لا أريد وما ينبغي لي أن أكون في موقع الحاجب لرحمة الله، هؤلاء الشُّعث، الغُبر، الحفاة، العراة، وقد أقبلوا، على مناسك الحج، هائجين، شاردين، مندفعين، مخدرين بذكر الله، وغائبين عن الواقع في كنف الله. * إنه مشهد مليء بالإعجاب والتعجب، تثيره في موقع مناسك الحج، هذه الجموع الجامحة، التي تعددت ألوان أفرادها، واختلفت ألسنتهم، ولكنهم توحدوا جميعا، على حب الله ورسوله، والرغبة في الظفر بعفو الله، وغسل ذنوبهم، والعودة إلى بلدانهم كيوم ولدتهم أمهاتهم، متطهرين من ذنوبهم، ولو كانت كزبد البحر، إن رحمة الله وسعت كل شيء. * إن المتأمل في هذه المشاهد، ليقف عاجرا عن تصوير عمق ما يحدث... فالشهيق، والزفير، والبكاء والنحيب، وتعالي الأصوات بالتهليل والتكبير، الممتزجة، وكل ذلك وسط التدافع والتزاحم على الملتزم في الطواف والسعي، بين الصفا والمروة والانفعال خلال رمي الجمرات، كل هذه الخصائص من شأنها أن تعطل ملكة العقل في هذا المشهد وتطلق العنان، لقوة الروح السابحة في عالم اللا محدود. * يخطئ إذن من يحاول أن يخضع تجربة الحج لميزان القياس المادي، أو لمعيار العقل وحده، أو لمقولات المنطق، فهذه الأدوات المعرفية ستسقط كلها في أول امتحان، ما دام مصدر التعليل خارج منطق الإرادة التي أوحت بهذا السلوك، وجسدت هذه المشاعر، الخارجة عن نطاق المألوف. * ذلك هو الحج في مظهره الخارجي العام، عندما يتم الاحتكاك، بما يفرزه من هذه المشاهد التي لا يمكن أن يقدرها، ويدرك كنهها إلا من عانى تجربتها، »ومن ذاق عرف«، كما يقول القوم. * وتعال معي يا القارئ العزيز إلى صورة أخرى عن الحج، ننفذ من خلالها إلى أعماق المشاهد، فنستبطن، ونحلل الباطن والملموس، كي نستخلص من تجربة الحج الإيجابي في سلوكنا، والسلبي المحسوس، والمستخلص النافع من الدروس. * لا تتوفر أمة من الأمم، ولا ملة من الملل، على هذه التجربة المليئة بالرموز والكنوز التي خص الله بها أمتنا، وملتنا. فإن يجتمع العالم الإسلامي، بكل مكوناته وأطيافه، حكاما ومحكومين، وأغنياء ومعدمين، وأقوياء ومستضعفين، على صعيد مكاني واحد، وفي موعد زماني واحد، ترتفع أصواتهم جميعا بنفس التكبير والتهليل، مكتفين من الزاد واللباس، بالنزر القليل، فتلك هي الهبة الإلهية التي خص الله بها أمتنا دون باقي الأمم. * لقد أراد الله للحج في مفهومه الإسلامي أن يكون مظهر قوة للأمة الإسلامية، تجتمع فيه أطيافها ضمن مؤتمر عالمي، تزول فيه الفوارق والطبقات، وتضمحل فيه مختلف القبليات والنعرات، ولكن بعض المسلمين بتخلفهم، المجسد في جهلهم بالدين، وأميتهم الثقافية، ولا وعيهم الإنساني، قد نقلوا هذه الشعيرة الإسلامية المصيرية، من القوة إلى الضعف، ومن الطهارة إلى »الوساخة«، ومن الصفاء الخلقي إلى الجفاء الطبقي. * ففي مؤتمر الحج، بدل أن يشهد المسلمون منافع لهم، وعوض أن يبتغوا من فضل الله في الحج، تتحول الآمال إلى مطامع، والأفراح إلى مدامع، والمباحات إلى موانع. * إن الاستطاعة، التي هي شرط أساسي في الحج، يدوس عليها بعض المسلمين، فيقبل على الحج من يفترش الثرى ويتدثر بالسماء يعيش على المسألة والعطاء، فهم بذلك يقدمون مشهدا لا إنسانيا، يشوه صورة الإسلام، ويقدم عنه منظرا يبعث على التقزز، لذلك وجدنا أن شروط الحج وواجباته، التي هي الدعائم الأساسية لهذا الركن في الإسلام، تذوب لدى الحاج بسبب عدم فقهه للدين والدنيا، وبسبب فوضى الفتوى الفقهية التي تبعث به إلى فقه نوازل القرون الخوالي، التي يعدلها مجال في واقع الأمة، بدل تبني منهج الفقه المقاصدي، العاكس لأقضية الناس اليوم. * إن النشد، والغلو، والتطرف، هو ما يستبد ببعض الأحكام الفقهية التي تنقل الحجيج من فقه التيسير كما أراده الله، إلى فقه التعسير كما أراده بعض الفقهاء، أما التراحم، والتضامن، وهما من مقاصد الحج في دنيا المسلمين، فإنها تختفي كقيم، من هذا الحج الذي يتحول عند البعض إلى »موسم« للإثراء، والكسب، فمتطلبات أداء الشعيرة، من سكن، وضروريات مختلفة تلتهب أسعارها على غير المعتاد في موسم الحج، وشبيه بذلك وسائل النقل. فما من دابة بدءا بالدراجات النارية، إلى الحافلات والشاحنات مرورا بالسيارات تدخل كلها عالم المنافسة الاستغلالية المتوحشة، ليكون الحاج أولى