قصة الشاب "الجد"، بوعزيز محمد الهاشمي، 45 سنة من مواليد "ليو" بفرنسا والمقيم بمدينة المسيلة، الذي خرج من السجن في مطلع شهر جويلية 2007 بعد 17 سنة قضاها وراء القضبان شكلت مسلسلا من المعاناة والشقاء والمشاهد الاجتماعية المثيرة والمأساوية، لم نكن نعلم به ولا نعرفه، لكنه قصد مكتب "الشروق اليومي"، لا لشيء إلا لكونها جريدته المفضلة، التي كان يداوم عليها في زنزانته، أين قرأ منها قرابة 2000 عدد. هي قصة شاب قضى نصف عمره في السجون وعندما خرج استقبله أحفاده فهو شاب لكنه "جد"... قصة وقفنا على وقائعها بالصور. 17 سنة من عمره قضاها بين سبعة سجون كانت الساعة تشير إلى 10 صباحا عندما رنّ هاتفنا النقال، لم نكن نعرف من المتصل، لكن حرص هذا الأخير واستعجاله تركاه يعرّف بنفسه مباشرة، على أنه خرج من السجن للتو يوم 06 / 07 / 2007 بعد 17 سنة وراء القضبان من سجن البرج إلى رأس الوادي إلى سطيف وسيدي عيسى ثم سجن "لامبيز" بباتنة، فسجن المسيلة الذي حول إليه بطلب من والدته التي تعدت 70 من عمرها وتعاني من إعاقة في رجلها، مؤكدا في اتصاله معنا بأن ثقته في الشروق وتعلقه بها هو الدافع لاختيارها، لرفع همومه ومعاناته إلى الرأي العام، خاصة وأنه ردد كثيرا قوله: "أخطأت لكنني تبت إلى الله وأريد الاندماج في المجتمع". حرص هذا الأخير ومناشدته لنا، دفعنا إلى تحديد موعد معه وهي مهمة نعتقد بأنها نبيلة ورسالة من خلالها، تحل مشاكل الكثير وتحاصر معاناة المحرومين. زائره الوحيد أمّه صاحبة السبعين كافلة المحرومين انطلاقا من هذا المبدأ، تنقلنا إلى حيث عنوان المعني وجدنا صعوبة في التعرف عليه، لكن بفضل مساعدة الجيران تقرب إلينا وتعرفنا عليه، حيّانا أهلا "بالشروق" كان يحمل أوراقا بين يديه، برزها "شهادة تأهيل" حلاقة رجال تحصل عليها من مؤسسة إعادة التربية بالمسيلة مؤرخة في 25 / 06 / 2007 تحت رقم 94 / 2007. شاب لكن رأسه اشتعل شيبا، من مواليد 1962 بمدينة ليو بفرنسا، تفاجأنا عندما قال لنا إن لديه بنتا متزوجة ولها ثلاثة أولاد هم أحفاده، كل هذه التعريفات تمت في الوقت الذي كنا نصعد إلى المنزل عفوا الكوخ الذي يقطنه بحي 108 بجوار وادي القصب بالمسيلة والصور تعبر عن ذلك المهم دخلنا استقبلتنا أمه العجوز زوينة كما تعرف لدى أهل الحي، طيبة، لكنها قوية بتفكيرها وتدبيرها، حكت لنا جزءا من حياتها مع زوجها لكن قساوة الحياة معه وسلوكاته حالت دون استمرارها معه، فافترقا وعادت إلى الجزائر، رفقة أولادها الثلاثة أحدهم توفي، بينما عاش "محمد الهاشمي"، محل تحقيقنا، المتحدثة قالت إنها عندما نزلت تراب الجزائر مزقت جواز السفر. ودخلت مسلسلا من المعاناة والحياة الصعبة، لكن شاء الله لها أن تكون كافلة الأيتام والمحرومين من حنان الأبوة. العجوز زوينة عملت بعد ذلك كمنظفة في مقر الولاية وكانت تتقاضى وقتها 400 دج شهريا. دخل السجن شابّا وعندما خرج استقبله الأحفاد عند هذه النقطة، تأثر محمد الهاشمي ولم يتمالك نفسه فانهمرت دموعه، ليشير بأنه أخطأ ولكنه تاب إلى الله ويريد أن يندمج في المجتمع، خاصة وأنه "يحمل مؤهلات منها شهادة التأهيل التي أشرنا إليها سلفا، كما أن له موهبة النقش والكتابة على الجبس وله اعتراف بذلك من إدارة سجن "لمبيز" تازولت بباتنة، التي جسد شعارها بمادة الجبس، ونفس الشيء فعله مع مؤسسة إعادة التربية بالمسيلة، حيث شعارها كما قال لايزال منتصبا في ساحة العلم، وعلى غرار ذلك استفادت من موهبته مؤسستي بوسعادة وسيدي عيسى. المعني كشف لنا على إبداعات شعرية، وأخرى أدبية، قال إنه شارك في آداء المسرح داخل السجن، وشاء الله أن يحفظ 8 أحزاب من القرآن الكريم. المتحدث وجه شكره للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، لأنه استفاد من عفو رئاسي في جويلية المصادف لعيدي الاستقلال والشباب، حيث سقطت من مدة العقوبة قرابة العامين. حتى أمه لم تكن تعلم بذلك عندما ذهبت لزيارته، لكن تفاجأت فور تلقيها خبرا سارا من إدارة السجن بأنها ستأخذ ابنها معها فاختلطت الدموع، لحظة الخروج لم يجد من يستقبله سوى أمه، لأن الجميع كادوا أن ينسوه: "محمد الهاشمي" أوضح هنا بأن الوحيدة التي أسرعت لزيارته لحظات بعد خروجه ابنته المتزوجة التي عانقته وبكت وبكى معها كثيرا "على العمر اللّي راح خسارة". ...