كانت منطقة تنزاواتين في أقصى الحدود الجزائرية المالية مساء الأحد على موعد كان منتظرا منذ أسابيع لاطلاق سراح الدفعة الأولى من الرهائن الماليين الذين ظل المتمردون التوارق يحتجزونهم منذ أربعة أشهر، ظهر الرهائن العشرة وكلهم عسكريون بصحة جيدة يرتدون ألبسة رياضية. لم تدم الحفلة البسيطة التي نظمها الوسيط الجزائري أكثر من ساعة أحتضنتها خيمة نصبت خصيصا لذلك، وحضرها عن الطرف المالي وفد عسكري من ثلاثة ضباط سامين على رأسهم العقيد إلوا طوغو، وهو أحد أعضاء لجنة متابعة تطبيق اتفاق الجزائر الموقع صيف 2006 ، وفي حين لم يحضر عن المتمردين التوارق أي من قادتهم سوى الناطق الرسمي حمة الذي جاء متأخرا عن الموعد. وحضر عن الاطرف الجزائري وفد بسيط يتشكل أساسا من ممثلي الهلال الأحمر الجزائري ورئيس دائرة تنزاواتين، اختزلت هذه الحفلة البسيطة والكلمات المختصرة التي رافقتها ثلاثة أشهر من اتصالات الكواليس التي جمعت طرفي الصراع بوساطة جزائرية قادها السفير عبد الكريم غريب، وتبين ان جزءا هاما مما تم تكفلت بترسيم الاتفاق عليه القمة الرئاسية التي جمعت نوفمبر الماضي في الجزائر الرئيسين بوتفليقة وضيفه المالي أمادو توماني توري، وأعقب ذلك اخذ ورد وعقبات كادت تنسف كل شيئ وتعود به الى نقطة البداية . القمة الرئاسية .. بداية حل الأزمة في 25 نوفمبر جاء الرئيس امادو توماني توري لحضور قمة رئاسية مع بوتفليقة بملفات عديدة لم يحدد تاريخها الا أياما قليلة قبل انعقادها، جاءت مناقشة أمن الحدود على رأس هذه الملفات، واتفقت كل من الجزائر ومالي على تنظيم دوريات عسكرية مشتركة على طول الحدود البرية ما بين البلدين، من أجل مواجهة التهديدات الأمنية المختلفة فمن طرف لشبكات الإرهاب والجريمة المنظمة، على هامش القمة الرئاسية كان السفير عبد الركيم غريب الذي انتقل قبل نحو أسبوع بالجزائر يهندس للجمع ما بين طرفي الصراع وإعادتهم الى طاولة الحوار، وبرغم أن توري تحدث مستعملا لهجة حادة قائلا كما تكشف لنا مصادر دبلوماسية "لم نأت الى هنا للتفاوض على شيئ جديد، لا ننوي أبدا فتح محادثات مع كل مجموعة تحمل السلاح وتتحصن في الجبال". إلا ان ما فهم من كلامه هو ان توري يريد العودة التلقائية المباشرة إلى مسار اتفاق الجزائر دون إعطاء انطباع بأنه تفاوض على شيء جديد مع باهانغا الذي كان قد سبقه الى الجزائر قادما من تمنراست قبل أسبوعين والتحق به الزعيم التاريخي لجبهة الأزواد إياد غالي بعدها بأيام. وضغط الماليون من أجل وضع حد لحركة التمرد، ولذلك مبررات عديدة أهمها أن القوات المالية في تنزوايتن الصحراوية المعزولة لك تكن في وضع تحسد عليه، وعانت باماكو الأمرين من مشكلة تموين وحداتها المعسكرة هناك بحاجاتهم الغذائية واللوجيستية الأخرى عن طريق الجو واضطرت للاستنجاد بالجزائريين ثم بالأمريكيين لفعل ذلك. كان إجتماع الجزائر هو الأول مع حكومة مالي منذ تجدد العنف، وتم بحضور إياد غالي الزعيم التاريخي لجبهة الأزواد، الذين قادا المباحثات عن جانب التوارق، و رفض الرئيس أمادو توري أن يلتقي باهانغا وقاد المحادثات عن الجانب المالي وزير الداخلية الجنرال كافوغونا كوني. عندما غادر الجزائر حمل الرئيس المالي أمادو توماني توري معه التزامين من باهانغا بضمان جزائري، الأول أنه مستعد للعودة إلى اتفاق السلام الموقع في الجزائر و الثاني إطلاق سراح الرهائن الذين يحتجزهم "بدون شروط" و قال باهناغا أنه لا يرى مكانعا "في إعطاء عربون حسن نية بشرط ان يقابله الطرف الآخر بخطوات مماثلة اهمها انسحاب القواتالنظامية الى الوضع الذي كانت عليه قبل الأزمة، ولذلك وأضاف باهناغا على التعهدين السابقين أن "الاجتماع