ضحاياها. * ويحدث هذا على الخصوص أيام التشريق في منى، والمزدلفة، وعرفات، وفي المدينة مباشرة بعد ذلك، وها أنذا أقدم عينات ونماذج عن ذلك. * في أيام التشريق، يضطر الحاج لقضاء سبع ساعات بين مكة ومنى، وهي مسافة تقطع عادة في ربع ساعة، لأن المسافة لا تتعدى بضع كيلومترات، وهذا زيادة عن الثمن الباهض في سعر النقل، والتكديس اللا إنساني للحجيج. * طلبت من سائق تاكسي أن يوصلني من الحرم المكي إلى »أم الجود« وهي ضاحية قريبة من مكة تشبه مسافتها ما بين »ابن عكنون« وساحة الشهداء عندنا، فطلب مني السائق خمسمائة ريال سعودي، أي ما يعادل مليونا ومائتي ألف سنتيم (أي 12000دج). * وفي المدينةالمنورة، وصلت إلى الفندق على الساعة الثانية صباحا، فطلب مني صاحب الفندق مبلغ 900 ريال سعودي أو 250 دولار، ثمن الغرفة، وأضاف ضاحكا، هذا هو موسم الحج، ولما راجعته في سعر الغرفة قال لي إن السعر قد قفز منذ البارحة من 400 ريال إلى 900. * وإذا كان الاقتصاد العالمي قد عانى هزة مريعة، تحت ضغوط عوامل الربا، والاحتكار والاستغلال الفظيع في ظل الاقتصاد الرأسمالي المستغل، فإن سعر الصرف في أيام الحج على الخصوص، قد عرف هو الآخر انخفاضا مقصودا، بسبب الرغبة في استغلال الحجيج... وهكذا انخفض سعر صرف الدولار، الذي وجدناه عند الوصول بنسبة 3.75، انخفض في أيام تجمع الناس في مكة إلى سعر 3.68، والسؤال المنطقي هو: تحت أي نظام اقتصادي يمكن تصنيف هذا السلوك في دائرة الحج؟ * إن هذه النماذج في السلوك هي أبعد ما تكون عن تقديم الوجه المشرق والمشرف للإسلام، في مناسبة نعتقد أن أبرز مميزاتها التضحية، والإيثار، وتضامن القوي مع الضعيف، فإذا انتقلنا إلى واقع المسلمن المقبلين على الحج، لتطهير أنفسهم، وقلوبهم مما علق بها من أدران السنين، فإن أهم ما نلاحظه هو هذه الفوضى السلوكية، لدى هؤلاء المسملين، وعدم الوعي بعامل الوقاية الصحية، إذ يصدمك مشهد »البصاق« و»المخاط« وحتى »التبول« في الأماكن العامة أو غير المخصصة لذلك، بالرغم من توفير الوسائل اللازمة. * إلى هذا نضيف عامل افتراش الحجيج لأرض الحرم، وتحويلها من أماكن للعبادة إلى أماكن للنوم، والأكل، وتكديس السلع، وهو ما يعرقل عملية أداء المناسك، فضلا عما تسببه من أذى للمصلين، والطائفين، والساعين. أفيرضى الله عن هذا السلوك الغريب، من مسلم جاد ليتطهر من أوساخ الدنيا وأدران العصر؟ * على أن الأمانة تقتضينا القول بأن في الحج جهود موفورة، ومشكورة، تحاول أن تطوق فوضى الجماهير الشاردة، وهي جهود نجدها مجسدة في حملة التنظيف القائمة على قدم وساق، وفي جهود الخيرين الذين يوزعون على فقراء المسلمين الماء والغذاء. * هذا إلى جانب جهود رجال الأمن الساهرين على انضباط الحجيج في المسجد وخارج المسجد، ولكن ما الحيلة إذا كان »الخرق قد اتسع على الراقع« كما يقول المثل العربي؟ * إن عملية التكفل بقضايا الحج لا تقتصر على الجهود الموفورة من طرف القائمين على ضبط الأمور، وإنما يجب أن تتسع لتشمل كل المعنيين بالحج. * فالخطاب المسجدي وهو عامل حاسم يجب أن ينزل إلى واقع الأمة الإسلامية، ليشخص داءها، ويصف دواءها، متبنيا في ذلك المنهج المقاصدي في الفقه والدعوة. * كما أن البعاث الإسلامية في الحج مطالبة هي الأخرى بالتكفل بالحجيج من مواطنيها، لتوعيتهم دينيا، واجتماعيا، وأخلاقيا، وتعيين مشرفين عليهم يراقبونهم في سلوكهم، ومعاملاتهم، وحتى في صحتهم، وتغذيتهم. * وإذا كان الحج، هو في هذا المستوى من الخطورة في حياة الفرد والجماعة، بحيث قد يؤدي أبسط سلوك مشين فيه، إلى الإعاقة و»إحباط العمل«، ويكون مآل الحاج في ذلك كمآل الصائم الذي »ليس له من صومه إلا الجوع والعطش« وكواقع »الطباخ الصائم زهما في اليد ورائحة في الأنف« فإن هذا يجعلنا نؤكد على أن قضية الحج، ليست قضية بلد بذاته، ولا قضية شعب بعينه، ولكنها قضية المسلمين جميعا بمختلف طوائفهم وعلمائهم، ومذاهبهم. فليحرص الجميع على صيانة هذه الشعيرة من كل لون من ألوان الفوضى، وليرتفعوا بها إلى سموها وقداستها حتى يظل الجهد الموفور مبرورا، والسعي المبذول مشكورا، والذنب المقصود مغفورا، وحذار من السلب بعد العطاء، فرب ذنب غير مغفور، ورب سعي غير مشكور، وهذا بالرغم من الجهد المبذول والموفور.