بقلم: محمد الهادي الحسني بعض الناس إذا سمعتهم يتكلمون، أو قرأت لهم ما يكتبون تمنيت أن لو كنت أصمّ كي لا تسمع، أو أعمى كي لا تقرأ، لأن ما قالوه أو كتبوه يجعلك تشك في أن لهم عقولا يدركون بها الأشياء، وترتاب في أن لهم قلوبا يعقلون بها الأمور، خاصة إذا كان هذا القائل أو ذاك الكاتب »مصدرا مسؤولا«. دعاني إلى هذا القول ما جاء في جريدة الشروق اليومي في عددها 2149، الصادر يوم 15 نوفمبر الجاري، وهو »أكّد أمس مصدر مسؤول بمديرية التربية لغرداية ل»الشروق« أن كتاب التاريخ للسنة الثانية متوسط، والذي تضمن وصفا للإباضيين ب»الخوارج« وأخطاء أخرى لم يعد متداولا عبر تراب الولاية«. إن صح هذا القول وما أظنه إلا صحيحا، لأن هذا »المصدر المسؤول« لم يكذب ما نُسب إليه وما نقل عنه أو يصححه فإنني أشك في حسن تقدير هذا »المصدر المسؤول« للمسؤولية التي عُهد بها إليه. إن الأمر الذي يدعو إلى الشك في حسن تقدير هذا »المصدر المسؤول« للمسؤولية التي أنيطت به هو تخصيصه ولاية غرداية حيث جاء في »التأكيد« المنسوب إليه، وغير المكذب أو المصحح، من قبله، أن الكتاب المعني »لم يعد متداولا عبر تراب الولاية«. لقد ضربتُ أخماسا لأسداس لفهم هذا القول المنسوب لهذا »المصدر المسؤول« فاهتديتُ إلى أن هذا القول لا يحتمل إلا أحد احتمالين هما: * إمّا أن الكتاب سُحب من ولاية غرداية، ولم يذكر سيادته إن كان الكتاب قد عوض بكتاب آخر. أو أن تلاميذ السنة الثانية متوسط في ولاية غرداية لا يقرأون التاريخ. * وإمّا كما قالت مصادر من وزارة التربية »إن الأخطاء تم تصحيحها فورا بعد الملاحظات التي قدمها أعيان منطقة وادي ميزاب خلال استقبالهم من قبل الوزير شخصيا عام 2005«. والسؤال الذي يطرح هو: هل هذا التصحيح شمل جميع كتب التاريخ للسنة الثانية متوسط في جميع مدارس الدولة الجزائرية؟ يقول مقال جريدة الشروق: »إن تعليمات لمسؤولي الوزارة صدرت بضرورة التعجيل بتصحيح هذه الأخطاء«، وأن التعليمة الوزارية جاءت في شكل تنبيه إلى السادة مديري التربية في الولايات، ليطلبوا من السيدات والسادة مفتشي التربية والتعليم للمواد الاجتماعية، ومن خلالهم السيدات والسادة أساتذة المواد الاجتماعية، إلى هذه الأخطاء وتصوبيها. لقد أهمّني هذا الأمر، فسارعت إلى استعارة كتاب التاريخ للسنة الثانية متوسط من أحد التلاميذ بولاية البليدة، ورجعت إلى الدرس المعني فوجدتُ الخطأ مايزال موجودا بالرغم من مرور حولين كاملين على تعليمة وزارة التربية. وما أظن التلميذ لو طلب منه تصحيح الخطأ يتردد في ذلك. وإذا كان التلميذ قد تهاون في تصحيح الخطأ فما هو دور الأستاذ؟ كل هذا جعلني أميل إلى أن التصحيح وقع في ولاية غرداية فقط، ولو أن التعليمة شددت على وجوب التصحيح في جميع المدارس لتم هذا التصحيح من تلمسان إلى الدرعان، ومن تندوف إلى سوف. وإن كان التصحيح أُريد به تطييب نفوس الإباضيين والأخذ بخواطرهم، فهل الإباضيون لا يوجدون إلا في ولاية غرداية؟ وهل من »المسؤولية« تقديم نوعين من المعارف إلى تلاميذنا؟ إن سبب هذا كله هو أننا نتناول الققضايا الكبيرة بعقول صغيرة، وقد صدق الأستاذ عبد العالي رزاقي عندما كتب: »لو كانت هناك لجان علمية حقيقية تشرف على الكتاب المدرسي لما تكررت الأخطاء«. (الشروق اليومي في 19 - 11 - 2007 ص19). وعلى ذكر الأخطاء فإن الكتاب المشار إليه مملوء بالأخطاء الإملائية، والنحوية، واللغوية... والمطبعية. إذا كان بعض الأخطاء لا يثير مشكلة، ولا يسبب فتنة، فإن بعضها قد يكون سببا في إضرام نار فتنة لا تبقي ولا تذر، لأن أصحاب النفوس السيّئة يتخذون هذه الأخطاء دَخَلاً لتحقيق مآرب شخصية، ولو أدّى ذلك إلى »خراب البصرة« كما يقال. وهذا ما أشار إليه مقال جريدة الشروق، حيث ورد فيه: »يتردد في أوساط الشارع بغرداية حسب ما وقفت عليه الشروق أن الملف وُظّف في إطار الحملة الانتخابية لصالح أحزاب معينة«. وإني لأجد ريح هذه الأحزاب، وهي معروفة بسيماها وفي لحن القول، فمنها من يستعمل