ولم يحضر زفاف ابنته ووفاة زوجته بالسرطان! حاولنا التعرف على وضعه الاجتماعي أكثر، ومسيرته الحياتية المحفوفة بالمعاناة، والأحداث المأساوية التي كانت دوما تنتهي بوضعه في السجن، حيث تنقل بين قضبان 7 سجون آخرها سجن المسيلة، الذي يقول بأنه ترك فيه بصماته الحسنة. المعني كشف أيضا بأنه تزوج في سن مبكرة، أنجب 6 أولاد، الكبيرة منهم تزوجت وزفت وهو في السجن، وشاءت الأقدار أن تموت زوجته بالسرطان دون أن يحضر جنازتها منذ أكثر من 8 سنوات، وجراء ذلك تكفلت أمه بهم في ظروف اجتماعية صعبة، لكن استطاع هؤلاء أن يرسموا صورا جميلة رغم وجود الأب في السجن، ف"الخَامْسَة" حصلت على شهادة التعليم المتوسط لهذا العام بمعدل "14.20" المعني يؤكد هنا أن الفضل يعود لعناية الله، وجهود والدته، إنها امرأة من معدن خالص. لأنها كانت تقطع المسافات الطويلة لزيارته في سجن تازولت بولاية باتنة، رغم عجزها. وجراء المتاعب طلبت من إدارة السجن بالمسيلة تحويله، فُلبّي طلبها على الفور، إلى أن جاءت ساعة الفرج وتم العفو الرئاسي بمناسبة عيد الاستقلال والشباب لهذا العام. ضباط ومديرون مسجونون تعرف عليهم فنصحوه باتباع الصح! محمد الهاشمي، وفي سياق استعراضه لحياته داخل السجن، أشار إلى تعرفه لعدد من المساجين، كانوا في الحياة المدنية، ضباط ومديرين ومسؤولين من العيار الثقيل، نصحه أغلبهم "باتباع الصح واجتناب الكذب والتزوير والاحتيال، لأن حبل الكذب قصير مهما طال..."، ونصحوه أيضا "بكسب ثقة الناس، فهي كنز لا يفنى" المعني أوضح كذلك، بأن هناك شخصيات سرقت اهتمامه، كحبه للرئيس بوتفليقة وحزنه على صدام حسين، وتعلقه بجريدة الشروق اليومي، التي كان يطالعها باستمرار داخل زنزانته، وعند ذكره لهذه النقطة تعهد برسم إسم الشروق على لوحة من الجبس وتقديمها لطاقمها كهدية. أما سكنه المتواجد بحي 108 فهو لا يرقى إلى هذه التسمية، كون الغرفة الوحيدة بحجم السرير، أما المطبخ فكان عبارة عن "ديبارة" فضل رفع صورة صدام البوستار الذي أهدته الشروق لقرائها تحصل عليه وهو داخل السجن. مضيفا بأنه لم يكن "عايش في هذه الدنيا" في إشارة منه إلى عذابات السجون والمشاكل التي رمت به في أحضانها وبين قضبانها، ليؤكد بأنه فطن في 06 / 07 / 2007 يوم استفادته من العفو الرئاسي، وخطا أول خطوة نحو الحرية، برفقة أمه المكافحة. عمر جديد... من هنا نبدأ! هذا الأخير الذي كان في السجن يحمل رقم 4365، قال إنه يريدها توبة مقبولة عند ربّ العالمين، مناشدا أهل البر والإحسان مساعدته على الاندماج في المجتمع، خاصة وأنه يسعى حاليا للاستفادة بمحل من محلات الرئيس. لاستغلاله وفق شهادة التأهيل التي تحصل عليها من مؤسسة إعادة التربية "حلاقة الرجال" وبالتوازي كشف عن وثائق تتعلق بظروف السكن، منها محضر معاينة يعود تاريخه إلى 14 / 08 / 1994، يثبت وجود غرفة واحدة والمطبخ عبارة عن ديبارة تنقصه وسائل الرفاهية، مع أن المعني له 6 أولاد ووثائق أخرى، تتضمن مسار حياته في السجن وخارجه، ليقول في الأخير: "إنه ابن من أبناء الوطن وقد أخطأ ولكنه تاب إلى الله ويريد الإندماج في المجتمع" أما نحن فنقول لأمثال محمد الهاشمي رحمة الله واسعة ورحمته سبقت عذابه، وعلى الإنسان في مثل هذه الحالات أن ينظر حيث تشرق الشمس، وأن لا يمنعه حبل الماضي من تلبية نداء المستقبل. تحقيق/ الطيب بوداود