجمها الساطع في الآفاق، لكنها اليوم تمضي قُدمًا كقضاء الله وقدره لا تلوي على شيء، تواصل مسيرتها كما خطّها ورسمها المرحوم، ضميرًا صادقًا للشعب، وصوتا مخلصًا للوطن، خادمة للثوابت ومنافحة عن المبادئ بكل وطنيّة وحرفيّة وموضوعيّة، بعيدا عن الشطط الإعلامي بين الإفراط والتفريط، وفق تعبير الحاج رشيد فضيل.
وعن الرؤية المستقبليّة وخارطة الطريق لمراكمة التجربة والسمعة العربية لمجمع "الشروق"، يشدد المدير العام على أنّ الأولويات الدائمة والأساسيّة هي تثمين الإنجازات الكبيرة التي حققها المرحوم علي فضيل، بتدعيمها وترسيخها في القناة والجريدة، ثم الإبداع والابتكار والتجديد في كل ما يقتضيه الاجتهاد، من حيث الشكل والمضمون ومسايرة التطورات التقنية الحديثة، خاصة في ما يتعلق بالصحافة الرقمية، حيث سيكون من أهم الرهانات القادمة هو ضمان تنفيذ تحوّل رقمي لجريدة وقناة "الشروق" وبناء منصة رقمية قوية، تترجم مكانة "الشروق" في المشهد الإعلامي العربي.
أمّا عن رسالة قيادة "الشروق" إلى طاقمها الرائع في مختلف فروعه، ولجمهورها العريض، في الذكرى الأولى لوفاة الأب الروحي للمؤسسة، والذي ترك أمانة كبيرة في ذمتهم فردا فردا، لأنها لم تعد ملكا عائليا ولا عماليّا، بل هي مكسب وطني حضاري مجتمعي مستدام، فضل مديرها العام الحاج رشيد فضيل، توجيه تحية خاصة وخالصة لكل عمال مجمع الشروق على صبرهم في الشدائد والأزمات، التي مررت بها المؤسسة، مكبرا فيهم مواقفهم البطولية التي سطروها على مر الأيام، و"يحق لنا جميعا أن نفتخر بهذه الإطارات التي كوّنها المرحوم على مدار عشرات السنين، وهي التي تقود اليوم مسيرة الوفاء والنجاح".
كما توجه الحاج رشيد فضيل بالشكر والتقدير لكل شركاء المجمع التجاريين الذين لم يتأثروا بحملات التشويه والتشكيك، مواصلين العمل مع المجمع، وهم اليوم أصدقاء في النجاح، متعهدا لجميع محبي "الشروق" بمواصلة مسيرة المرحوم، لنؤسس لمشهد إعلامي مهني ومحترف بعيدا عن صحافة الاستفزاز والابتزاز. سفيان.ع
ذكريات مع الراحل
منذ سنة خلت نُكبت الأسرة الإعلامية في الصديق والزميل علي فضيل، أحد رواد الإعلام الخاص. رحل الفقيد في ذروة التألق في مهنة المتاعب وهو في أقصى درجات الحيوية والاستعداد لمزيد من العطاء، على رأس مجمع إعلامي، الذي كان الأقرب لصوت الشعب وروح الجزائر العميقة. عندما التحق علي فضيل بمهنة المتاعب، كنت في رئاسة تحرير الشعب. استلمت المؤسسة طلبه في 15 نوفمبر 1981، وتم توظيفه بقرار في 14 ديسمبر الموالي ابتداء من فاتح يناير من العام الجديد "على أساس مستواه الثقافي".
من ذكرياتي العابرة عنه في صحيفة الشعب:
اعتقاله نفس السنة في حادثة بن عكنون خلال خصومة سياسية بين الطلبة، اعتقال يكشف عن التزام مبكر بقضية: لم يكن على الهامش"حشيشة طالبة معيشة". ولحسن الحظ أفرج عنه بعد حين إثر تدخل إدارة المؤسسة.
في نوفمبر من نفس السنة خضنا – صفا واحدا- انتخابات اتحاد الصحافيين في مؤتمره الرابع – والأخير، فكان لمندوبي الشعب شرف الفوز بالأمانة العامة للاتحاد.
أجرى في مناسبة تاريخية تحقيقا حول معركة زمرة، لم يكن الموضوع نمطيا حسب الممارسة السائدة، هذه المعركة خاضها جيش بن لونيس، لا جيش التحرير الوطني. ولم تكن هناك رقابة صارمة، فنشر التحقيق. وكان الرد فوريا من منظمة المجاهدين، ومن الولاية السادسة خاصة. وقد تحملت رئاسة التحرير المسؤولية، ولم يتعرض المحقق الشاب لأي أذى. وفي غضون 1990 قرر النظام القائم فتح المجال الإعلامي، فوضع صحافيو الإعلام الواحد أمام خيارات ثلاثة، إما البقاء في القطاع العمومي، أو خوض تجربة الإعلام الخاص، أو الالتحاق بعنوان حزبي. وخلال فترة قصيرة أسس علي فضيل دورية بالتعاون مع جمعية سياسية، لكن ما لبث أن اختار تأسيس أسبوعية الشروق العربي الرائدة.
ونحن أيضا اخترنا في البداية تجربة الإعلام الخاص، وكونا فريقا من نحو 10 صحافيين، واخترنا لمشروعنا عنوان "الأمة". لكن لم نجد متسعا لهذه اليومية، لأن حكومة حمروش -آنذاك- كانت اختارت تجربتها "النموذجية "– المدعومة- بعناوينها الثلاثة: الوطن، لوصوار، الخبر. وقد عرفنا بعد ذلك أنه كان هناك سبب آخر، هو التحفظ على الفريق الذي كان من بين عناصره سعد بوعقبة، وبشير حمادي، ومحمد عباس.. وآخرون.
هكذا وجدنا أنفسنا في عنوان عمومي باسم "السلام"، في دار الصحافة -الثانية – بالقبة ؛ بعد أن سارعت عناوين التجربة "النموذجية" باحتلال الدار- الأولى- في ساحة أول مايو. وأصبحنا جيران الشروق العربي. اقتنت يوميتنا تجهيزات حديثة متكاملة، فوضعت جهاز النحت الضوئي خاصة في خدمة جارتها الأسبوعية، بمقابل أخوي على أن تدفع متى استطاعت.
وعاشت السلام – مثل الشروق- محنة توقيف، دامت سنة كاملة، إذ كان قرارا تعسفيا من حكومة رضا مالك الذي وضع هذا الإجراء –العبثي- على رأس أولوياته. وفي هذه المحنة وجدنا مدير الشروق إلى جانبنا، لم يكتف بتوقيع لوائح التنديد معنا، بل فتح لنا صدر أسبوعيته للدفاع عن قضيتنا، واستنكار التعسف في حقنا.
وأثناء مرحلة التفكير في إصدار يومية الشروق سنة 2000 عرض علي الفريق المؤسس مشكورا أن انضم إليه، فاعتذرت – آسفا – لأسباب مادية. وقد استكتبني الإخوان في العدد الأول حول إشكالية إصدار عنوان جديد، فعبرت عن رأيي باختصار قائلا "إن الساحة الإعلامية – التي تعج بكل ما هبّ ودبّ ما تزال بحاجة إلى منبر، يعبر عن الأغلبية المغمومة بإيمان وصدق"، ومن خلال ركن التاريخ واكبنا اليومية الجديدة منذ البداية، وكانت انطلاقة قوية، جعلتها تحتل مكانة متميزة في وقت قياسي. لقد ساهمنا أيضا في تنشيط ركن "أقلام الخميس"، ثم زاوية "نيشان".
وبعد إطلاق تلفزيون "الشروق" ورغم معرفة مجمع "الشروق" بمواقفي وجرأة التعبير عنها منحني فرصة إعداد وتقديم حصة يومية بعنوان "التاريخ يتحدث" على مدى سنة كاملة.
كنت بالخارج عند سماع فاجعة وفاة علي فضيل في مدينة كان… تألمت وتأسفت لأن الراحل كان لا يزال في أوج الاستعداد لمزيد من العطاء المفيد، ولأن جدارا أساسيا اهتز في المنظومة الإعلامية الوطنية… أملي في هذه الذكرى الحزينة ذكرى رحيل صديق عزيز وإعلامي بارز، أن تحرص أسرته وإخوته على صيانة هذا الجدار الأساسي، ليبقى مجمّع "الشروق" منارة لصوت الشعب، صوت الجزائر العميقة.
