بعد يومين سيتم الاحتفال بعيد الاستقلال، فإنني لن أتكلم عن »التاريخ«؛ بقدر ما سأتكلم عن حقيقة ما بعد الاستقلال؛ أي هل تم فعلاً الاستقلال التام والكامل أو برؤية عاكسة للماضي ومستشرفة للمستقبل هل مازال العديد من الأمور يجب القيام بها للاستقلال السيادي، أو بالأحرى هل توجد بعض المجالات الرمادية التي لم تعتق بعد...؟! * * بداية فإن استقلال الجزائر حقق إنجازا يمكن اعتباره من الإنجازات الكبرى عالمياً من القرن الماضي بحكم تأثيراته على استقلال العديد من الدول الإفريقية أو تسوية بعض »المشاكل العالقة« في شبه القارة الهندية والافريقية؛ ولكن رغم عظمة هذه الثورة؛ وثمن الاستقلال الغالي المدفوع، فإنه بعد أزيد من ربع قرن مازال النقاش قائما حول هوية وطبيعة الدولة الجزائرية؟! برغم من أن »العقد الاجتماعي والسياسي« الذي تم في غرة نوفمبر صريح وغير قابل للاجتهاد على خلافه بقوله صراحة »أن هوية الدولة ديمقراطية اجتماعية على ضوء مبادئ الإسلام«... فبالرغم من وجود هذه المرجعية »الشرعية والتاريخية«... مازال البعض يتعامل مع هذه الوثيقة على شاكلة »ويل للمصلين«. والتساؤل الثاني الموالي المطروح؛ هل الاستقلال يقتصر على العملة والراية والهوية أم يتعدى هذه التصرفات »المادية« لمجالات أخرى...؟! * للإجابة على ذلك نقول إن الاستقلال مادي ومعنوي، ويجب أن يكون شاملا وكاملا لجميع المجالات، فلا يسمح بمراهنة الأجيال الحالية والمستقبلية فرنسا بقرارات أو اتفاقيات قد »تعصف« بهذا الاستقلال؛ سواء تجاه الدولة المستعمرة أو باقي الدول الأخرى في المجتمع الدولي... لذلك، فإنه بعد أزيد من ربع قرن مازال حلم الاستقلال لم يكتمل بعد... ليس لعوائق خارجية؛ بقدر ما هي نتاج »التركيبة« المعقدة للنظام السياسي الجزائري، وأنني بعد مدة فهمت لماذا عزوفت بعض الرموز والشخصيات التاريخية عن الإدلاء »بشهادتها« التاريخية المطلقة، ليس خوفاً من الحقيقة بقدر ما يكون الخوف بسبب »الإحراج« و»إسقاط« العديد من الأقنعة... * أما على مستوى »التركيبة العاطفية« للمجتمع قد يلاحظ أن قيم الاستقلال ومبادئه في تراجع رهيب إن لم نقل مخيفا؛ فأصبح بعض الشباب يتساءل سؤالا »وجوديا وحياتيا« بتردد وهو وما جدوى من الاستقلال ولم تكتمل مقوماته المعيشية؟! فإنني لن ألوم هؤلاء الشباب بقدر ما ألوم تعطيل وتسييس العديد من المؤسسات الرسمية في أداء واجبها؛ وتعاملها المنحاز أو غير النزيه مع التاريخ، مما خلق مع مرور الوقت هذه »الردة«؛ فبدل الاعتزاز بالمحطات التاريخية... أصبح البعض يتحاشاها؛ فالمصالحة »التاريخية« أصبحت ضرورية... وإنني لا أعني بالمصالحة على شاكلة إعادة الاعتبار لبعض الرموز التاريخية من خلال تسمية بعض المطارات أو الإنجازات... بقدر ما إنني أعني »بالمصالحة التاريخية الحقيقية« الكتابة النزيهة للتاريخ... والتعامل الحيادي والمطلق مع الحقائق التاريخية بدون تخوين أو تزوير أو تحريف أو تخريف... فالمصالحة السياسية القائمة وتوابعها تقتضي ذلك حسب قناعتي ومن توابعها الأدبية الإلحاح على ضرورة »لاعتذار« قياساً بما تم مع بعض المجتمعات والدول، وعليه »فلسفة« الاعتذار ليست بدعة جزائرية بقدر ما هي ممارسة دولية، قامت بها العديد من الدول ومن ضمنها فرنسا في مواقع أخرى. فالشراكة الحقيقية والتعاون البناء يقتضي ذلك، وعليه ستكون خطوة »ضرورية« لتجفيف الشحنات »العاطفية« للتاريخ، والتعامل »العقلاني« معه وبالتالي الانتقال لمرحلة »الجغرافية« والشراكات الحتمية... كما أنه بعد مرور أربعين سنة وأزيد من الاستقلال، مازال تعامل بعض الجهات الرسمية والجماهيرية المختصة بهذه الفئة، تعامل على أساس اجتماعي أو اقتصادي بحت، مهملة في ذلك بعض الأبعاد الروحية والخاصة بكتابة التاريخ وتوريثه للأجيال المستقبلية بصفة منهجية وعلمية؛ وفشلها في هذا الشأن؛ والمؤشر الميداني على فشل في أداء هذه المهمة هو بروز مختلف الاحتجاجات التي أقيمت حول ما جدوى وأهمية من إدخال »التاريخ« كمادة ضرورية في المنظومة التربوية!!.. * فالتعامل المناسباتي أو الاحتفالي بدون رؤية واضحة قد يولد هذه »التصرفات« المنافية للذاكرة التاريخية، فبعد أربعين سنة مازالت القائمة مفتوحة للاعتراف بمن هو »مجاهد« عن غيره!!... حتى أصبحنا اليوم نسمع بفئة أو قائمة »المجاهدين المزيفين«، فكل هذه التصرفات إن لم تصان وتوضع لها ضوابط واضحة غير قابلة للاجتهاد فيها معروفة للعيان... قد تنشأ لنا هذه الانزلقات... وعليه، أكبر نصيحة تقدم هي إبعاد التعامل التاريخي عن السياسة وعدم إقحامه في معارك سياسوية مما قد يسيء أكثر مما يفيد... قد تبعدنا أكثر مما تقربنا للتاريخ وعِبَره ومناقبه.. فعبق التاريخ قد تفسده التصرفات السياسوية؛ بدءاً من دسترة بعض المحطات التاريخية، من ضمنها مثلاً تخصيص فئة مولودة قبل تاريخ معيّن كشرط ضروري للترشيح؛ فذلك مخالفة بامتياز لمبدإ دستوري آخر وهو مبدأ المساواة في تكافؤ الفرص، أو تقليد الوظائف العامة... وقس على ذلك تصرفات أخرى...إلخ؛ هذه مجموعة من الخواطر من عينة لجيل ما بعد الاستقلال؛ وأنني لن أدّعي ملك الحقيقة المطلقة؛ ولكن هذا جزء من الحقيقة، وأظن أن فيه العديد من يشاركني فيها... فبمناسبة هذه الذكرى نقول كفانا تلاعبا بالتاريخ والتعامل معه بانتقائية؛ فالتاريخ هو إرث مشترك للجزائريين كلهم، فلْنَكْتُبْهُ بمهنية بعيداً عن كل انفعالية أو ارتجالية أو عاطفية أو حساسية مفرطة... ألم يتساءل العديد منّا لماذا قد نثق بمؤرخي »ما وراء البحار« دون مؤرخينا؟! ولعل الإجابة قد تم التعرض لها تلميحاً وتصريحاً منذ بداية هذه المقالة إلى طرح هذا التساؤل، ويمكن اختصار الإجابة بحكم أن مؤرخي ما وراء البحار قد يتعاملون مع التاريخ بعيداً عن كل مؤثرات خارجية، أو مزايدة، أو تغليب جماعة على حساب جماعة...؟! وأخيراً؛ لا ننسى أن الجزء الأكبر من »ذاكرة الجزائر« المرئية والمسموعة والمقروءة مازالت في مراكز خارجية، ومتاحف دولية، ودواوين للأرشيف، يجب استرجاعها فهي مسؤولية لتحقيق غاية، وبها قد تكتمل »سيادة« الدولة على مواردها المعنوية والروحية... وبكله يكتمل تحرير الذاكرة الجماعية...