كانت رائحة العفن لا تطاق لأنه بكل بساطة لا توجد داخل الأكواخ القصديرية قنوات لصرف المياه القذرة، لكن خيوط الكهرباء كانت ممتدة من كوخ إلى آخر في أشبه ما تكون بشبكة عنكبوت.. خلف إحدى الأكواخ القصديرية في منطقة ما من العاصمة وجدنا صبيا حافي القدمين شعر بأننا غرباء مما جعله يسرع باتجاه والدته .. وعلى جدارية بيت من القصدير كتبت عبارة منحطة غير أخلاقية قيل لنا فيما بعد .. إنه بيت للدعارة عقارب الساعة تقترب من الواحدة منتصف النهار ذات يوم خميس كنا في أحد أعرق الأحياء الفوضوية إن صح التعبير.. قصدير واد السمار، سنوات مرت على هذا الحي ولد أطفال وترعرعوا ودخلوا المدرسة منهم من يملك وثائق مرخصة بالبناء وبطاقة ناخب ومنهم من لا يملك غير البطاقة الخضراء على حد قول أحدهم، أغلبهم ينحدر من الجزائر العميقة رمت بهم الظروف بحثا عن العمل إلى دهاليز العاصمة، لا غرابة في أن يحدثنا محمد أن صديقه نور الدين تمكن من الحرقة منذ سنوات وهو يعمل في فرنسا يرسل له ملابس مستعملة أو ما يعرف ''بالشيفون'' لإعادة بيعها في العاصمة مقابل أن يمنح محمد لعائلته قسطا من الأرباح كل شهر.. أغنياء تحت سقف القصدير في حي ''قريقوري '' بالقبة بالقرب من إحدى الأكواخ القصديرية تركن يوميا سيارة فاخرة إلى جانب سيارات أخرى أغلبها خدماتية وتنتشر بشكل فضيع الهوائيات أو ''البرابول'' حتى أن داخل كوخ قصديري تلمح أكثر من هوائي مما يعني أن هناك أكثر من شاشة تلفزيون واحدة، كنا نحاول ربما أن نستغل سذاجة الأطفال في توجيه أسئلة ليست بريئة .. يجيب محمد الأمين '' أنا نقرا في مدرسة النجاح .. أجل إنها سيارة والدي '' تطل امرأة من خلف القصدير اعتقدت في البداية أننا تابعين للبلدية أو ما تعرف بلجنة السكن، لنخبرها أننا صحافة ونحاول نقل جزء من مشاكلهم.. تتحدث قائلة: لا نملك سكنا إننا نعيش ظروفا مأساوية نمرض في الشتاء من البرد ونمرض في الصيف من شدة الحر... في وادي قريش بباش جراح سكان مضى عليهم سنوات من الإقامة حتى أن قصدير البيوت أكله الصدأ كانت هناك دكاكين، محلات صغيرة، للحظات يخيل لك أنك داخل الريف، اقتربنا من إحدى البيوت القصديرية طرقنا بابا خشبيا تطل علينا امرأة تبدوا في عقد الأربعين من عمرها أخبرناها أننا صحافة في البداية استغربت ثم رحبت بنا داخل كوخها القصديري عفوا .. الفيلا القصديرية .. هكذا بدت لنا عريقة من حيث تأثيثها، استغربنا لوضعية البلاط والطلاء وحتى شراشيف الزينة كلها من أجود ما يباع في الأسواق، في صالة الضيوف، كان هناك جهاز تلفاز من أحسن الماركات العالمية، ومع كل هذا ظلت السيدة تطرح مشكل السكن ومعاناتها لنكتشف بعدها أنها جاءت من إحدى الولايات الداخلية وبالضبط من منطقة ''ديرة'' بولاية البويرة وغير بعيد عن فلتها القصديرية أقامت لأبنها بيتا من القصدير زوجته وأنجب طفلين داخل القصدير مع العلم انه إطار بإحدى المؤسسات التربوية... الساعة الرابعة مساءا انتقلنا إلى أحد الأكواخ الراقية تعرفون أين .. نحن بقصدير مقام الشهيد . أكواخ للدعارة وأخرى للخمر والمخدرات الجزيرة بحي الجرف بمنطقة باب الزوار الساعة الثامنة والنصف صباحا كنا هناك حي فوضوي يعرفه الجيران بممارسة بعض البيوت لأقدم مهنة في التاريخ يتحدث الجيران في حي رابيا طاهر عن مرور سيارات فاخرة تتوقف يوميا بالمكان كما يشهد آخرون أن الحي أصبح نقطة سوداء في منطقتهم، البعض منهم أخبرنا أن هذا الحي الفوضوي الذي يضم حوالي 40 عائلة كثيرا ما شكل نقطة استياء لجيران المنطقة، في قصدير السمار يتواجد أكثر من 5000 بيت قصديري كنا نشعر بالرعب ونحن نخترق الأكواخ بعض الرسومات منحطة وغير أخلاقية على غرار كوخ قصديري في إحدى زوايا القرية الفوضوية كان هناك باب طلي باللون الأخضر اقتربنا قليلا وراحت