علي فضيل… المؤسس والمبتكر والمبدع
مدرسة جديدة في إدارة وقيادة المؤسسات الإعلامية
ذات خريف من سنة 1977 توجه إلى الجزائر العاصمة بعد نجاحه في شهادة البكالوريا. جاء من بئر غبالو، ذلك المجتمع الريفي بعادته وتقاليدة إلى العاصمة حيث استقر به المشوار في الحي الجامعي طالب عبد الرحمن بإبن عكنون. سجل في معهد العلوم السياسية والإعلامية وتخصص في التنظيم الإداري. عرفت دفعته (1977-1981) تنقلات ومحطات مختلفة بسبب تعدد مقرات وقاعات الدراسة حيث تعددت أماكن التدريس من جاك كارتتي إلى العربي بن مهيدي إلى كلية الحقوق بابن عكنون إنتهاء ب الليسانيات ل ITFC حاليا. من زملاء الدفعة المرحوم صالح قيطوني والمرحوم العاقل ياسر وعمر قيطوني ونور الدين بوزيان ومخلوف زرطيط وبوعلام رمضاني وصالحي حمود وزاوية محمود وخلية عبد الحميد وأحمد بيوض…كان بسيطا طموحا مثابر وملتزم شغوف بالعلم والمعرفة . كريم مخلص يحب الجميع ويحب مساعدة الفقراء والمساكين.أنهى دراسته وعلى خلاف تخصصه توجه لمهنة المتاعب وعمل صحافيا حيث ألتحق بجريدة الشعب سنة 1982 وعمل في الإذاعة الوطنية وجريدة المساء قبل أن يؤسس "الشروق العربي". صال وجال في دروب الصناعة الإعلامية في الجزائر تعرف على خلجانها ودروبها. ما يحسب للراحل وما يسجله له التاريخ بحروف من ذهب هو مهاراته الإدارية والقيادية حيث أستطاع أن يؤسس أكبر مجمع إعلامي في تاريخ الجزائر.
الجزائر التي كانت تفتقد لثقافة المجمعات الإعلامية وثقافة الاستثمار في المجال الإعلامي. المرحوم علي فضيل أستطاع أن يؤسس لثقافة جديدة ولإعلام متنوع وفتح المجال للطاقات الشابة لتوظيف مهاراتها وتفوقها في الميدان. في ثقافة الصناعة الإعلامية عندما نتكلم عن مجمع هذا يعني إمكانيات مادية معتبرة، مقرات، كوادر بشرية متميزة ومنتج إعلامي متنوع ومتميز يستجيب باستمرار لاحتياجات الجمهور. رؤى واستراتيجية المرحوم علي فضيل جاءت في الوقت المناسب لأن الجزائر والقارئ الجزائري والشعب الجزائري بصفة عامة كان بحاجة إلى إعلام جديد، أسلوب جديد في إدارة المؤسسات الإعلامية والخروج من ثقافة الإعلام الحكومي الرسمي الذي كان بعيدا كل البعد عن هموم وانشغالات المواطن الجزائري. إعلام أعادي عمودي من السلطة إلى الجماهير، يغلب عليه الروتين والرسميات وخطاب السلطة الذي انشرخت أسطوانته منذ عقود خلت. إعلام رسمي كان شغلة الشاغل هو "شرعنة" السلطة ونقل رسائل إلى عامة الشعب. رؤية المرحوم كانت تختلف تماما حيث أنتهجت أسلوبا وطريقة تختلف عما تعود علية الشعب لعقود من الزمن. منهجية المجتمع تعطي التنوع وتوفر التوجه إلى قطاعات مختلفة من الجمهور وتعطي إمكانية الاهتمام بالمجالات المختلفة في الحياة اليومية للمجتمع. وهذا يعني أن المجمع بإمكانه التوجه إلى المرأة وإلى الشباب وإلى كبار السن والأطفال. كما أن فكرة المجمع توفر الإمكانيات للاهتمام بالسياسة والرياضة والاقتصاد وقضايا المرأة والثقافة والمسرح. من جهة أخرى نلاحظ إهتمام المجمع بالقرى والمداشر ومناطق الظل التي لم تتغير أحوالها منذ عقود من الزمن ولم ينظر إليها إعلام السلطة الذي يلخص البلاد بالجزائر العاصمة وفقط.
علي فوضيل أسس لنظام غعلامي جديد في الجزائر رغم العراقيل والمشاكل. ففكرة مجمع إعلامي لا تأتي إلا من رجل له رؤية واستراتيجية ولهه مهارات في الإدارة والقيادة. جاء بشيء مختلف، شيء جديد ونمط جديد في رؤية الأشياء والقضايا والمجتمع بكامله بهمومه وتحدياته. إبن الريف إنحاز إلى حنينه لبيئته الطبيعية بيئة بئر غبالو، بيئة البساطة والكرم والمحبة والوئام والتآخي. هذه الصفات انعكست في فكر علي فضيل وجسدها المرحوم في الواقع من خلال المجمع الإعلامي الذي أسسه وأشرف علية وأداره باقتدار. ما قام به المرحوم لم يفعله أحد من قبله. نجاح المرحوم علي فضيل تمثل في اهتمامه من خلال المجمع الإعلامي بقضايا الفقراء والمساكين والمهمشين، القضايا الكبرى والمصيرية لمجتمع كثر فيه الفساد وتبدير المال العام وتجاهل هموم ومشاكل المغلوب على أمرهم. جعل المرحوم علي فضيل مجمع الشروق في خدمة الجزائر والتحديات الكبيرة التي كانت وما زالت تواجهها. كرم المثقفين والمبدعين والرياضيين وكل الذين تفوقوا ونجحوا وهزموا التحديات والصعاب. الرجل كان يحب التميز والتفوق والنجاح. من خصال المرحوم أنه كان لا يؤمن بالمستحيل، كان طموحا إلى أقصى درجة كان يؤمن بقدراته وبقدرات من حوله. ميزنه أنه كان قائدا بأتم معنى الكلمة وهذه الصفة لا تتوفر إلا في من يتميزون بمهارات وسمات وصفات وهبات من الله. المرحوم فتح أبواب مجمع الشروق أمام الشباب ووجههم وشجعهم على المثابرة والعمل والإصرار على النجاح.
المرحوم بفضل خصاله الحميدة وثقافته الواسعة ومواهبه في الإدارة وقيادة الرجال أستطاع أن يخرج من الروتين ويأتي بالجديد. نعم أستطاع أن يؤسس مجمعا إعلاميا ناجحا ومن خلاله أستطاع أن يكون مدرسة جديدة في الإعلام تهتم بقضايا الشعب، وبقضايا الأمة وبقضية العروبة والإسلام وقضية اللغة العربية وفلسطين. كما كرم العلماء والمبدعين، وحفظة القرآن، والمتفوقين والناجحين. لم يضع الربح نصب أعينه لكن الربح بالنسبة له كان خدمة الوطن والمواطن.
"الشروق"… نجاح من رحم المعاناة
ونحن نسترجع الذكرى الأولى لرحيل الأخ الفاضل، المرحوم علي فضيل، طيب الله ثراه، سأحاول بتواضع، المساهمة في إحياء هذه المناسبة الأليمة، باسترجاع ما خزنته الذاكرة حول المرحوم، علي فضيل، وصرحه الإعلامي الحضاري والفكري، جريدة "الشروق اليومية"، قبل أن يحوّلها إلى مجمع إعلامي ضخم، ظل رقما محوريا في معادلة الحياة العمومية الوطنية، سياسيا وإعلاميا وفكريا وثقافيا، حيث وجد نفسه مجبرا على مواجهة حقول الألغام، التي تعج بها الساحة السياسية والإعلامية، منذ بداياته في أسبوعية "الشروق العربي"، التي أشرقت من المغرب العربي لتضيء الآفاق الإعلامية والثقافية الفكرية، إلى غاية المشرق العربي. ومع ذلك، زار السجن، نتيجة خطه الوطني المناهض لجنرالات انقلاب جانفي 1992.
فبصرف النظر عما قرأته وعرفته عن علي فضيل، لاسيما مع بداية التعددية الإعلامية، في أسبوعيته الرائدة "الشروق العربي"، فقد كان أول لقاء لي معه في 1996، عندما زارني في وهران، وأنا على رأس الولاية، وكان برفقة الأخ الصديق، الكاتب الإعلامي المتميز، سعد بوعقبة، الذي تعرفت عليه سنة 1985، عندما كان رئيسا لتحرير صحيفة الشعب.
كان موضوع الزيارة هو التماس تدخلي من أجل استرجاع مبلغ ضخم آنذاك، لدى الموزع المعروف محليا، صاحب نشرية محلية بالفرنسية.. قمت بما أمكن لي، بناء على علاقات شخصية، لا رسمية. منذ ذلك الوقت، بقينا على تواصل خلال المناسبات والأعياد.
وبإنهاء مهامي في 1999، صرت أزوره في مقر الأسبوعية دوريا، إلى أن ظهرت فكرة إطلاق يومية "الشروق"، التي كان اعتمادها بحوزة المرحوم، علي فضيل، ولم يتمكن ماديا من إصدارها، فضلا عن التخوف من تشبع الساحة الإعلامية وفشل المشروع.
التقينا في مجموعة صغيرة في البداية بمكتبه، في المقر الحالي لجريدة "الشروق اليومي"، وكان الاتفاق على خوض التحدي ودخول الساحة الإعلامية بيومية "الشروق"، موازاة مع "الشروق العربي" التي تبقى ملكيتها لعلي فضيل حصريا.
