استحضرت مسرحية "الحب المفقود" (90 دقيقة)، فصلا منسيا من ذاكرة شمال إفريقيا وكفاحات الأمازيغ ضدّ آلة الغزو الرومانية قبل ثلاثة قرون عن الميلاد، وفي توليفة درامية تاريخية اكتست بحلة شاعرية، أعاد الناص "عبد الكريم غربيي" فتح أقواس مملكة نوميديا القديمة وما اعترى الشمال الإفريقي من صراعات وذاتوية و...دفقات حب مشروخ. برسم عرضين شائقين على خشبة المسرح الوطني الجزائري وقصر الثقافة، كان الموعد مع حميمية ومواربات القائد النوميدي "ماسينيسن" (238 -148 ق. م) والأميرة الأمازيغية "صوفونيسبا" ابنة القائد "هسدروبل" والمنتمية إلى عائلة الفينيقي العظيم حنبعل (هانيبال) قائد القرطاجيين المعروف، واشتهرت "صوفونيسبا" بكنية "أميرة الظلام" تبعا لكونها أجمل نساء زمانها رقة وكبرياء ودلالا وكان كل من رآها وإلا ويفتن بها ويريد الزواج منها. وبسببها نشبت أزمة قوية بين "ماسينيسن" (ماسينيسا) وغريمه "سيفاكسن" (سيفاكس)، حين قرر القرطاجيون تزويج "صوفونيسبا" ل "سيفاكسن" رغم أنّها كانت خطيبة "ماسينيسن"، فما إن وصل الخبر إلى الأخير حتى ثارت ثائرته وانتقل انتقاما من حليف للقرطاجيين إلى متحالف مع الرومان. ووسط خلاف إخوة الأرض والدمّ والحضارة والتاريخ، جرى استغلال هذا الصراع من لدن الرومان الذين أرسلوا جيشا بقيادة ولي العهد "سانتوس"، وعندما سمعت الأميرة الحسناء بذلك غضبت كثيرا وبالتزامن مع إهابتها ب "ماسينسن" و"سيفاكسن" لنبذ الذات، مضت المرأة المولعة بالوطن والغيورة على وهج شمال إفريقيا، لتجميع جيش أمازيغي من المملكتين وخرجت إلى سواحل قرطاج بفرسها وسيفها وأردت "سانتوس" قتيلا وهزمت الغزاة. لكن حكومة الرومان لم تهدأ، واستعانت ببعض الخونة في الإيقاع ب "صوفونيسبا" غداة فخ محكم، وحاول "ماسينيسن" استرجاعها لكنه لم يفلح، ولأنّ أميرة الظلام أيقنت أنّ أمراء الرومان سينهشون لحمها، ارتحلت إلى شمال إفريقيا وطلبت السم وقالت: "إنني في حالة مزرية جدا وأعلم ماذا ينتظرني فأفضّل الموت عوض أن يعبث بي أمرائهم"، قبل أن تتناول السمّ وتموت متشامخة مستنهضة روح "ماسينسن" البطولية لتوحيد نوميديا والحرص على أمجاد الأمازيغ وتأسيسه دولة موحّدة عاصمتها "سيرتا" في نهاية القرن الثاني قبل الميلاد .
استيحاء وإضاءات بدا واضحا أنّ إنتاج المسرح الوطني الجزائري (أكتوبر 2015) شكّل عصارة بحث أكاديمي هادف ومستفيض، ولم يتوقف د. غريبي عند حدود بلورة وقائع ماضوية ظلّت على الهامش الركحي الجزائري، بل أمعن في إضاءة عدة نقاط ظلّ ومغالطات تاريخية، على نحو حوّل المسرحية إلى باكورة حية أفعمت المتلقين باستعراض إنساني دقيق ثري بمعطيات حقبة هامة عبر بلاغة لغوية مترعة بثيمات الشهامة، الخيانة، الأمل، اليأس، الطموح والسقوط، وتساؤلات عن نهايات/ اجترارات سياسة فرّق تسدّ الاحتلالية الشهيرة. وفي قالب تراجيدي ملحمي مقصور، ارتضى المخرج "أحمد بن عيسى" الاكتفاء بالسرد الآلي والتفريط في الفرجة والإمتاع وتكثيف الفعل عبر انتصاره لنسق مباشر أفرز حالة من الركود والتسطيح، واختار "بن عيسى" إضاءة فاترة قلّصت من مخيال المتفرجين، وكبحت الجمالية العامة لصالح ثرثرة طويلة عن الأمازيغ، الأرض، السلطة، الحرب والغنائم ونهضة شمال افريقيا، مع أنّ النمط المثير للحكاية كان يفترض جسارة إخراجية أكبر، كما لم يتم الاستثمار في دعامة الإلقاء بما جعل التواصل مشوّشا إلى حد ما بين الممثلين والمتلقين. واللافت أنّ المخرج ركّز في كلمته على إعادة قراءة التاريخ المفقود أمام واقع متحرك في لحظة تحاكي الماضي والآني. أسماء وإحالات في عرض رافقه "محمد زامي" موسيقيا و"نذير بوراي" كوريغرافيا، شارك طاقم من 16 ممثلا، برزت منهم الممثلة الشابة "وهيبة باعلي" التي أدت دور "إزلان" رفقة "نسيمة زايشي" (الملكة صوفونيسبا) و"كريم حمزاوي" (ماسينسن)، لكن سينوغرافيا المخضرم "عبد الحليم رحموني" كانت خارج الإطار وتولّدت عن استخدامها الباهت رتابة وتحجيما للفضاء الركحي، أكثر من ذلك، سقط "رحموني" في التناقض بوضعه خوذات المحاربين الرومان على رؤوس نظرائهم النوميديين. انتهاءً، "الحب المفقود" الذي أنتج برسم تظاهرة "قسنطينة عاصمة الثقافة العربية 2015" يستحق أكثر من مشاهدة وستغدو هذه الورشة المشرّعة أكثر نجاعة وفاعلية عند اجتياز عتبة الخمسين. شاهدوا هذا التقرير: