عندما عينت مليكة بن دودة وزيرة للثقافة، قبل أن تضاف لها الفنون، بعد التعديل الحكومي الأخير، صرحت لوسائل الإعلام قائلة: "تم اختياري لهذا المنصب، لإعطاء نفس ومفهوم جديد للثقافة، بعيدا عن المفهوم السطحي الذي يحمله الجزائري عنها، فالثقافة ليست محصورة في المهرجانات". الكل تساءل يومها عن هذه القادمة من أسوار الجامعة وأسئلة الفلسفة إلى ساحة السياسية، وهل في إمكانها مواجهة مخلفات قطاع نخره الفساد بعد استقالة أو إقالة وزيرة على وقع فضيحة حفل سولكينغ، فيما توجد وزيرة أخرى رهن الحبس المؤقت، واستدعي ثالث للشهادة في ملفات هي الآن بحوزة القضاء؟ خاصة وأن الوزيرة الجديدة جاءت من خارج دهاليز الإدارة وأروقة السياسة التي كانت تعاقرها كأفكار في تخصصها "الفلسفة السياسية". ورثت بن دودة قطاعا وملفات ثقيلة ومؤسسات ملغمة، فاستعانت بهامش الشك الذي يميز الفلاسفة عندما عملت في البداية بتحفظ مع طاقم الوزارة، وعملت في ما بعد على استقدام ترسانة من المستشارين والاستعانة بالأصدقاء ومحيطها الجامعي، بغية إرساء تقاليد جديدة في الانفتاح على المحيط والشركاء. ولكن بن دودة سرعان ما اكتشفت أن "الفلسفة الوزارية" ليست هي ذاتها الفلسفة في الجامعة، وربما طرح الأسئلة صار أصعب من البحث عن إجابات لها في قطاع ورثته بألغامه وفضائحه، وساحة ثقافية متعفنة مليئة بالمتسلقين والمتزلفين والطماعين والمنافقين ومتصيدي الفرص. في البداية أطلقت بن دودة جلساتها أو ما اصطلح عليه ب" قهوة مع الوزيرة"، في محاولة منها لإحياء تقليد فرنسي قديم كان الوزراء والرؤساء يمارسونه مع النخبة، لمعرفة ما يدور في الساحة. ولكن، هل النخبة في الجزائر هي نفسها النخبة في باريس؟ لم تكن بن دودة تهدف من وراء تلك الجلسات إلى معرفة مشاكل قطاعها بقدر ما كانت ترمي إلى البحث عن الحلول. فقد كانت كما قالت هي في إحدى تلك الجلسات "تقوم بكاستينق" من أجل إيجاد بروفايلات لأشخاص، تجتمع فيهم صفة الثقافة والإدارة، ولم يكن ذلك بالشيء الهين كما قالت. بعد مضي أشهر، أثبتت الوافدة الجديدة إلى قصر العناصر أنها ليست سهلة، وتخفي وراء وداعة الصورة ورزانة الصوت شخصية صارمة حسمت لصالحها عددا من الصراعات التي بدأت تظهر للعلن بينها وبين شركاء البيت بعد إقالة كاتب الدولة للإنتاج الثقافي سليم دادا، وإلحاق صفة الفنون بالثقافة، وحيدت كاتب الدولة للسينما الذي اختفى من ساحة الأضواء التي استفردت بها دكتورة الفلسفة. حاولت بن دودة بكل ما تحمل من أبهة الشهادة وحصانة الجامعة وهيبة الباحثة فرض فلسفتها "في التغيير"، من خلال فتح مجموعة من الورشات وإطلاق سلسلة من اللجان التي ترمي إلى إصلاح قطاعها فكانت لجنة إصلاح الكتاب ولجنة إصلاح المسرح ولجنة سوق الفن. ولكن، ماذا حدث بعدها؟ حتى الآن، وباستثناء لجنة سوق الفن التي قدمت تقريرها لا تزال اللجان الأخرى قيد إعداد تقارير قيل إنها تشكل أرضية لإصلاحات بن دودة. وعمدت الوزيرة، في سياق متصل، إلى إطلاق عقود النجاعة بالنسبة إلى عدد من مديري المسارح، تمهيدا لتعميمها على باقي المؤسسات، وكان الهدف منها خلق ميكانزمات يمكن على أساسها محاسبة المسؤولين. وتساءلت الساحة الثقافية يومها على أي أساس جدّدت الوزيرة الثقة في مديرين أثبتوا فشلهم؟ وما هي النجاعة التي تنتظرها منهم؟ كما تساءل البعض عن جدوى اللجان التي أطلقتها الوزيرة في ظل وجود إدارة ومديريات بإمكانها أن تقوم بهذا العمل، بل كان يجب أن تقوم به لأنه من صميم مهامها. سارعت بن دودة بعد تعيينها إلى إعدام كتاباتها السابقة على الفيسبوك، بل سارعت إلى غلق صفحتها السابقة وأصدرت الوزارة بيانا تقول فيه إن سيدة هضبة العناصر الجديدة لا تملك أي صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي، بل وراحت تلاحق إطاراتها وتراقب كتاباتهم بتعليمة داخلية. لكن الوزيرة ما لبثت أن عادت إلى الفايسبوك وتوتير، وقد تركت الدكتورة خلفها الفلسفة واعتنقت السياسة وصارت تغرّد وتنفي وتكذب وتعزي وتهنئ، عبر حساباتها الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي.. فقد كانت بن دودة في 2020 من أنشط وزراء تبون حضورا على المواقع الافتراضية، كما كانت أكثر المسؤولين ظهورا في الخرجات الميدانية، وأكثرهم تصريحا في وسائل الإعلام. ولكن ترسانة المستشارين الذين راهنت عليهم الوزيرة في تسويق صورتها ربما غاب عنهم أن الغبار والصخب الذي يخلفه هرج الكاميرات ونقاشات الفيسبوك سرعان ما ينقشع، وتظهر خلفه دار لقمان وقد بقيت على حالها. بعد عام من استوزار بن دودة، هل نسيت الوزيرة أو نسي محيطها في خضم صخب الظهور أن مهمة الوزارة الأساسية ليست التنشيط الثقافي، بل توفير الأطر والبيئة للمثقفين والمجتمع المدني، لينتج الثقافة، فراحت الوزارة تقوم بمهام الجمعيات في التنشيط الثقافي، بتنظيم ندوات ولقاءات، عناوينها أكبر منها، وقد كان "الدخول الثقافي وندوة مالك بن نبي" مقياسا حقيقيا لنوع النشاطات وطريقة التنشيط والتسويق التي اعتمدتها وزيرة وعدت في بداية التنصيب بإيجاد ثقافة مختلفة وأكثر جدية، بعيدا عن المهرجانات. فقد حرصت إدارة بن دودة في 2020 بمنافسة المبادرات الشبانية، وصار الإعلان عن مجلة حدثا كبيرا تنتقل من أجله الوزيرة للتلفزيون. في اتجاه آخر، ورغم الخرجات الميدانية الكثيرة للوزرة سواء في الولايات أم في العاصمة، لم تتمكن إدارة بن دودة من لمّ شمل شركاء القطاع من الناشرين ومحترفي السينما والموسيقيين والفنانين، الذين احتجوا أكثر من مرة بسبب "التهميش، وغياب القوانين، وأشياء أخرى". ربما من المجحف حقا تحميل بن دودة عبء مساوئ قطاع ورثته هشا وملغما بملفات الفساد والتجاوزات وكوارث من سبقها في التسيير وفي بيئة معادية للمرأة ومعادية للثقافة ومحيط مليء بالمتسلقين والمنافقين والمتملقين والمتربصين بالفرص والمناصب. وربما يمكن أيضا إلصاق بعض إخفاقات التسيير في جائحة كورونا التي أغلقت الفضاءات وأوقفت النشاطات وحدّت من الحركة. لكن، من جهة أخرى، لا يمكن أن نتجاهل أن السياسة التي أعلنت الوزيرة القطيعة معها في بداية تنصيبها لا تزال مستمرة، بل ويعاد إنتاجها بمستوى أكثر ضحالة وأقل احترافية، "ثقافة المهرجانات والسطحية". ومن سخرية الأقدار، أن بن دودة التي أعلنت القطيعة مع ثقافة المهرجانات، سقطت في ثقافة الغربال، عندما ختمت عامها بغربال الكسكسي الذي صنفته اليونسكو، فنسيت للحظة أن تفرق ما بين مقامها كامرأة ومكانتها كوزيرة، فجنت على نفسها بتصريحات كانت في غنى عنها. وبعيدا عن تقارير قبيلة المستشارين وماراطون الزيارات والخرجات وبوستات الفيسبوك وتوتير، لا تزال وبعد عام من استوزار بن دودة أغلب المؤسسات بلا مديرين، "الديوان الوطني لحقوق المؤلف، وديوان رياض الفتح، وديوان الثقافة والإعلام، والأوبرا والمركز الجزائري للسينما".. رغم أهمية هذه المؤسسات اقتصاديا للقطاع، خاصة وأن الوزيرة التي رفعت شعار محاربة الفساد والشفافية مازالت مصرة على دمج قطاعها في النسيج الاقتصادي، فيما بعض مؤسسات القطاع على حافة الإفلاس. فهل يمكن للوزيرة، التي لم تتمكن خلال عام كامل من إيجاد مديرين لمؤسسات تابعة لقطاعها، من إقناع الساحة الثقافية وخلق الإجماع لدى الشركاء؟ تقف بن دودة على أعتاب العام الجديد وأمامها رهان وتحدي تنظيف الساحة وقبلها محيطها من المتزلفين والطماعين والمنافقين، والوفاء بوعودها وتجسيد سلسلة القرارات التي أسدتها وغلق سلسلة الورشات التي فتحتها. فهل تنجح بن دودة في فرض فلسفتها على قطاع أصبح في السنوات الأخيرة مرادفا للفساد وسوء التسيير؟