كانت الجماعة من القامات الإعلامية الوطنية العروبية، يتقدمهم: سعد بوعقبة، عبد الله قطاف، بشير حمادي، رحمه الله، مصطفى هميسي، علي فضيل، بشير فريك، يوسف حمروش، رحمه الله، حددنا مبلغ مساهمة كل شريك، وشرعنا في اجتماعات تحضيرية، لإعداد مشروع وثيقة الشراكة، وتم تحديد مهام كل عضو من الأعضاء المؤسسين.
عقدنا سبعة لقاءات، وفي الوقت ذاته، كنت ألاحظ مجريات الحديث والنقاشات، والعلاقة بين الشركاء، وانتهيت إلى قناعة أن هذا الفريق لا ولن أنسجم معه، فقررت الانسحاب قبل التوجه إلى الموثق للإمضاء على عقد التأسيس والشراكة.
حاول الأخ سعد بوعقبة والمرحوم علي فضيل إقناعي بالعدول عن قراري بالانسحاب، إلا أنني صمّمت وغادرت، متمنيا طول العمر للمولود الجديد وظلت علاقتي بجميع الإخوة جيدة، بمن فيهم الذين رحلوا، رحمة الله عليهم.
انطلقت "الشروق اليومي" مع علي فضيل وعبد الله قطاف والمرحوم بشير حمادي وسعد بوعقبة، بانضمام شركاء آخرين، أمثال الصديق الشاعر سليمان جوادي.. فحققت قفزة غير متوقعة في ظرف زمني قياسي، وأصبحت تتصدر الساحة الإعلامية بقوة، من خلال سبق الخبر ومصداقية المعلومة والخط الافتتاحي العروبي الوطني.
بعد خلاف الشركاء، تعثرت نسبيا لاعتبارات منطقية، إلا أنها سرعان ما انطلقت من جديد من وحي خبرة وحنكة ومثابرة علي فضيل، وحسّه الإعلامي والتجاري، حيث التفت حوله كوكبة من الأقلام الشابة المؤمنة بالرسالة الإعلامية، فارضة نفسها في نقل الخبر وتحليله، والتعليق والحوارات والروبورتاجات، وكشف عورات الفساد والمفسدين، وإيصال صوت من لا صوت له في الجزائر العميقة وطنيا، والدفاع باستماتة عن القضايا العادلة في فلسطين والعالم الإسلامي، بما فيها محنة مسلمي الروهينغا والصحراء الغربية، والتصدي للمتطاولين على الإسلام ورسولنا وقائدنا محمد "صلعم" إلخ…
أضحت "الشروق" قلعة من قلاع الهوية الوطنية، من خلال قناعات ومواقف رئيسها ومديرها، علي فضيل، كما شكلت منارة فكرية منيرة، من خلال تلك الصفحات الأسبوعية والدورية، التي وضعت تحت تصرف خيرة النخبة الفكرية الوطنية، من علماء أكاديميين جامعيين، وباحثين وسياسيين، في شتى فروع الفكر والثقافة، حيث استقطبت "الشروق" جحافل القراء من مختلف المشارب والأصناف، وبلغ السحب أرقاما قياسية غير مسبوقة، حتى في العالم العربي، حيث تجاوز سقف المليونين، عندما تصدت للهجمة الإعلامية المصرية على الجزائر وشهدائها، أثناء السجال الكروي الجزائري المصري الذي انتهى بواقعة أم درمان السودانية، التي اختطفت فيها الجزائر تأشيرة التأهل لكأس العالم لكرة القدم.
كان علي فضيل، رحمه الله، يشق طريقه بثبات، محققا مزيدا من النجاحات والانتصارات، مؤسسا مجمّعا إعلاميا ضخما، بتدشينه- لأول مرة في الجزائر- السمعي البصري، من خلال قناة "الشروق"، التي تبث من الأردن، لتتدعم بقنوات متخصصة، فارضة وبقوة نفسها على المشاهد الجزائري والعربي والدولي.
ولأن أعداء النجاح كُثر، والحسد مستشرٍ في المحيط الإعلامي الموبوء، فقد تعرض علي فضيل إلى مؤامرات ودسائس في السرّ والعلن، من رفاق المهنة أحيانا، وتوظيف رموز نظام بوتفليقة وعصابته ضده وضد مجمّعه، مشهرين سيف الإشهار أحيانا والمطابع العمومية أحيانا أخرى، معرضين نحو ألف مستخدم من صحافيين وتقنيين وعمال إلى خطر البطالة، فصمد وواجه نحو ثمانية أشهر من دون إشهار ولا طباعة، إلا أعدادا قليلة جدا، في حدود 5000 نسخة، بعد أن كانت بمئات الآلاف من النسخ، ولم يسرّح المستخدمين، وكان صبورا ينشر أمل الانفراج لدى الصحافيين وإطارات المجمّع، دافعا الأجور، رغم الإفلاس الذي برمجه السعيد بوتفليقة لمجمّع "الشروق" من أجل إخضاعه وتركيع علي فضيل.. ولكن هيهات هيهات.
شاءت الأقدار أن يرحل سي علي متأثرا بالضغوطات والمضايقات التي واكبت مسيرته الثرية، وأثرت على قلبه الذي توقف عن النبض بعد مقاومة بطولية لأعداء الوطن والوطنية والنجاح.. وعند ربهم يحتسبون.
لقد راهن المنافسون والحاسدون على انهيار مجمّع "الشروق" بوفاة مؤسسه، إلا أن الصرح لا يزال شامخا والبناء صامدا، بفضل النساء والرجال في مختلف مواقع المناصب للمجمّع، وهم مصرون على مواصلة التحدي والاضطلاع بالأمانة والرسالة التي ناضل وكابد من أجلها المرحوم علي فضيل.. فألف ألف رحمة على روحه الطاهرة، وألف تحية تقدير واعتزاز للفرق الساهرة على استمرارية صرحنا الإعلامي الفكري، وإلى الإمام.
علي فضيل: اسم ارتبط بتصحيح الميزان لصالح اللغة العربية في الإعلام
يكفي أخي "علي فضيل" فضلا وفخرا في مساره الإعلامي أن اسمه ارتبط بتصحيح الميزان لصالح اللغة العربية مقابل الفرنسية في الإعلام، وتحديدا في مجال الصحافة المكتوبة إن كانت أسبوعيات أو يوميات…
عندما التحق بالجامعة سنة 1977 كان قراء اللغة العربية يتوارون من الخلق وهم يُخْفُون جريدة "الشعب" تحت ملابسهم أو داخل محافظهم، سواء وهم يتنقلون بين أروقة الجامعة المركزية، أو يتحركون باحتشام في شوارع الجزائر العاصمة. وقليلا ما تقع عينك على أحدهم يتصفحها وهو جالس على كرسي بإحدى مقاهي ساحة "موريس أودان" أو "بور سعيد" أو غيرها من الأماكن. كان سحب جريدة "الشعب" باللغة العربية محدودا، وكان التعليم بالمدارس والثانويات والجامعة أغلبه بالفرنسية. ولم تكن الفرصة متاحة للإعلام المكتوب باللغة العربية ولا الوسائل متوفَّرة ليرى النور، وينتصر في معركتي النوع والكم…
تخرج الأخ "علي فضيل" من الجامعة بشهادة ليسانس في العلوم السياسية والإعلام سنة 1981. كانت دفعته هي الرابعة باللغة العربية. كان من أكثر زملائه تحكما فيها كتابةً ونُطقًا وحتى خَطًّا. وزاده تعلقا بها تَشبُّعَه بالقيم الوطنية وثقافته الإسلامية الواسعة. لم تكن الفرصة مُتاحة في تلك الفترة للعمل في الصحافة سوى بجريدة "الشعب" اليومية، الجريدة الوحيدة باللغة العربية في الجزائر، إلى جانب "المجاهد" الأسبوعي لسان حال جبهة التحرير الوطني. لم تكن جريدتا "النصر" و"الجمهورية" الجهويتان قد عُرِّبتا بعد. التحق بالجريدة مباشرة بعد تخرجه ونجاحه في اختبارات الدخول الكتابية والشفهية والخاصة بالترجمة تلك الاختبارات التي كانت تُجرى للصحفيين المبتدئين حاملي شهادة الليسانس في تلك الفترة، تحت إشراف المدير العام الأخ محمد بوعروج رحمه الله ورئيس التحرير الأخ محمد عباس الذي انتخب فيما بعد أمينا عاما لاتحاد الصحفيين الجزائريين. كنتُ قد سبقته إلى هذه الجريدة بسنة واحدة. ووجدنا أنفسنا نشتغل بنفس القسم (القسم الوطني)، برئاسة الصحفي والرجل الطيب الأخ بشير حمادي رحمه الله، ورئاسة تحرير الأخوين محمد عباس الذي علَّمنا الجدية والصرامة، ثم سعد بوعقبة الذي حرر طاقتنا كشباب في تلك الفترة، إلى جوار نخبة من الصحفيين كان لا يتجاوز عددهم السبع: جمال صالحي، مصطفى هميسي، عبد الله سعايدية، الطيب يدروج، والمرحومين بن حمودة محمد الصالح وعبد اللطيف محمد، ثم التحق بنا أحمد حططاش وبوزفور منصف لفترة قصيرة. لم يكن من السهولة بمكان كسب معركة القراء أمام منافسة الصحافة الجزائرية الصادرة باللغة الفرنسية، والصحافة الفرنسية القادمة مباشرة من باريس مثل "لوموند" و"لوفيغارو" و"لومانتي" وغيرها التي كانت جميعها تباع في الأكشاك وتوزع في الإدارات العمومية…
لم يكن يخطر ببال أحد أن هذا الصحفي الشاب القادم من ريف "بئر غبالو"، ستكون لديه بطاقة الصحفي المحترف، وسيكتسب خبرة إعلامية في وقت قصير، وسيؤسس جريدة أسبوعية ثم أخرى يومية يكون لهما شرف كسر ميزان القوة مع الصحف المفرنسة مجتمعة. لم يكن أحد يتصور أن تتمكن أسبوعية باللغة العربية هي "الشروق العربي" بعد سنوات قليلة من تحرير الصحافة سنة 1990، من التفوق على جميع الأسبوعيات وبعض اليوميات الموجودة آنذاك، ولا أن يتصور تفوق سحب"الشروق اليومي" على جميع الصحف المفرنسة مجتمعة، بل حتى على أعرق الجرائد العربية مثل الأهرام المصرية، بأكثر من مليوني نسخة…
لقد كان هذا يشبه الخيال، ولكنه كان الحقيقة. حيث استطاعت نخبة من الصحفيين والكتاب أن تجتمع تحت العنوان الذي سجله الأخ "علي فضيل" "الشروق اليومي" وتُحقق ذلك الإنجاز الكبير. من بينهم قدماء جريدة الشعب وبخاصة الأخوين سعد بوعقية رئيس التحرير والأخ عبد الله قطّاف رئيس القسم الدولي سابقا بهذه الجريدة، فضلا عن كل المجموعة مخضرمين وشباب الذين تكاتفت جهودهم الفكرية والمادية وخبرتهم ونشاطهم وأصروا على أن تتأسس"الشروق اليومي" وتنتصر ويكون لها كل ذلك الصيت وكل تلك المكانة رغم صعوبات الانطلاقة والعراقيل الكثيرة التي عرفتها.
