إن الأطفال لبراءة صدورهم من الإلحاد، وطهارة قلوبهم من الأحقاد تخرج من أفواههم كلمات جليلة المعنى، جميلة المبنى ولا يُوَفَّقُ إليها كثير ممّن يعدون أنفسهم حكماء، ويحسبهم الناس لغفلتهم، أو نفاقهم زعماء، وماهم إلا من السُّوقَة، وإن رفعتهم الأقدار وسلَّطتهم على الأمة بسبب ما اقترفته من خطايا، وما اجترحته من ذنوب. * من هؤلاء الأطفال الذين رشدت عقولهم، وسمت نفوسهم، ونضجت أفكارهم طفل أطلّ علينا يوم العيد من قناة الأقصى، المُعبِّرة عن الشعب الفلسطيني وآماله، المُصَوِّرة لمحنته وآلامه، حيث قال: "رغم الحصار فإننا نظهر الفرح والسرور ليعلم الكَنُودُ والوَدُودُ أننا شعب حقيق بالحياة، جدير بالبقاء، وأن بعد العسر يسرا، وبعد الشدة فرجا.. إن هذه العبارات الصادرة من فم ذلك الطفل الفلسطيني، المعبّر عن نفسيات ملايين الأطفال في العالم العربي والإسلامي؛ تدلّ على أن أطفالنا أرشد منّا، وأوعى من هؤلاء "الكبار" الذين تسلَّطوا على شعوبنا بالمكر والتآمر، ويوهمونها أنه لم يخلق مثلهم في البلاد، ولم يوجد مثلهم في العباد، ويكذبون عليها بأنهم يُضحُّون بمصالحهم الخاصة في سبيلها، فَيَشْقَون لسعادتها، ويَنْصَبُون لراحتها، ويَلْغَبُونَ لأجلها، وماهم في الحقيقة إلا سبب عللها، وأدوائها، ومحنها.. لو كان هؤلاء "الكبار" كبارا في العقول والنفوس مثل ما هم كبار في الأعمار لما قبلوا أن يُبتلى إخواننا في فلسطين هذا الابتلاء المبين، وأن يُمْكَر بهم هذا المكر الكُبَّار، الذي جعل بعض الشرفاء ممن ليسوا من عرقنا يستنكرونه، ودفع بعض الأحرار من غير ملّتنا إلى التحرك ولو رمزيا لإنهائه. لقد تحدث القرآن الكريم عن أناس فقال: "لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام، بل هم أضل.." وقد أشكل الأمر عليّ، إذ كيف تكون لامرئ عين ولا يرى بها، وكيف تكون لإنسان أذن ولا يسمع بها، وكيف يكون لبشر قلب ولا يفقه، ولم يزل عنّي هذا الإشكال حتى رأيت هؤلاء "الكبار"، الذين غاضت ينابيع الرحمة في قلوبهم، وماتت أحاسيس الإنسانية في نفوسهم، وتعطّلت وسائل الإدراك في جسومهم، حتى ظننت أن هذه الآية الكريمة ما أنزلها ربّ العرش العظيم إلا في هؤلاء "الكبار" الذين حال بينهم وبين قلوبهم، وأنها من الآي الكريم الذي ينبئ بما هو آت، لا بما هو واقع حين نزولها، ولا بما وقع قبل نزولها. لقد رأيت هؤلاء "الكبار" في الصفوف الأولى في بيوت الله ماعدا "كبيرهم" الذي جلس في آخر صف في المسجد مسندا ظهره إلى الحائط، عجزا أو خوفا، رغم أن المسجد يوجد في ثكنة عسكرية ؛ أقول رأيت هؤلاء "الكبار" فوالله الذي ابتلانا بهم ما رأيت على وجوههم بِشْرًا، وما شاهدت في عيونهم نورا، وإنما هي وجوه كَالِحَة، عليها رغم المساحيق غبرة، وإنما هي عيون زائغة، ونظرات شاردة أشبه ما تكون بنظرة المغشيّ عليه من الموت، "ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور"، وإن اضطر بعضهم بروتوكوليا إلى الابتسام؛ فإنما هي ابتسامات منافقة ردا على ابتسامات منافقة من أناس لم يقصدوا بيوت الله ليكبّروه، ويسبِّحوه، ويحمدوه، ويشكروه؛ ولكن لكي "يتشرفوا" بالسلام على هؤلاء "الكبار"، لعلهم يثبّتونهم في مناصبهم، أو يتفضّلون عليهم بإعادتهم إلى الواجهة، بعدما همّشوهم وركنوهم في