العصبية العرقية، ومنها من يستغل العصبية المذهبية. ولو علم هؤلاء وأولئك أن دعاة العصبية المنتنة من جثَيّ جهنم لما ركبوا هذا المركب، ولو علموا الحكمة القائلة: »يفنى ما في القدور ويبقى ما في الصدور«، لما أوغروا هذه الصدور، ولما أقاموا سكنا وخرّبوا وطنا. ولعنة الله على منصب يُنَال على أشلاء شعب، ولعنة الله على كل فتّان ولو زعم أنه من عباد الرحمن. إنني أدعو كل جزائري، أصيل العرق، سليم الصدر، ناضج الفكر، صادق الوطنية أن يتصدى بكل حزم وعزم إلى هذه الأخطاء التي قد تحوّل هذه الجنة التي سماها آباؤنا »الجزائر« إلى جحيم يشوي وجوهنا، ويكوي جباهنا وجنوبنا. ومن التصدي إلى هذه الأخطاء القاتلة التخلص مما يشاع بيننا من اصطلاحات وعبارات ورثناها عن عهود التمزق والصراعات، وهي مصطلحات وعبارات تجرح بعضنا، وتفرق صفنا. فإذا كان الإخوة الإباضيون مثلا لا يرضون أن يُسَمّوا »الخوارج«، ويرون ذلك تجنيّا على حقيقتهم التاريخية، ويعتبرونه قدحا فيهم، فلماذا يصرّ بعضنا على هذه التسمية؟ وهل يقبل هذا البعض أن يُنْبَزَ بلقب، أو يعيّر بنعت لا يرضاه؟ ولماذا لا نسميهم بما سموا به أنفسهم وهو »الإباضية« ونصفهم بما وصفوا به أنفسهم وهو »أهل الدعوة والاستقامة(1)«، فتأتلف القلوب، وتصفو الصدور، ونتعاون جميعا على البر والقتوى، وننعم جميعا بهذه الجنة الدنيوية المسماة »الجزائر«. إن مصطلح »الخوارج« يعني بكل بساطة أن المسلم غير الخارجي حِلٌّ دمه وعرضه وماله. ولنسأل أنفسنا: لو كان المذهب الإباضي »خارجيا«، هل يقبل مجمع الفقه الإسلامي وهو أعلى هيئة شرعية في العالم الإسلامي أن يكون هذا المذهب من المذاهب الإسلامية الثمانية التي يعترف بها، ويعتمدها في بحوثه الشرعية، وفتاويه الدينية؟ ثم ها هو تاريخنا الجزائري يشهد أن الإباضيين وقد كانوا أصحاب دولة ذات صولة لم يحلوا دما، ولم يستحلوا عرضا، ولا مالا، بل طبع التسامح دولتهم. وأنا لا أقول هذا الكلام من عندي، ولا أنقله عن إباضي، ولكنني أنقل عن مؤرخ معاصر للدولة الرستمية، وهو إبن الصغير، وما هو بإباضي، ولعله كان ذا ميول شيعية، حيث يقول: »ومن أتى حِلَقَ الإباضية من غيرهم قرّبوه، وناظروه ألطف مناظرة، وكذلك من أتى من الإباضية إلى حِلَق غيرهم كان سبيله كذلك(2)«. وإذا كان مبتدأ الخوارج هو الخروج عن الإمام علي رضي الله عنه وكرم وجهه فإن إبن الصغير يشهد أن الإباضيين في تيهرت »كانت خطبهم على منابرهم خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ما خلا خطبة التحكيم(3)«. أنا لا أجادل عن إخوتي الإباضيين بالباطل، ولا أحمدهم بما لم يفعلوا، ولكنني لا أبخسهم أشياءهم. وماذا عليّ لو جادلت عنهم، وقد أنصفهم من هو أعلى مني مقاما، وأغزر علما، فها هو المؤرخ الجزائري محمد بن الأعرج السليماني يقول عنهم: »رجال أبطال، على جانب من الذكاء، موصوفون بصدق المعاملة، وحسن إدارة التجارة، واتقاء المحارم(4)«. إن جدالي عن كل فئة من الجزائريين هو جدال عن الجزائر العزيزة، وعن الشعب الجزائر المجيد، لأنني ما شممت رائحة عرقية أو مذهبية إلا وضعت يدي على قلبي خوفا على شعبي أن يتفرق، وعلى وطني أن يتمزق. وكلمتي إلى إخوتي الجزائريين وأنا أدناهم هي أن نحمد الله عز وجل قياما وقعودا وعلى جنوبنا، آناء الليل وأطراف النهار، إذ منّ علينا فهدانا إلى الإسلام، ومنّ علينا بهذا التسامح بين مذهبينا المالكي والإباضي. ولئن سمحنا لشياطين الإنس أن ينزغوا بيننا، إنّا إذن لمن الأخسرين أعمالا، الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا. الهوامش (1) محمد ناصر: منهج الدعوة عند الإباضية. القرارة 1999. ص 17. (2) ابن الصغير: أخبار الأئمة الرستميين ط. دار الغرب الإسلامي ص 117. (3) المصدر نفسه... ص 89. (4) محمد بن الأعرج السليماني: اللسان المُعْرِب عن تهافت الأجنبي حول المغرب. الرباط. مطبعية الأمنية. ص 81. ومحمد بن الأعرج، عالم جزائري، هاجر أهله إلى المغرب الأقصى، وقد توفي هناك في سنة 1927