لقد كانت بحق مجموعة نادرة، وكان بحق علي فضيل رحمه الله أحد محركيها.
ألا تكفيه هذه مساهمة في التاريخ الإعلامي والثقافي والسياسي للجزائر؟
أظنها كافية بجميع المقاييس… وليس أمام جيل الصحفيين والكتاب الشباب الذي يحمل اليوم ثقل الانتصار هذا على عاتقه سوى مواصلة المسيرة، في عصر أصبحت المنافسة أكثر شراسة، والبدائل أكثر تنوعا، والصراع مع شبكة عنكبوتية لا حدود لها، وليس مع عدد محدود من وسائل الإعلام المكتوبة كما كان الأمر قبل عقدين من الزمن.
لقد تغيرت ساحة المعركة اليوم. وتبدلت الوسائل، والتقنيات، ولم يعد بالإمكان معرفة المنافس من الحليف، وصارت الصعوبات غير مرئية، وكذلك الفرص… وهو ما يزيد من صعوبة مهمة جيل اليوم، للحفاظ على مكاسب الأمس وشق الطريق نحو المستقبل. ولعل هذا كاف لنقول: الانتصار صعب، ولكن ما أصعب الحفاظ عليه.
مجمّعٌ لا يزول بزوال الرجال
سنة كاملة تمرّ على وفاة مؤسس مجمّع "الشروق"، الأستاذ علي فضيل، الذي فجأه الموت في 23 أكتوبر 2019، فكانت فاجعة كبيرة لأهله ولصحفيي المجمع وموظفيه وعماله، وللأحبّة في كل مكان، ولكنّه قضاءُ الله وقدره، والأجل الذي لا يتأخّر ولا يتقدّم.
خلال هذه السنة حدث الكثير، وبدأت سلسلة محاكمة أبرز رؤوس العصابة التي طغت في البلاد وأكثرت فيها الفساد، وكان مجمع "الشروق" أبرز ضحاياها، بعد تحجيم سحب "الشروق اليومي" وحرمانها من حقّها في الإشهار العمومي، ما جعل المجمع يعيش نحو 3 سنوات عصيبة ويعاني أزمة مالية خانقة كادت تودي به وتدفع بالمئات من عماله إلى البطالة، لولا لطف الله الذي قيّض لهذا الوطن شعبا ثائرا مخلصا لم يتحمّل ما يحصل للبلد من عبث بسبق إصرار وترصّد فنزل إلى الشارع لتخليصها من حكم العصابة الفاسدة وتتحرّك العدالة للزجّ بها في السجون لتنال جزاءها في الدنيا، في انتظار جزائها الأخروي عند الله.
وكان ذلك الاضطهاد المسلّط على مجمع "الشروق" السبب الرئيس في مرض علي فضيل وتفاقم حالته حتى أسلم روحه إلى بارئها، فليس من السهل علي إنسان أن يسيّر مجمّعا من مئات العمال، ويُحرم من السحب والإشهار، وتتراكم عليه الديون، من دون أن يتأثر صحِّيا بهذا الظلم والجبروت والاضطهاد الذي لا يطاق، وبذلك تتحمّل العصابةُ قسطا وافرا من المسؤولية في وفاته، وعند الله تجتمع الخصوم يوم القيامة، ولن يظلم ربُّك أحدا.
مخلّفات ظلم العصابة ل"الشروق" بقيت تؤثر سلبا في المجمع إلى حدّ الساعة، لكنّه بدا يتعافى والحمد لله، لأنّ علي فضيل وضع له أسسا صلبة تجعله يواجه المحن ويصمد أمام الشدائد والأهوال ولا يموت، قد ينحني أمام العواصف الهوجاء ولكنه لا ينكسر لعُمق جذوره الضاربة في تربة هذا الوطن الأصيل..
هنا بيتُ القصيد، لقد مات علي فضيل، والموتُ حقّ على كل بني آدم منذ بدء الخليقة إلى قيام الساعة، لكنّه ترك وراءه مجمعا إعلاميا كبيرا لا يزول بزوال الرجال، مجمّع بدأ في 11 ماي 1991 بأسبوعية "الشروق العربي" التي سرعان ما حققت نجاحا باهرا جلب إليها اهتمام الجزائريين جميعا بفضل تفرّدها في خطها الافتتاحي وجمعها بين السياسة والمجتمع قضايا الشباب والثقافة والفنّ في جريدة واحدة، وحطّمت رقما قياسيا ببلوغها 335 ألف نسخة أسبوعيا في أواسط التسعينيات، ثم تلتها "الشروق اليومي" في 2 نوفمبر 2000، ثم "الشروق أون لاين" في 2005، فقنوات "الشروق تي في" و"الشروق نيوز" بداية من العام 2012، والبقيّة تأتي بإذن الله…
عرفت المرحوم علي فضيل في أواخر الثمانينيات حينما كان نائبَ رئيس تحرير "المساء"، وكنتُ أكتب في صفحة القراء بين الفينة والأخرى وأنا طالبٌ جامعي، ثم فتح لي آفاق الصحافة وضمّني إلى فريق تحرير أسبوعية "المنبر" لأعيش تجربةً إعلامية قصيرة تبعتها الانطلاقةُ الحقيقية في "الشروق العربي" في ماي 1991، وأنا لم أتخرّج بعد في الجامعة، فكان نعم الأستاذ في مساري الصحفي، ونعم الموجِّه والناصح.. حينما تشتغل مع علي فضيل تشعر بالطمأنينة لأنّك أمام إعلامي متميّز يقدّر المواهب، ويأخذ بأيدي الكفاءات، ويُحسن تقدير المستوى المعرفي لكلّ صحفي، ولا يبخس المجتهدين حقّهم، ويقوّم الأخطاء برفق، ويُجيد التوجيه وتقديم البدائل…
كم اشتقنا إلى الأستاذ علي فضيل، كان مميَّزا بطريقة إدارته شؤون العمل، فكان يمزج الجدّ بالهزل، ويُطلق ضحكاتِه ونكته وتعليقاته الطريفة لتخفّف روحُه المرحة من ثِقل أجواء العمل. حينما رأيناه آخر مرّة في منتصف أكتوبر 2019، في اجتماع عقده للصحفيين لطمأنتهم على أجورهم المتأخّرة بفعل جريمة العصابة بحقّ الشروق، كان يحاول أن يخفي آلامه، وهو الذي كان يعاني منذ مدة مرضا في القلب، بابتسامةٍ عريضة وقهقهات خفيفة كان يطلقها بين الفينة والأخرى، ووعدنا بأنّ "المجمع سيستمرّ، وأمورنا ستتحسّن"، ورحل بعدها بأيام إلى دار الآخرة من دون أن نودّعه، فلا أحد فينا كان يتوقع رحيله المفاجئ عن هذه الدنيا الفانية، ولكنها إرادة الله، واليوم تتحسّن فعلا أحوالُ مجمع الشروق باستمرار ولله الحمد والمنّة. رحمك الله يا علي فضيل ونم قرير العين، فالمجمع في أيدٍ أمينة، والجميع على دربك سائرون.
علي" أهل العزم تأتي العزائم…
عام يمر على رحيل الفقيد علي فضيل، فقيد المهنة والأخلاق المهنية والموقف ودماثة الخلق.
كان يوم 20 أكتوبر 2019، آخر موعد لي معه عن بعد. كتبت إليه رسالة نصية قصيرة ما زلت أحتفظ بها: "قلوبنا معك أخي علي. طهور إن شاء الله. ربنا يشفيك ويعيد لك الصحة ويسعدك يا رب" لم يكتب له أن يقرأ ما كتبت له. كان هذا بعد أن سمعت بخبر الوعكة الصحية التي ألمت به وأدخلته المستشفى بفرنسا، حيث كان يقضي بعض الأيام رفقة فريق عمل ضمن مشروع مهني. هاتفه لم يكن يجيب، فكانت الرسالة النصية خير وسيلة للتواصل لأجل إبلاغه بتعاطفنا معه والتعبير له عن أملنا في رؤيته معافى.. وكنا كلنا نفكر في أن الأمر سيكون سلاما ويعود إلينا علي عالي الرأس كما تعودنا وكما عودنا.. لكن هذه المرة.. كان الزمن أسرع وكان القضاء أجزع.
رحل عنا علي فضيل تاركا لنا ثروة من الجهد في سبيل إنشاء دعامة إعلامية متميزة.
كان طموحه أكبر من التصور. لما بدأ رحلة الصحافة المستقلة معنا في مهنة المتاعب في بداية التسعين من خلال أسبوعية "الشروق العربي"، كان طموحه أن يستقطب القراء المعربين حول مشروع إعلامي عربي ثقافي فني سياسي اجتماعي شامل. هكذا كان دأبه دائما: يبحث عن التميز في والتنوع لكن دائما ضمن دائرة الانتماء الثقافي العربي الإسلامي المنفتح عن العالم والثقافات واللغات الأخرى، بدليل أنه كان يجعل العربية هي الأصل وبقية اللغات هي الفروع.
كان مدافعا عن الخط العربي الإسلامي الوطني وعن قضايا وهموم المجتمع خاصة الطبقات الوسطى والمعدومة. لذا سيجعل في ما بعد جزءا من إمكانياته الإعلامية والمادية والعاطفية باتجاه "فعل الخير: والقضايا الإنسانية.
علي فضيل، لم يكن يشتغل بالسياسة كسياسي، بل كان إعلاميا مشغولا بالسياسة، لهذا واجه كثيرا من الصعوبات والضغوط مع السياسيين لاسيما أيام العصابة بعد رفضه الدخول ضمن زمرة المزمرين لتزكية العهدة الرابعة والتطبيل لها ولصاحبها. وكانت بداية المتاعب من بداية سنة 2017، كبداية للضغط الأقصى قصد إقصائه من المشهد الإعلامي نهائيا لأنه رفض الخنوع. تعرض لمحاولات التكسير والتفقير والتحجيم، خاصة بعد أن صارت اليومية تطبع مئات الآلاف من النسخ وتتربع على عرش أكبر المنشورات عربيا من حيث السحب والمقروئية. ولما دخل مجال الإعلام المرئي، وذلك كان طموحه من البداية، تكالبت عليه كل القوى غير المخلصة للبلد وللمهنة، وقبل بالتحدي ودخل المجال كواحد من رواد الصحافة المرئية في الجزائر.
كان علي فضيل، الذي أعرفه منذ 30 سنة، الذي تعاملت معه لأكثر من عقدين ولا زلت، كواحد من كتاب أعمدة الشروق العربي ثم الشروق اليومي، أحرص ما يكون على النظافة والنزاهة والمهنية والدفاع عن الثوابت الوطنية. كانت غيرته على القيم الثقافية والدينية واللغوية عنده هي المحدد لكل أشكال وأنواع الخبر والربورتاج والتحليل رغم أنه كان يفتح المجال أمام كل الأقلام من كل الاتجاهات إلا من أبى أن يحترم هذه الثوابت.
عاش علي عالي الرأس ولم يطأطئه يوما أبدا إلا أمام قرائه من بسطاء الناس ومن الذين كانوا يرون في الشهداء رمزا للوطنية وفي العلم الوطني بيرقا عاليا كان علي يراه صورة ناصعة لجزائر نوفمبر ولجزائر الخالدين.. لهذا كان تشجيعه أقوى من أي مؤسسة إعلامية للرياضة الجزائرية وخاصة الفريق الوطني لكرة القدم الحامل للراية الوطنية..ولعل الشروق اليومي كانت من أكبر مشجعي الفريق الوطني طيلة مدة إنشائها ماديا ومساهمات وإعلاميا، هذا من دون ذكر أعمال ومساهمات وإنفاق علي فضيل في مجال الإحسان والعمل الخيري ودور الأيتام والعجزة والفقراء.. وأيضا في مجال تكريم العلم والعلماء والمثقفين والمفكرين ورجال الدين وشيوخ المعرفة عندنا ونشر حبر القراء وتكريم قرائه ومنشدي ومادحي الرسول الأعظم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.. لقد تحوّل علي فضيل من خلال مجمعه الإعلامي المتنامي بجهده وتفانيه، إلى وزارة أكبر من كل الوزارات، يحمل إزرها في أوقات تعطلت فيها الوزارات وتخلت حتى عن مهامها..
كان علي فضيل، يطمح إلى أن يفتح المجال أمام الكل في التعبير عن الكل ضمن الثوابت الوطنية والدينية، ولكن القضاء استعجل رحيله فرد قبل أن يغرد التغريدة الأخيرة.. طائرا حرا.. ما زال فضل صرحه شاهدا عليه يكبر ويتمدد.. وللأبد..
هذه علاقة علي فضيل بالقضية الفلسطينية
يسعدني أن أكتب هذه الكلمات حول علاقتي وعلاقة الحركة وعلاقتنا كفلسطينيين مع مجمع "الشروق الإعلامي" الجزائري.
بدأت علاقتي مع "الشروق"، خلال الحرب الإسرائيلية على غزة، أواخر عام 2008م، ومطلع عام 2009م، وتزامن هذا العدوان مع زيارتي إلى الجزائر، فكانت أول إطلالة إعلامية لي على أهلنا في الجزائر، من خلال "الشروق"، حينما كانت صحيفة، وكانت هذه محطة بارزة لا أنساها، استقبلني حينها الأستاذ علي فضيل، الذي نكتب هذه الكلمات بالتزامن مع ذكرى رحيله، لنخلد اسم هذا الرجل وذكراه العطرة، الذي كان في سلم أولوياته قضية فلسطين، والعمل من أجل فلسطين، من خلال هذا الموقع الإعلامي المهم.
استقبلني حينها ودعا عدداً من الصحفيين وعدداً من الإخوة ممثلي الفصائل الفلسطينية، وعرضنا القضية الفلسطينية بمستجداتها ومحطاتها المتعددة، من خلال صحيفة "الشروق" لأهلنا في الجزائر..
منذ ذلك الوقت، تعززت العلاقة مع "الشروق"، ومع صاحب "الشروق"، المرحوم علي فضيل.. استمرت علاقتي بالرجل – رحمه الله – وباستمرار كنت على اتصال به، حينما كنت في غزة، أو حينما كنت آتي زائراً إلى الجزائر، لما شعرته من حفاوة هذا الرجل، وتعلقه وتمسكه بقضية فلسطين، رحمه الله رحمة واسعة..
أما مع "الشروق" نفسها، فقد استمرت العلاقة، وتعددت أشكالها. ففي كل زيارة، نطل فيها على هذا البلد الذي نحبه كثيرا، نلتقي بأهلنا في الجزائر من خلال مجمع "الشروق"، سواء كان صحيفة أم فضائية أم غير ذلك، في الكثير من زياراتنا، نزور مجمّع "الشروق"، وهذا تقديرا منا لهذا المجمع الإعلامي المهم.. الذي نعتبره أحد الأعمدة للقضية الفلسطينية في ساحة الجزائر..
"الشروق"، عكست اهتمامها في القضية الفلسطينية، فلا يكاد يمر يوم وتخلو صحيفتها أو قناتها الفضائية أو موقعها الإعلامي من الإشارة إلى خبر يتعلق بفلسطين..
"الشروق"، احتضنت القضية، فغطت كل التطوّرات والمستجدات الفلسطينية، وعكست المعاناة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده، خاصة في القدس وغزة، وغير ذلك من أرض فلسطين..
"الشروق"، عكست تفاعل الشعب الجزائري مع القضية الفلسطينية، وغطت كل الأنشطة والفعاليات التي نظمها الشعب الجزائري أو التي نظمناها من خلال أهلنا في الجزائر إسناداً لفلسطين..
