تحت سور عكا ألقى الإمبراطور الفرنسي نابليون، بقبعته قائلا: هنا أدفن أحلامي تحت أسوارك يا عكا، بعد فترة ليست طويلة من السنين، قال الأمير عبد القادر الحسني الجزائري، أذهب إلى عكا عندما خيّره الفرنسيون إلى أين يرحل. قالوا عنها إنها لا تخشى البحر، وإن البحر يستمد منها عناده ولا تزيدها الأيام إلا تألقا في الذاكرة، ووضوحا في الرؤية، هي الآن تواجه عملية واسعة من ترحيل أبنائها بعد أن أعيت محتلّيها ولم تخلع هويتها الحضارية، وظلت حجارتها تنطق بسير التاريخ وتمد لسانها تهزأ من المحتلين، فكم مر من هنا غزاة لم يأخذوا من حجارتها إلا الغبار، ومن هوائها إلا العفار، وظلت عكا المدينة العربية العريقة شاهدة على زوال المحتلين وانهيار الظالمين. في عكا بيت تملكه السيدة أم أحمد، بجوار مسجد قد هجر منذ النكبة 1948، قضت سلطات الاحتلال على الاستيلاء عليه فهبّ العكيون ليحيوا المكان ويحتشدوا فيه، ويقيموا صلاة الجمعة في المسجد المهجور، وتصبح كل البيوت بيت أم أحمد، وهكذا يتفاجأ العدو المتغطرس أنه يحتاج لاحتلال كل بيت لمعركة، ولن تنتهي حتى لو تمكنت جرافاته من هدم البيت، فالبيوت في فلسطين مزروعة في قلوب ساكنيها، وبقلوبهم لا ترحل أبدا ولا هم يرحلون. في العمق الفلسطيني وعلى طول الساحل، والجليل وصحراء النقب، وقرى بئر السبع وباديته يخوض الفلسطينيون معركة وجود أسطورية، فبعد أن ظن العدو أن الجثة همدت، وأن الذبح قطع منها الوريد فاقترب بسكينه يفصلها كيف يشاء، إلا أن ما ظنوه جثة انتفض كلما اقتربت سكين التقطيع، لأن الجسم الفلسطيني شعبا وأرضا غير قابل للقسمة، وكل المحاولات التي تقوم بها المؤسسات الصهيونية محض هباء، والزمن دائما في عبقرية المكان. في عكا وفي يافا، وفي الجليل، لم تتوقف الحملة الإسرائيلية لإخراج الناس من بيتوهم، وتغيير معالم الأرض والعمران إلا أن المسألة تصعب على المؤسسة الصهيونية، ولا زال الخوف الوجودي يسكن الوجدان الصهيوني بأن إمكانية توفر الهدوء والهناءة في احتلال فلسطين إنما هو مجرد وهم. وهذا يفتح معركة أخرى من الضروري أن تظهرها وسائل الاعلام والمؤسسات العربية، فرغم أن إسرائيل تنقل المعركة إلى مدن الضفة الغربية وقراها، والقدس والمسجد الأقصى ينقل الفلسطينيون معركتهم الحساسة والخطيرة إلى عمق فلسطين، ليثبت الفلسطينيون أنهم استطاعوا أن يلغوا فرضية إسرائيل، بأن نقل المعركة إلى أرض الضفة الغربية يعني حسمها في الداخل الفلسطيني. إن نقل الفلسطينيين بعض جهدهم إلى الأممالمتحدة، لحجز مقعد لهم في المنظمات الدولية، يعني بوضوح أن المسألة أكبر مما يظنها العدو، وأنها تصنع شروطا أكثر تعقيدا وتشابكا، الأمر الذي يعني أن الفلسطينيين يتحصنون بالصبر والرباط إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.. تولانا الله برحمته.