كنت أستمع بتأثر بالغ إلى تلك السيدة التي اتصلت من الجزائر العاصمة بإحدى الفضائيات العربية، وكان صوتها متقطعا تخنقه الدموع وهي تحاول أن تعرض مسألتها على الشيخ المفتي، مفادها أن زوجها يملك دكانا يبيع فيه السجائر، وهو مورد الرزق الوحيد للعائلة؛ لكنها "سمعت" بأن السجائر محرمة شرعا وأن المتاجر فيها كافر. فأجابها ذلك المفتي بأن بيع السجائر فعلا محرم شرعا ويجب على زوجها أن يكف عن المتاجرة فيها وأن يتوب إلى الله! تصورت حال تلك السيدة المستفتية التي زادها جواب المفتي قلقا وحيرة، وقلت في نفسي ما كان أغناها عن الاتصال بتلك القناة الفضائية الأجنبية. مامن شك في أن الحجم الكبير الذي تشغله الفتوى الفقهية في البرامج الدينية التي تبثها مختلف القنوات الفضائية وفتاوى الشبكة العنكبوتية ظاهرة صحية تبعث على الارتياح لأنها تستجيب لرغبة المستفتين الحريصين على معرفة الأحكام الشرعية سواء في مجال العبادات أو المعاملات، لكن الذي يرصد واقع هذه الفتوى الفقهية من المختصين يلاحظ عليها سلبيات ومزالق لابد من التنبيه إليها وبالقياس إلى ما تتسبب فيه من أضرار. ومن هذه المزالق الخطيرة التي نلحظها في بعض الفتاوى التي تبثها القنوات الفضائية من مختلف البلاد العربية، زيادة عن التشدد والتعسير، هو عدم مراعاة المفتين بها لفقه الموازنات! إن المتجرئين على هذه الفتاوى لا يقيمون وزنا لما ينجر عن تعميمها من مساس بحقوق الناس وكراماتهم بل ودمائهم نظرا لارتباطها بخصوصيات مجتمعاتهم وبمصالح دولهم، بل إن هذا النوع من المفتين لا يتحرجون من انتقاد غيرهم من العلماء بشدة وتجريحهم لأنهم خالفوهم وراعوا في المسألة نفسها التي أفتوا فيها ماهو أولى وأصلح استنادا إلى فقه الموازنات. فكلنا يعلم أن اختلاف الفتوى هو في الأصل توسعة ورحمة في الدين شريطة أن نأخذ هذه الحقيقة بوعي، أي أن ندرك أن المفتين أنفسهم يختلفون فيما بينهم في التشدد واللين بالنظر إلى طبائعهم وتكوينهم وأمزجتهم كما يختلفون باختلاف بيئاتهم وخلفياتهم المعرفية وظروفهم وتقاليدهم، ما يجعل بعض المفتين لا يصلح إلا لبيئته وإقليمه، فإذا عمم فتواه تسبب في الحرج والضرر؛ وهناك من المفتين من يتعصب لمذهب من المذاهب تعصبا ضيقا يجعله منغلقا على موروث هذا المذهب وحده، فصدر فتاوى جاهزة صلحت في زمان غير زمان المستفتين وفي بيئة غير بيئاتهم وفي ظروف غير ظروفهم؛ ولا يخفى على أحد ما لهذا النوع من الفتوى من خطر، لأنها تحكم بالتكفير والتفسيق وتدمير أسر بالفصل بين الأزواج وما إلى ذلك، ما زاد في معاناة الناس نظرا لتأثرهم بمن يخاطبهم باسم الدين وسرعة انقيادهم له وتطبيقهم لما يصدر عنه من فتاوى، لأنهم لا يملكون العلم الكافي الذي يميزون به ماهو من الدين بحسنه وبرهانه وماليس منه بقبحه وبطلانه. هؤلاء المفتون لا يستحضرون بوعي وتقدير للمسؤولية أنهم مسموعون ومشاهدون من كل بقاع العالم بينما هم يفتون في قضية محلية قد يتغير الحكم الشرعي فيها في بيئات ومجتمعات أخرى.
ويقابل هؤلاء مفتون آخرون ينتمون جغرافيا إلى بيئاتهم لكنهم مفصولون عنها نفسيا واجتماعيا؛ لأنهم في ممارستهم للإفتاء يستوردون مناهج هي أصلح وأكثر توافقا وانسجاما مع البيئات التي أفتى علماؤها أهلها بمقتضاها ولا تصلح بالضرورة لكل البيئات والمجتمعات، كلنا يعلم أن الحاجة إلى الفتوى الفقهية كانت دائما قائمة في المجتمعات الإسلامية على مرّ العصور وتباين ظروف الزمان والمكان ومن هنا كانت منزلتها في الدين وأهميتها ورحمتها، ومن هنا كان ثقلُ مسؤولية المفتين الذين استأمنتهم الأمة على أقدس مقدّساتها؛ إذ الفتوى في الأصل توقيع عن رب العالمين؛ فالمفتون يعتبرون صفوة خلق الله لأدائهم هذه الأمانة وقيامهم بهذه المسؤولية، فمن الطبيعي، وهذه منزلة الفتوى، أن يضع الدين شروطا لابد من توافرها فيمن يتصدر لها من العلماء والفقهاء، كالعقل والبلوغ والعدالة وفقه النفس والعلم بالكتاب والسنة واللغة العربية وأصول الفقه ومسائل الإجماع، ويضاف إليها الشرط الأكثر تأثرا بتغير الزمان والمكان وتأثير ذلك التغيّر في حياة الناس، وهو فقه الواقع بكل أبعاد هذا الواقع وملابساته وتناقضاته وضغوطه وخصوصياته؛ ما يستلزم - إلى جانب تلك الشروط جميعا- تمتع المفتي بجس وفطنة ووعي واطلاع على أحوال المستفتين وخصوصيات واقعهم، وهذا يتطلب التضلع في فقه النوازل والأولويات والموازنات، مسايرة لهذا الواقع المتغير المتجدد، وهذا الذي جعل الشريعة صالحة لكل زمان ومكان.