"الشروق"، غطت كل الأنشطة التي تنظمها الوفود الجزائرية التي تزور فلسطين، والتي تقدّم العون لأهلنا في فلسطين.. غطت هذه الأنشطة وقدمتها لأهلنا في الجزائر..
فكانت "الشروق" داعما أساسيا لقضية فلسطين، وكانت باستمرار جسراً بيننا وبين أهلنا في الجزائر، وهذا ما يزيد من اعتزازنا ب"الشروق"، ويوثق علاقتنا بها. هذا التقدير، ينطلق أيضا من تقديرنا للجزائر الحبيبة، هذا البلد الذي وقف بكل مؤسساته الرسمية والشعبية، بقيادته وأحزابه، إلى جانب القضية الفلسطينية. هذا البلد الذي كان متميزا في حبه لفلسطين، حتى إنه دائما يثار السؤال أمام الشعب الفلسطيني: ما سر هذا التميز الجزائري في حب فلسطين! هذا التميز الذي لم يغب عن كلمات الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، مثلما لم يغب عن كلمات كل رؤساء الجزائر، وبقيت كلمات الراحل هواري بومدين: "نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة"..
هذا الحب والتضامن لم يغب عن الشعب الجزائري، بإسناده ودعمه، فكنا دائما نسأل أنفسنا: ما سرّ هذا الحب؟ فلا نجد إجابة واضحة إلا أن الجزائر متميزة في حب فلسطين وكفى، ننشغل بهذه النتيجة دون أن نغوص في خلفياتها، لأن خلفياتها هي أكبر من أن يجاب عنها.
إن تقديرنا ل"الشروق" ينطلق أيضا من تقديرنا لكل الإعلام الجزائري، الذي وقف إلى جانب القضية الفلسطينية ودعمها دعما كبيرا..
ورسالتنا إلى "الشروق" اليوم، أن تمضي على هذا الطريق، طريق سياستها التحريرية، التي خطتها منذ يومها الأول إلى جانب فلسطين، وإسناد قضية فلسطين..
أن تمضي على سياسة الراحل، علي فضيل، الذي أسس "الشروق"، وأسس معها احتضان الإعلام الجزائري لقضية فلسطين، فتخليد ذكرى هذا الرجل لا يمكن أن يكون إلا بحماية رسالته الخالدة في دعم فلسطين، ورفع اسمها عاليا، وتثبيتها أكثر فأكثر، في قلوب الجزائريين..
ندعو "الشروق" إلى أن تمضي في هذا الطريق، وسيستمر اعتزازنا بها، مثلما يستمر اعتزازنا بالجزائر، قيادةً وشعباً.
علي فضيل ومحبته للعلماء والمثقفين
نعيش ذكرى وفاة المرحوم الصحفي علي فضيل -رحمه الله- في أجواء شهر الرحمة شهر المولد النبوي الشريف، وقد كان محباً لأهل الدين والعلماء والمثقفين فهو من أرومة تحفظ كتاب الله وتحب نبيه، ولعلّ من أبرز أعماله التي تبقى تدعو له بالخير احتفاؤه بالعلماء ومشايخ الدين والمثقفين، فقد كانت الندوات التي تقام لذكراهم أو تكريمهم وهم أحياء تقليدا شروقيا لم نعهد للمؤسسات الإعلامية صنيعاً بمثل ذلك الحرص وقد صار قدوة لبعض من الذين اشتغلوا معه وأسّسوا صحفاً مثل محمد يعقوبي (الحوار)، إن محبة علي فضيل لأهل الله وللعلماء والثقافة ليس منه الغرض الدعائي أو الاستعمال الإشهاري أو السياسي ولكنها روح نشأت في بيت يصدح بالقرآن الكريم، أذكر حرصه في تأسيس أسبوعية (الشروق الثقافي) التي ساهمت فيها من خلال التحاقي بمكتب الشروق بوهران حين كان المرحوم الصحفي الشاعر عياش يحياوي رحمه الله، وقد رحب بي علي فضيل حين قدمني له عياش يحياوي في غذاء مشترك بأحد مطاعم شار العربي بن مهيدي وشجعني على الالتحاق بهم فورا، وفي تلك السنوات القليلة تمكنت من التفرغ لرسالة الماجستير لأن الشروق كانت أسبوعية والثقافي التي لم تعمر للأسف كانت أيضاً أسبوعية، كنت ألقاه حين يزور وهران ولم أكن في علاقة معه حميمية مثل عياش وكان يلتقي مع صحفيين آخرين مثل بوربيع لحسن عمدة الصحفيين الذي كان يومها مسؤول مكتب المساء، كانت أولى انطباعاتي عنه ما يتميز به من سخاء وحياء، وما يعود به من وهران هدايا اللعب لأطفاله، ثم كنت ألقاه حين أسافر الأحد للعاصمة من أجل جلب الصفحة الأولى الملونة لمطبعة وهران فلم تكن التقنيات متطورة آنذاك كما كنت أسلم مادة مكتب وهران للنشر وملفات إدارية أخرى وكانت فرصة للاجتماع به إلى جانب زميلي الذي يأتي من قسنطينة جمال طالب الذي هو الآن ببريطانيا، كنت أستغرب للعلاقات الإنسانية التي كانت موجودة ببيت الشروق، كانت حركة في مكاتب التحرير وأدركت بعدها أن تسيير علي فضيل لم يكن بالشكل التقليدي أو الستاليني ولكن طبيعة شخصيته وعلاقاته الإنسانية هي التي خلقت هذه الأجواء.
مما أذكره له من سعيه الدائم أن تكون (الشروق الثقافي) أسرة للمثقفين والكتاب والأدباء وكان على رأسها (عبد العالي رزاقي) وقد كان ينشر فيه كتاب معروفون ولم تكن الأسبوعية تميّز بين اليساري واليميني أو الحداثي والتقليدي بل صفحاتها مفتوحة للنص المبدع والجديد، إن دعم العمل الثقافي والعلمي مهمة منوطة بالمؤسسات الإعلامية أيضا وعلى مؤسسة الإشهار الوطني أن تشجع الصحف التي تتبنّى ذلك.
إن علي فضيل رحمه الله في ذكرى وفاته نذكر له ذلك في زمن مازالت الصفحات الثقافية هي فضلة وسقط المتاع عند بعض الجرائد، نذكر له ذلك لأن تجربة الأسبوعيات الثقافية للأسف لا تعمر طويلا فهي لا تطعم الفم خبزا ولا تعمر الجيوب ولكن رأسمالها القوي هو القناعة بكون ذلك تنمية للإنسان ولخلق شروط إيجاد مجتمعات المعرفة.
رحم الله علي فضيل فقد كانت عاقبته حسنى ومن حسنات هذه العاقبة أن فضح سارق ختم الرئاسة ولعب دورا في تحضير نفسية المواطن من خلال التلفزيون الشروق في حالة كان قرار إنهاء مهام القايد صالح بخاتم مغتصب منذ مرض الرئيس بوتفليقة، وأنا لا أدخل في التأويل هنا وتفسير النوايا ولكنه غامر وقامر في تلك الأمسية وكان حينها يؤمن بقوله تعالى (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ) ، رحم الله علي فضيل ورسالته باقية من خلال إخوته الكرام وبالخصوص رشيد فضيل وزوجته الكريمة وأبنائه وصحفيي الشروق المخلصين.
بعض ما لا يعرفه الناس عن الفقيد
أحاول استنطاق ذاكرتي المتعبة، لأفتش في ثناياها حول ما تسمح به هذه السانحة، مما بقي عالقا من عبق المواقف والذكريات غير المألوفة، مما عشته وعايشته مع الراحل. والكتابة حول ذلك الجانب الخفي والخلفي لهذه الشخصية، تدخل في سياق التعرف على مسار وأفكار هذا الإعلامي الذي نحاول إعادة اكتشاف بعض مكامن الظل في سيرته ومسيرته.. بمناسبة حلول الذكرى الأولى لرحيله هذه الأيام.. وكأني بها كانت يوم أمس فقط.. فعلى روحه الطاهرة منا ألف سلام وسلام. والله نسأل أن يتغمده بواسع الرحمة والمغفرة.. ويجعل الجنة مستقره ومأواه.. ويلهم كافة أهله وذويه جميل الصبر والسلوان.