تلاحقنا بعض النظرات كانت مهيبة لنسمع بعدها من أحدهم مساومات وتحرشات توقفنا وربما بجرئة صحفية حاولنا أن نعرف المقصود .. إنه فعلا بيت للدعارة والمكان محرم إلا لمن يريد .. لحظتها حاولنا أن نهرب المكان، وحتى ونحن داخل قصدير درقانة تتكرر نفس الأسطوانة الطريق محجوز لعاهرات الليل يمر بالمكان يوميا أشخاص يقلون سيدات من المكان، شهادات الجيران تؤكد ذلك. سمسرة في الأراضي وقرصنة لخيوط الكهرباء يجتهد بعض الأشخاص في احتلال أماكن ضمن مواقع القصدير، ليقوموا فيما بعد ببيعها بمبالغ تتراوح ما بين خمسة ملايين وثمانية ملايين سنتيم للقطعة الأرضية الواحدة لصالح عائلات تطمع في الظفر ببناء كوخ قصديري يتحول بعدها إلى مشروع للمطالبة بسكن اجتماعي، كثيرون هم الذين ظفروا بسكن لائق أغلبهم يختار مناطق العبور لإقامة كوخ القصدير أو المناطق الراقية على غرار حيدرة، فحتى هذه البلدية طالها القصدير وأضحى هناك مكان لقرية قصديرية يطمح سكانها حسب أقوالهم للحصول على شهادة إقامة، بغية المطالبة بسكن اجتماعي. جانب آخر من كواليبس البيوت القصديرية ظاهرة القرصنة على خيوط الكهرباء ففي جل الأحياء التي زرناها كانت كل البيوت مجهزة بالكهرباء منهم من كان يسدد الفاتورة باعتبار انه يملك وثيقة إقامة، وآخرون استغربوا لسؤالنا كونهم قاموا بجذب خيوط للكهرباء ممن يملك رخصة البناء على أن يشتركوا في النهاية في تسديد الفاتورة، وفي أغرب ما تحصلنا عليه أن هناك اشتراك بين أكثر من كوخ حول تسديد فاتورة واحدة، من جهة أخرى تحصي مصالح سونلغاز أن نسبة قرصنة الكهرباء في ولاية العاصمة تقدر ب15 بالمائة وتقدر على مستوى الوطن ب 18 بالمائة، طبعا رقم خارج فاتورة سونلغاز تتحمل البيوت القصديرية جزءا كبيرا منه. بورصة الأكواخ ومافيا القصدير يبلغ ثمن كوخ من القصدير في منطقة مرشحة لترحيل سكانها إلى سكنات اجتماعية ما يقارب 20 مليون سنتيم، مع عقد الملكية في حين يقدر ثمن قطعة على قرية فوضوية أو قصديرية ما بين 5 ملايين و 10 ملايين، لكن هناك بعض الأراضي يحصل عليها مجانا كالمستثمرات الفلاحية، التي تتعرض يوميا إلى مختلف أشكال القرصنة، حيث توجد في الجزائر حوالي 1509 مستثمرة فلاحية ، شهدت في السنوات الأخيرة خاصة بين عامي 2005 و 2006 زحف البيوت القصديرية، مما جعل السلطات تتحرك بداية شهر سبتمبر الحالي لإقامة يوم تحسيسي جمع رؤساء المستثمرات الفلاحية حول خطر انتشار البناءات الفوضوية بولاية الجزائر حيث تنشط أكثر من 35 مستثمرة، لكن للأسف منها من زحف القصدير على أراضيها على غرار ''علي برواقي'' ببلدية الحراش حيث توجد بها أكثر من 100 بيت قصديري، والمستثمرات الفلاحية الخمسة في برج الكيفان، من كواليس الظاهرة، أن الذين يملكون وثائق الإقامة بعد حصولهم على سكنات لائقة يقومون ببيع تلك القطع الأرضية إلى الراغبين في الاستفادة من ميزات القصدير، أو أنهم يحولون بيوتهم لأقاربهم القادمين من عمق الجزائر الداخلية، على غرار أحدهم لم يخفي علينا أن تحصل على كوخه القصديري بالسمار مقابل 8 ملايين منذ أكثر من سنتين، تمكن خلالها من الزواج والحصول على عمل ضمن إحدى مقاولات البناء. لكن من أين يحصلون هؤلاء على القصدير حتى يبنوا كل هذه الأكواخ ؟ .. إنهم مافيا القصدير شبكة من التجار تتخذ من بقايا خردوات النحاس والحديد والقصدير مهنة رائجة لبيع الصفيح الأبيض يقدر ثمن صفيحة من القصدير ما بين 2000 دج و 5000 دج حسب جودة المنتوج، ولا غرابة إن كانت هناك مصانع تقوم بتصميم قطع خاصة ببناء بيت قصديري حتى يخيل لك أن هناك شركات لبيع بيوت قصديرية جاهزة على غرار '' الشاليهات '' وستعود الشروق اليومي لنشر تفاصيل أخرى عن هذا الملف . أميار العهدة السابقة دشنوا مشروع المليون كوخ قصديري ساهمت المجالس البلدية كثيرا في انتشار البيوت الفوضوية والسكنات غير اللائقة، حيث غالبا ما تغظ الطرف عن نزوح العائلات وتمركزها في المناطق المراد استهدافها بطرق مخالفة للقانون، متماطلة في استعمال حقها القانوني القاضي بهدم أي سكن فوضوي أو غير لائق في الوهلة الأولى من بنائه، الأمر الذي يُفضي في آخر المطاف إلى قرى فوضوية متشبعة بمئات البنايات التي يصعب تهديمها لتصبح أمرا واقعا، فعلى حد قول أحد قاطني البيوت القصدرية في منطقة عين البنيان عندما أقدمت مؤخرا السلطات المحلية على هدم كوخه القصديري لماذا تركوني أبني بيتي وأتزوج فيه وأنجب فيه أطفالي وعندما دخلوا المدرسة قاموا بهدمه .. هي صورة تراجيدية نقلت الشروق اليومي تفاصيلها في إحدى تغطياتها للقسم المحلي، حيث لا يزال المواطن إلى غاية اليوم متواجدا وأسرته في نفس المكان دون سقف قصدير يحميه وعائلته. كفانا من البيوت القصديرية أصبح ملف البيوت القصديرية يشكل أولوية من أولويات رئيس الجمهورية حيث أنه في آخر خرجاته الميدانية في ولاية وهران قال أمام جمع من رجال الإعلام و السياسة وبشكل من الوعيد والتهديد ''... كفانا من الأكواخ القصدرية يجب الانتهاء وللأبد من كل أشكال البيوت القصديرية .. '' موجها انتقادا شديد اللهجة على ضرورة الهدم الفوري والمنتظم للسكن الفوضوي.. وفي ذات الوقت أمر رئيس الجمهورية على ضرورة التعجيل في تجسيد برنامج المليون سكن الذي رصد له أكثر من 150 مليار دولار، غير أن ميزة العهدة السابقة من محليات عام 2002 الانتشار الفظيع لظاهرة تنامي البيوت القصديرية فعلى سبيل المثال تحصي بلديات العاصمة بما فيما المناطق الراقية كحيدرة وجود أكواخ قصديرية تنمو بسرعة الطفيليات بين عشية وضحاها على غرار بناء ما يقارب 20 بيتا قصديريا في ليلة واحدة منتصف شهر أوت الماضي في بلدية بوروبة بالعاصمة، وكمتوسط تحصي بلديات العاصمة ما بين 200 و500 بيت قصديري وهناك بعض البلديات يفوق فيها عدد البيوت القصديرية 1000 كوخ وتضم اعدادا هائلة من السكان أغلبهم ينحدر من المناطق الداخلية القريبة من العاصمة التي يأت مواطنوها بحثا عن العمل في العاصمة، لينتقل بهم الأمر إلى البحث عن قطع أرضية لبناء أكواخ قصديرية وسرعان ما يتطور بهم الأمر إلى البحث عن سكنات لائقة بعد حصولهم على وثائق بالبيروقراطية للحصول على سكنات اجتماعية مما جعل بلديات العاصمة تغرق في ملفات السكنات الاجتماعية.. حيث يقدر متوسط ملفات السكن ما يفوق 5000 ملف سكن ويفوق في بعض البلديات 10 آلاف طلب سكن، من جهة أخرى وبحثا منا عن أرقام دقيقة لعدد البيوت القصديرية عبر الوطن، فوجئنا برقم رهيب يفوق 700 ألف كوخ قصديري حيث كشف مصدر برلماني على صلة بالملف أن عدد البيوت القصدرية فاق عام 2003 بما يقدر ب 520928 سكن فوضوي موزعة على 3791 وهي الأرقام التي أكدتها وقتها وزارة الإسكان في إجابة عن سؤال شفهي طرحه نائب في البرلمان وبالرغم من انه مرت عدة سنوات على التاريخ إلى انه لم يتم تحديث الإحصاء، غير أن مصادرنا تشير إلى تجاوز الرقم مع نهاية عام 2006 إلى أكثر من 700 ألف كوخ يرتكزون في الولايات الكبرى من الشريط الساحلي وتعتبر ولاية وهران والعاصمة من بين أكبر الولايات إحصاءا للبيوت القصدرية، كما أشارت مصادرنا إلى أن المصالح العمومية قامت بمجهودات جبارة خاصة بعد تهديد رئيس الجمهورية حيث تم هدم أكثر من 60 ألف بيت قصديري من بينها 57852 كوخ قصديري تم هدمه في الفترة ما بين 2002 و 2004 وأغلبها في ولايات قسنطينة، عنابة، قالمة، البويرة ويتم هدم البيوت القصدرية وفق ما ينص عليه القانون رقم 04/ 05 المتعلق بالتهيئة العمرانية والذي يخول للسلطات العمومية حق الهدم دون ترخيص من دون اللجوء إلى قرار العدالة. تحقيق : فضيلة مختاري / نسيمة بلعباس