زوايا الإهمال، ولقد رأيت "وزيرا" سابقا في الجامع الكبير، وهو لا يسكن قريبا منه، فأدركت أنه لم يأت لهذا المسجد بالذات تكثيرا للخطوات، وطلبا للحسنات؛ ولكن جاء من مكان بعيد طمعا في رضى السلطان، لا طلبا في إرضاء الرحمن، وليقول بلسان الحال، وبإشارات العين لذلك السلطان: إنني مازلت "صالحا للاستعمال" قادرا على الاستخدام. وقد تأملت في وجوه كثير من أمثال ذلك الوزير الحاليين والسابقين، فلم أر مليمترا مربعا من الكرامة.. فهل يستحق هؤلاء وهؤلاء أقل احترام، وأدنى تقدير؟ إن أولى الناس بالتقدير، وأجدرهم بالاكبار والاحترام، هم هؤلاء الفلسطينيون الصامدون كالجبال، الصابرون كالأرض (❊)، خاصة إخوتنا الأعزة في غزة، الذين أدهشوا العالم بهذا الإباء، وهذا الشّمم. لقد تآمر على أولئك الشرفاء في غزة القريب قبل الغريب، وإن ذهب ذلك القريب إلى البيت العتيق ليظهر في صورة الناسك وهو أشد كرها لإخوانه من ذلك الفاتك.. وإن "أخاهم" الآخر يسدّ في وجوههم الباب الوحيد، ويفتح لأعدائهم الأبواب المتفرقة، يدخلون من أيها شاءوا، ولسان حاله يقول لأولئك الأعداء: "ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين"، ويكفر عن اضطهاد فرعون لأسلاف هؤلاء الأعداء بنسف الأنفاق، والتهديد بكسر الأعناق، ومنع الأرزاق، وبيع الغاز لأولئك الأعداء بثمن بخس، ومنعه عن أهل غزة ولو بأغلى الأسعار. إن كلمة ذلك الطفل الفلسطيني، الكبير من كل كُبرائنا الذين أضّلونا وأذلونا، هي رسالة للعالم كله أن هذا الشعب الفلسطيني ليس كأحد من الشعوب، فقد تآمر عليه الودود قبل اللدود، ولكنه مايزال صامدا، وهو أشد رهبة في صدور اليهود المغتصبين من أولئك "الكبار" الذين لم ينالوا تقدير الأجانب، ولم يحوزوا احترام الأقارب. لو كان هؤلاء "الكبار" الذين يزعمون العروبة لتصرفوا تصرف العرب الجاهليين الذين قالوا في أمثالهم السائرة: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما"، ولتصرفوا كما قال الشاعر الجاهلي يصف نجدة قومه: لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال بُرهانا ولو كان هؤلاء "الكبار" الذين يدّعون الإسلام، وغيرتهم عليه لتصرفوا بما يوجبه عليهم الإسلام في قوله تعالى: "وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر". لقد بلغ المكر بإخوتنا في غزة الصامدة والكيد لهم إلى درجة منعهم في هذا العام من أداء ركن من أركان الإسلام، وهو الحج إلى بيت الله الحرام، حيث تعرضوا إلى مؤامرة ذات ثلاثة أضلاع.. ظنا من هؤلاء الماكرين أن هؤلاء المحرومين من الحج سيثورون على قيادتهم الشرعية في غزة، ولكن أولئك المحرومين أدركوا أبعاد المؤامرة الثلاثية فدعوا على الذين تولوا كبرها. وندعو الله لهؤلاء الرجال الأحرار، والنساء الحرائر، والأطفال الأشبال أن يكتب لهم أجر الحج وثوابه، وأن يضرب بحج ذلك الرّاكن لأشد الناس عداوة للذين آمنوا، الموالي لهم، المعادي لإخوانه، الكائد لهم، المتآمر عليهم؛ أن يضرب وجهه بحجه، وأن يقول له: لا لبّيك، ولا سعديك.. إن الموت الشريف الذي يموته إخوتنا في غزة، وفي فلسطين كلها أشرف وأعز، وأنبل من "حياة" كبرائنا في قصورهم الممردة.. ولعنة الله على الخائنين. * * ---------------- ❊ من الأمثال العربية "أَصْبَر من الأرض"