أولا/ بالمختصر المفيد، علي فضيل شخص غير عادي، بكل المقاييس:
منذ الوهلة الأولى التي تعرفت فيها على المغفور له، بدا لي أن الرجل معجون من طينة أخرى.. فهو مثلي ينحدر من أصول ريفية.. اشتركنا معا في قضاء فترة طفولتنا في رعي الشويهات والعنزات.. وجلب الحطب والماء على ظهور الدواب.. وممارسة البذر والحرث والحصاد، وسائر الأشغال الفلاحية الشاقة… وكل ذلك وغيره أمر عادي جدا. لكن غير العادي، يبدأ من مساره الدراسي، حيث افتك شهادة البكالوريا، وهو تلميذ في السنة الثانية ثانوي.. وحين كنا نتقاسم الغرفة نفسها في الإقامة الجامعية طالب عبد الرحمن ببن عكنون، اكتشفت أن الرجل شعلة متوقدة من الذكاء واليقظة والحذر.. وقد حباه الله قدرات ذهنية متميزة.. فطيلة مساره الدراسي الجامعي، لم يرسب في أي امتحان.. ولم يجتز أي امتحان استدراكي.. وكان مؤهلا للذهاب بعيدا في الدراسات الدكتورالية.. لكنه سجل في الماجستير، ولم يكمل البحث الذي اختاره بعد أن تناهى إلى علمه أن راتب الأستاذ الجامعي في الجزائر هو أضعف راتب في العالم.. ثم اتجه إلى قطاع الإعلام والاتصال، لتجسيد أحلامه التي لا سقف لها في هذا التخصص.. وكان يرى أن تأثير غبار الطبشور مهم، لكن صرير القلم أكثر أهمية في تصوره لدحر مضايقات التيار العلماني التغريبي لنشطاء التعريب. ومقاومة أعداء عروبة الجزائر وإسلامها وثقافتها وتاريخها وقيمها الحضارية… ولأنه صاحب همة غير عادية، وطموحه يعانق السحاب… فلم يكن في حياته ما يستحيل تحقيقه إعلاميا… وهو ما يبرر هيامه، ويفسر ذوبانه في عشق مهنة التعب والنصب.
لم يكن يحمل على كتفيه سوى معطفه ومحفظته وقناعاته… وبدأ مشواره من العدم. وكابد حتى أصبح اسمه على كل لسان.. من ذراع عيشة، إلى لندن وواشنطن وباريس.. وأفلح في تأسيس أكبر مجمّع إعلامي بمواصفات احترافية عالمية. فهو في غالبية سلوكاته أشبه بالأسطورة. وهنا مكمن الصعوبة في الكتابة حول هذا الشخص غير العادي في مواقفه وخرجاته المثيرة… بل حتى في أبسط شؤونه، وذلك بكل الفهوم والمقاييس.
ثانيا/ هذا الإعلامي المعرب… لم يكن معقدا من بعبع اللغات الأجنبية:
زاول علي فضيل دراساته الجامعية باللغة العربية في قسم العلوم السياسية والإعلام، بجامعة الجزائر. وهو محسوب على جيل المعربين. وكان في طليعة مناضلي التعريب في ثمانينيات القرن الماضي، بمعية الراحل عبد القادر حجار، وغيره من نشطاء التعريب في تلك الفترة. وكان من كوكبة المتيمين بمطالعة أشعار المتنبي، والاستماع إلى روائع أم كلثوم، ومطالعة كتب الغزالي والقرضاوي… لكنه لم يكن وحيد اللغة، ولم يكن أسير فكر لغوي وحيد. وطالما كان يردد على مسامعنا أن وحيد القرن قد انقرض. فكان منذ صغره مولعا بتعلم اللغات الحية العالمية. وقد أبدى تفوقا ملحوظا في التمكن من اللغتين العربية والفرنسية في مرحلتي التعليم المتوسط والثانوي. واستمر شغفه بتعلم اللغتين الفرنسية والإنجليزية، في مرحلة التعليم العالي. وذلك بطريقة عصامية. في معظم البحوث الجامعية. ولعله من بين المعربين القلائل الذين يحسنون لغة موليير قراءة وكتابة وخطابة. فهو مدمن على مطالعة الصحف الصادرة بالفرنسية يوميا. وكان يطالع مختلف الإصدارات الفكرية والسياسية والثقافية بهذه اللغة. وكان يريد تحدي المفرنسين، ومنافستهم بسلاحهم من خلال إصدار جريدة باللغة الفرنسية. تدافع عن الثوابت والقيم الثقافية والهوياتية والحضارية للجزائر.. وكان يتعاطى مع المراسلات والوثائق الإدارية المفرنسة التي تأتيه من خارج الوطن، ومن مختلف الدوائر الوزارية والهيئات والمؤسسات العمومية والخاصة، بندية وكفاءة واقتدار.
وفي الوقت نفسه، كان الفقيد متمكنا إلى حد جيد، من ناصية اللغة الإنجليزية. ويكفي التذكير أنه كان أستاذا لفترة ولو قصيرة لمادة اللغة الإنجليزية في التعليم المتوسط.. وحين كان يزور بعض البلدان الأنجلوسكسونية، لم يكن يحتاج إلى الاستعانة بمترجم كما هي حال الكثير.
وأتذكر أننا خلال الفترة الجامعية وما بعدها بقليل، قطعنا معا شوطا في تعلم الأمازيغية، بعد تعرفنا، وفرط نقاشنا مع طالبات، ينحدرن من منطقة القبائل الغالية علينا… ولا أسوق كل الدوافع الذاتية لمحاولة أمزغة ألسنتنا إذ ذاك… وأكتفي بالإقرار أن الأقدار ساقت الأستاذ علي إلى دفن عزوبته في الدوسن… في مقابل إعدام عزوبتي في مليانة… وتجري رياح تهافتنا على التمكن من اللغات، بما لا تشتهيه المقاصد والنوايا المتعلقة بالتعددية اللسانية.
ثالثا/ كان الفقيد مبدعا في مجال المصطلحات والكتابات الساخرة:
معظم من يعرف علي فضيل عن قرب، يدرك أن الرجل خفيف الروح. وشخصيته تتدفق مرحا وحيوية. وهو كثير التنكيت، تجده هاشا باشا، طلق المحيا… ويوزع البسمات، ويتبادل النوادر والضحكات مع الجميع. وكان يجتهد في كسر الروتين، ومقاومة الرتابة بتطعيم كلامه بمصطلحات ساخرة، تزرع البسمة وتبسط الراحة في سامعها. ويكفينا التذكير بأنه اقترح تسمية أسبوعية "الشروق العربي" ب(الكشرود)، لكن الزملاء اعترضوا على تلك التسمية.. وكان ينادي زميلا صحفيا أسمر اللون ب(الروجي).. وكان يدلع زميلة صحفية سمراء، ب(الروجية).. ولا أنسى توصيف زميلنا الضخم ب(الرامول).. ونعت هزيل البنية ب(الهارب للغسال). وكان يستعين بتعابير قرآنية في وصف الشيوعيين ب(الحمر المستنفرة).. وقد أجاد وأبدع في الكتابة الساخرة خلال إعداده ركن (فضوليات) الذي بدأ نشره في جريدة الشعب ثم المساء ثم القناة الأولى للإذاعة الوطنية في برنامج (فكاهة وطرب).. وأخيرا في أسبوعية "الشروق العربي". ولم تخل أحاديثه من إضافة بعض التوابل في تعابيره الساخرة لتلطيف الأجواء، وتهدئة الأعصاب… وهي مبطنة بتوجيه رسائل وانتقادات ذكية لمختلف المواقف والأوضاع والممارسات السياسية والثقافية والاجتماعية.. من أبسط مواطن، إلى أكبر مسؤول في هرم الدولة.. وحتى انتقاداته الساخرة، لا تخلو من روح المسؤولية والموضوعية.. ولا أذيع سرا حين أذكر أن روح الدعابة والنكتة لم تفارقه حتى وقت الزج به في السجن مع زميله سعد بوعقبة، حيث كان يبتسم ويضحك وهو مكبل اليدين. ويردد على مسامع من هم حوله عبارات من جنس: (الكيل 11 يا دلالي… الليلة نباتو في دار قويدر!).
أخيرا/ بصماته الشروقية البارزة أكبر من أن نختصرها في مقال:
يظل علي فضيل متفردا بامتياز في شخصيته.. ويصعب استنساخه في عصرنا… وتفاصيله أكبر من حصرها في مقال، أو رصدها في كتاب… ورغم كل ما كابده الفقيد من مرارة التضييق والحسد والحقد والكيد والعراقيل… فقد رحل متوجا بسجل ناصع، وحافل في نصرة الحرف العربي.. ودعم العلم والعلماء.. وخدمة القرآن، وتكريم حافظيه وحملته.. وفعل الخيرات.. ومساعدة طلبة العلم والفنانين والمثقفين والإعلاميين… فهو لم يكن مجرد هاو، ولا متطفل على قطاع الثقافة والإعلام، بل كان صاحب فكرة ومشروع بكافة الأبعاد الحضارية… عليك رحمة الله حبيب الفقراء.. ومحب فلسطين والصومال… في الذكرى الأولى لرحيلك، لا نبكيك بحرقة، بل نترحم عليك، ونذكر مناقبك بشموخ… وعزاؤنا أن الجنود الشروقيين بعدك، في هذه الذكرى، يستخلصون العظات، ويستلهمون أفضل العبر من مسارك وأفكارك.. وما تركته في محيطك من بصمات وتأثير… آملين ألا يخيبوا ظنه في إيصال إشراقات شمس "الشروق" الناصعة إلى مشارق الأرض ومغاربها.. فالصمود الصمود.. الرباط الرباط.. يا أحبابنا في مجمع "الشروق"، تحت قيادة الفارس الجديد، الأستاذ/ رشيد فضيل.. والله وحده الموفق لما فيه خير الجزائر وأهلها وأمنها وعزتها واستقرارها.