ستتلوه عدة جولات أخرى لمناقشة القضايا العالقة" ويبدو أن قرار إياد غالي، الضامن الأساسي في الاتفاق، التسريع بالانسحاب من الأزمة بقبوله منصب دبلوماسي في السعودية، قد أفرز جو ضغط على الجميع وإلزام باهانغا بتقديم تنازلات في عين المكان، كما بدأت الأنظار تتجه الى القنصل المالي الجديد في تمنراست القيادي السابق في جبهة الأزواد عبد الرحمان قلة، خيط الاتصال الجديد لمتابعة الجولات المتبقية، والذي قال عنه فاغاغا "رحبنا بوجوده في تمنراست ومستعدون للتعاون معه". من أجل إنقاذ هدنة رمضان لما بادر باهناغا لرفع السلاح مجدد ا مطلع الصيف الماضي وهاجم مواقع أمنية مالية لخص دوافعه بعدم تطبيق حكومة مالي لبنود اتفاق الجزائر الموقع في جويلية 2006 وبرتوكوله الإضافي الموقع في فيفري 2007 ما بين حكومة باماكو وتحالف 23 ماي من أجل التغيير، الذي تشكل غداة هجومات 23 ماي 2006. لكن مع أولى الرصاصات التي اطلقها باهانغا سارع أغلب رفاقه السابقين في قيادة تحالف 23 ماي الى التبرأ من عمله وانتقاده بشدة، جاء ذلك سريعا من أكبر ثلاثة شخصيات بارزة في قيادة التحالف، زعيمها السياسي أياد غالي، وذراعه الأيمن الناطق الرسمي باسم الحركة أحمد بيبي وأيضا القائد العسكري حسن فاغاغا، اتفقوا جميعهم على وصف خرجة باهانغا بالفردية التي لا تلزم تحالف 23 ماي ولا تؤشر على إخلاله بلتزاماته ضمن اتفاق الجزائر، وهو ذات الرأي المدين لباهانغا الذي صدرباكثر شدة من باماكو التي قالت أن ما قام به لا يعدو أن يكون قيادة لعصابة مسلحة لحماية تجار التهريب والمخدرات النشطة عبر الحدود، وأيضا انتقده الوسيط الجزائري وإن حرص على عدم اعلان ذلك صراحة، لكن الأمور تطورت فيما بعد لصالح باهانغا بعد أن ذهب بعيدا في هجوماته ليأسر ما يزيد عن 40 عسكريا ماليا ويقتل 10 آخرين كما حدث التصدع الأول في التحالف عندما التحق به رفيقه حسن فاغاغا مغاجئا الجميع، واكثر من هذا أعلن باهانغا عن تشكيل حركة سياسية هي تحالف الشمال من أجل التغيير. وبدأ يرسم اولى خطوات التنسيق مع توارق النيجر الذين يقودون بدورهم منذ فيفري الماضي تمردا مسلحا .. وهنا أصبح باهانغا واقعا لا يمكن تجاهله. الوسيط الجزائري كان يركز مجهوده على أن يفتك من من طرفي الصراع التزامهما بتهدئة التوتر وتمديد الهدنة المعلنة منذ رمضان الماضي من جانب باهانغا، والتمسك بمبدإ الرجوع إلى اتفاق الجزائر لتجاوز نقاط الخلاف التي كانت تحول دون تطبيق كامل بنوده. وقد بدأ يتابع لك منذ ثلاثة أشهر، وعندما حدث الاتصال لأول مرة ما بين باهانغا والوسيط الجزائري، مطلع شهر أكتوبر، أي بعد حوالي شهر على هجوماته الدامية ضد دوريات الجيش المالي، قال باهانغا له أنه لا يعتقد ان اتفاق الجزائر في ظل "تعنت وتهرب الحكومة المالية من تطبيقه" سيبقى سقفا نهائيا لمطالب جماعته، حاول الوسيط فهم كلامه اكثر فأجاب أنه لا يريد الحديث اكثر عن البديل الذي يحضره لأنه لا يزال محل نقاش وتداول على مستوى قيادات الحركة، و أنه يصب في تمكين التوارق من إدارة شؤونهم المحلية بأنفسهم وقيادة عجلة التنمية "بعيدا عن البيروقراطية المركزية" للحكومة. تلخصت الرسالة التي تلقها السفير غريب من الجزائر في جملة واحدة "افتك وقف لاطلاق النار بأي ثمن واترك مناقشة البقية الى وقت لاحق" وهو ما تم حيث استعان غريب بعدد من قدماء زعماء جبهة الأزواد وأعيان التوارق، وتم الاتفاق على إعلان هدنة مؤقتة تمهد لإطلاق المفاوضات المباشرة من أجل حل الأزمة بيننا وبين الحكومة المالية، ولم يكن الاتفاق الذي أقرت به الهدنة مكتوبا بل مجرد اتفاق شفوي مباشر مع السفير عبد الكريم اغريب، وباعتبار أنه تم في شهر رمضان الماضي فقد شكل ذلك حافزا إضافيا مهما لقبول الهدنة، الانجاز الآخر الي حققه عبد الكريم غريب هو قببلو المتمردين اطلاق سراح ثمانية من الرهائن، خمسة أجانب وثلاثة عسكريين ماليين، وانتظر باهناغا من الطرف الحكومي أن يقم بخطوة مقابلة، بالعودة الى خطوط التماس السابق ما قبل شهر رمضان، وسحب الوحدات العسكرية التي أتى بها الى منطقة تنزاواتين، فلم يكن من باهانغا ورفاقه إلا أن اتصلوا بالوسيط الجزائري مرة اخرى ليخبروه "أننا لم نعد ملتزمين و أننا نعتبر كل مساعي الوساطة والصلح قد فشلت، ولغة السلاح هي وحدها ستكون لغة التفاهم مع باماكو بعد نهاية هدنة رمضان التي أصبحنا في حل منها" ولاعطاء إشارة باستمرار دعمها للاتفاق، صبت حكومتي الجزائر ومالي 1.15 مليار فرنك إفريقي، أي ما يعادل 1.75 مليون يورو، في صندوق خاص، تم استحداثه في إطار اتفاق الجزائر لتنمية المناطق الشمالية لدولة مالي، ممثلة في مقاطعات تومبوكتو وغاو وكيدال ، وقد ساهمت الجزائر في الصندوق بما يقرب من نصف مبلغه. عقبات كادت تجهض التزامات بوتفليقة - توري عندما انتهت القمة الرئاسية كان واضحا ما هو المطلوب من كل طرف، و عاد ضيف بوتفليقة الى باماكو بينما استقل باهانغا وإياد غالي بعده بيومين طائرة حملتهما الى العاصمة الليبية طرابلس، لكن ما تم الاتفاق عليه في القمة الرئاسية لم يجد طريقه الى التجسيد المياداني بذات السهولة التي كانت متوقعة وواجته عقبتين أساسيتين، الأولى استماتتة باماكو في أن يكون تحرير الر هائن شاملا في دفعة واحدة ولا يبقى أي عسكري مالي قيد الاحتجاز، وقال توري شخصيا للسفير اغريب الذي التقاه بعد عودته "يجب جمع مجمل الرهائن في مكان واحد قبل اطلاق سراحهم مرة واحدة" غير أن هذا لم يكن في نية باهانغا منذ البداية. كان الرهائن موزعون على ثلاث مجموعات في ثلاث مواقع مختلفة تحت الحراسة المشددة، وكان ذلك من أجل إبعادهم عن يد القوات النظامية المالية التي كانت تعسكر في تنازوايتن وتمشط باستمرار الشريط الحدودي القريب منها، ويعتقد أن مجموعتين من الرهائن على الأقل موجودتين فوق التراب النيجري حيث يعتمد توارق مالي المسلحين على الدعم الخلفي من ابناء العمومة في الحركة النيجرية من اجل العدالة وهي الحركة المسلحة الثانية التيي يقودها عدد من العسكريين الفارين من الجيش النيجيري، وتعتبر أكثر تسليحا وتنظيما، وقدم باهناغا مبررا موضوعيا وليس مبدئيا يحول دون اطلاق سراح الرهائن دفعة واحدة، قائلا للمبعوث الجزائري الذي التقاه في تمنراست لاحقا "تسليم كل الرهائن دفعة واحدة سيأخذ وقتا أطول بكثير لأنهم موزعين على مواقع متباعدة" . وهو مكا قبلته باماكو على مضض مشترطة ان لا يطول الوقت لتسليم ما تبقى من الرهائن، العقبة الأخرى التي واجهها تسليم الرهائن جاءت من داخل قيادة التحالف نفسها، فعندما رجع باهانغا الى معسكره لمس لدى بعض رفاقه ومنهم حسن فاغاغا تحفظا على الاتفاق، على أساس ان "الوفد الذي ذهب الى الجزائر لم يكن مخولا بالتفاوض بل فقط بالاتصال بالسلطات الجزائرية ثم العودة لاعتماد وفد قيادي مفاوض" كما كشف فاغاغا للشروق. وهو الذي كان حاضرا في كل جولات المفاوضات التي مهدت لاتفاق الجزائر العام الماضي عندما كان هو المسؤول العسكري في الحركة. وتم الوصول الى الاتفاق النهائي يوم الأربعاء الماضي فقط في خطوة اولى تقضي بتسليم الرهائن العشرة للجزائر التي تكفلت فيما بعد بنقلهم وتسليمهم للحكومة المالية في منطقة تنزاواتين على الحدود المشتركة بين البلدين، ويعتقد أن ليبيا تلعب دورا مماثلا في تسهيل تسليم مجموعة أخرى من الرهائن في الأيام القادمة. مبعوث الشروق إلى الحدود الجزائرية المالية عبد النور بوخمخم