"الشروق": عنوان وُلد كبيرا وصمد في وجه الأعاصير
عندما ظهرت "الشروق" (العربي)، سنة 90، في زحمة التحولات المتسارعة، التي عرفتها السنوات العشر الأخيرة من نهاية القرن الماضي، في سياق التعددية الإعلامية، التي كرسها دستور 23 فبراير 89، ظنها كثير من الملاحظين مغامرة صحفية غير محسوبة العواقب، لاعتقادهم أن مقروئية الحرف العربي كانت متدنية أمام علو نبرة الخطاب السياسي وتدفق سيل من العناوين اليومية والأسبوعية لكل حزب وعشرات النشريات الداخلية. ولا أحد سيهتم بما يضيفه عنوان جديد في ساحة طغى عليها الخطاب السياسي الذي كانت تتجاذبه ثلاثة تيارات تقليدية مهيمنة على الساحة أمام تراجع شعبي لافت للحزْب الذي حُكمت الجزائر باسمه أزيد من ربع قرن.
كيف كان ميلاد هذا العنوان الجديد كبيرا منذ أعداده الأولى؟ وما هي الروافد التي غذت قوته حتى حطم رقما قياسيا في كمية السحب اليومي؟ وما هي العوامل التي ضمنت بقاءه شامخا رغم الهزات العنيفة التي تعرض لها في أكثر من منعطف بين التأسيس وإعادة البعث والتحول اللافت والسريع من عنوان ورقي واحد إلى مؤسسة رائدة صارت لسان حال قطاع واسع من أبناء الجزائر في فترة كانت فيها الكلمة أخطر من الرصاصة؟
مثلت يومية "الشروق" لسان حال الوطنيين وحماة الحرف العربي وأبناء الصحوة عموما لأربعة عوامل كرسها خطها الافتتاحي وعمقتها المادة الإعلامية اليومية التي كانت وجبة "فطور الصباح" لكل مهتم بالشأن السياسي والثقافي والمجتمعي وحتى الديني والدعوي داخل الجزائر وخارجها. أولها: اهتمامها المتزايد بالمشترك الأوسع بين جميع الجزائريين مما لا خلاف حوله بين يمين ويسار ووسط. وبين مسمى وطني وإسلامي وديمقراطي، على نحو جعلها مرجعا لكثير من المهتمين بالشأن الوطني العام، وكل ما له صلة بالوطن وقضاياه الكبرى. وثانيها: تتبعها الدقيق لهموم المواطن اليومية، ورصد شؤونه الصغيرة التي لا تلتفت إليها كثير من العناوين المرموقة ذات الصيت الواسع والانتشار الرسمي في الإدارة. فالهموم الصغيرة التي كانت تهتم يومية "الشروق" بنقلها إلى القارئ كانت تمثل لسكان المدن الداخلية والجزائر العميقة نافذة يطل منها المواطن على الإدارة ويخاطب من خلالها المسئُول عن قضاياه. وثالثها: التعبير بصوت مرتفع عن الخط الوطني الإسلامي الذي يمثل "الأغلبية الهادئة" من أبناء الجزائر وبناتها، وينبذ التطرف والعنف واحتكار الوطنية والإسلام ويناهض مشاريع التغريب والدفع باتجاه "الفرْنسة" أو العلمنة أو التمكين للأقليات النافذة في الإدارة والمال والإعلام والفن.. وتهميش الأغلبية الرافضة لمشاريع المسْخ والانقلاب على الثوابث والمبادئ وعلى عناصر الهوية.
هو خط الحوار والمسار الثوابتي الذي يصب في فكر الوسطية والاعتدال ويناهض كل غلو في الدين والوطنية والعلمانية.. وهو ما لخصه شعارها "رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب"، لمنع الإقصاء والاحتكار والوصاية والتحدث باسم الشعب.. ورابعها: اهتمامها بالقضايا العادلة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، ودعمها الإعلامي الصريح والواضح للمقاومة وإشادتها بالأحرار في الوطن وفي العالم، وتكريمها لكل من أدى واجبا مستحقا من أجل الحرية والوطن وكرامة الإنسان وخدمة العلم والمنافحة عن القيم الإنسانية العليا.
عرفت "الشروق" بعض الانكسارات في مسيرتها خلال ثلاثين عاما، لاسيما بين سنوات 99/2004، لكنها كانت على موعد مع مجدد نفسها بطموح واسع نقلها إلى العالمية، كان ذلك على يدي المرحوم علي فضيل الذي التقط خيط مسيرتها بجرأة قل نظيرها في العمل الصحفي خاصة والنشاط الإعلامي بشكل عام، صاحب فكرة المجمع والإنتاج الخاص الذي كان يطمح أن يناطح به الكبار!! وقد عرفته عن قرب فلمست فيه ابتسامة دائمة وحماسة هادئة وقدرة عجيبة على تلقي الضربات من الصديق ومن الخصم وامتصاص صدمتها ببسْمة محيرة تجعل خصْمه يعتقد أن وراءه قوة ضاربة أو سلطة قاهرة أو بدائل جاهزة أو رصيد من مال لا ينفد.. والحقيقة أنه لم يكن يملك سوى ثقته في نفسه وإصراره على الوصول إلى ما كان يدور في عقله، وسلاحه الأمضى هو إيمانه بالخط الذي اختطه لنفسه واعتقاده أن المبادئ تنتصر على المصالح مهما كانت ضراوة المعركة وكثافة الذخيرة المستخدمة، وأن إرادة الشعب أقوى من تهديدات الذين كانوا يلوحون بقبضة الغلق وتجفيف منابع الإشهار..!! وقد سمعت من حكاياته حول هذا الكثير.
حوصرت يوميته أكثر من مرة، وضُيق على المجمع الذي كان يديره وصودرت بعض مشاريعه وأوقف بعضها في منتصف الطريق، وأغلقت حنفيات القوم إمعانا في تجفيف منابع الزرع وسيق للمساءلة والسجن.. ولكنه صمد واحتسب وراهن على تضحيات الطاقم الشاب العامل معه، وربح الرهان، ولولا أن الموت عاجله مع بداية العد التنازلي لنهاية "دعاة الخامسة" لكان لمجمع "الشروق" شأن آخر.
يومية "الشروق" كانت "لسان حال" التياريْن الوطني والإسلامي حرفًا وخطا وانتماء ومقاصدَ ومضامين خطاب. وأذكر أنه حينما كنت رئيسا لحركة مجتمع السلم خلفا لمؤسسها الشيخ نحناح رحمه الله بين سنوات 2003/2013، رصدنا أزيد من 90% من المنتمين إلى هذه الحركة يفتتحون يومهم بقراءة يومية "الشروق"، وفي بعض القرى والبلديات كانت تنفد من الأكشاك فور وصولها. وكانت هذه حال كثير من المناضلين في الأحزاب الإسلامية والوطنية، وهو ما يفسر ارتفاع أعداد سحبها- في بعض سنواتها الذهبية- لتسجل رقما قياسيا بين نظيراتها في العالم العربي (بلغ مليوني نسخة) ثم تراجع ليستقر زمنا معتبرا قريبا من مليون نسخة قبل أن يداهم الفضاء الأزرق الصحافة المكتوبة فتركع أمام سرْعة المعلوم واختزالها في سطر وسبقها الجريدة اليومية بالزمن الحقيقي في مسمى "خبر عاجل" بنقل ما "يحدث الآن". وصارت الصحافة الورقية جزءًا من حضارة الأمس إلا من ظل وفيا لزمن القصاصات والأرشيف المكتوب من "جيل الطابلويد" والخط الافتتاحي الملتزم والكلمات المتقاطعة والأخطاء السبعة..
في زمن الأحادية كنت صديقا وفيا ليومية تصدر بالشرق الجزائري بين سنوات 69 إلى 92، فلما غيرت خطها تلقاء فضاءات قرْمزية وجهت وجهتي شطر عنوانيْن أحدهما يومية "الشروق" (أضفت لهما سنة 2004 ثلاثة عناوين أخرى) مثلت زادي اليومي الذي أعتز بأنني لم أبدد وقتي في اقتطاع جزء من صبيحة كل يوم لأطالع ما يروق لي مما تنشره هذه العناوين اليومية. في ذكراها الثلاثين يُحفظ ليومية "الشروق" ثلاثة أفضال على جيلي الذي كانت جرائد الصباح لا تبرح موائد إفطارهم، ولا يخرج أحد من بيته إلى عمله إلا وقد تصفح أكثر من عنوان. ومهما يكن من أمر يُحفظ ل"الشروق" شرف المنافحة عن الخط العربي، وشرف التعبير عن هموم المواطن. وشرف الدفاع عن القضايا العادلة في زمن الهرولة والتطبيع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.