أن تقتل إسرائيل الفلسطينيين بترسانتها الحربية، دون تمييز بين النساء والشيوخ والأطفال، متحججة ب»الدفاع عن النفس وحماية مدنيّيها من صواريخ حماس«، فهذا ليس غريبا، لأن الدولة العبرية وجدت تاريخيا بهذا المنطق؛ أي تصفية الإنسان الفلسطيني واحتلال أرضه. * أن تساند واشنطن، بصفة مطلقة، الجرائم الإسرائيلية فهذا ليس غريبا كذلك، لأننا أمام حليفين متفقين على مصالحهما. أيضا، أن ينقسم العرب ويبقوا رهن شلل مميت إزاء »المحرقة« التي يتعرض لها الفلسطينيون فهذا مشهد مألوف كذلك. لكن ماذا بعد المذبحة الجارية؟ ما الجديد الذي ستخرجه إسرائيل بعد المذبحة؟ وثانيا؛ أية حظوظ متبقية للفلسطينيين كي يحصلوا على جزء من حقوقهم بعد 60 سنة من الهولوكوست الإسرائيلي؟ * * بداية، ليس اكتشافا جديدا لو قلنا إن النظام الدولي، الفوضوي والأمريكي المهيمن، لم يعد فيه مجال للحديث عن حقوق الإنسان والقانون الدولي، ولا حتى عن حد أدنى من الأخلاق والضمير أو القيم الدينية والإنسانية المشتركة. فالمُهيمنون لا يستحون من التنكيل بالمهيمن عليهم جهارا نهارا ولا يخشون المساءلة أو العقاب، وتسوق أعمالهم الجهنمية بتبريرات وتصفيقات من الإعلاميين والنخب والسياسيين! * في حالة غزة، هذه المرة وجدت إسرائيل ذريعة جديدة (صواريخ حماس) لقتل الإنسان الفلسطيني والتهرب من السلام مع الفلسطينيين والعرب. وكأن مذابح دير ياسين وصبرا وشاتيلا... والقتل العشوائي اليومي للفلسطينيين منذ 60 سنة لها ما يبررها. الهدف الاستراتيجي الأول مما يجري في غزة هو المزيد من الإضعاف للفلسطينيين، بما في ذلك الطرف المفاوض الذي يتزعمه عباس والذي يدرج في خانة »المعتدلين العاملين مع إسرائيل وأمريكا من أجل السلام«؛ إضعاف المقاومة، إضعاف الطرف المفاوض حتى يقدم تنازلات جديدة، إضافة للتنازلات الكبيرة التي قدمت منذ أوسلو، من دون التسليم بدولة فلسطينية مستقلة، وإضعاف الإرادة الفلسطينية في التمسك بالأرض والإيمان بقضيتهم. * من جانب آخر، وزيادة على الحسابات الانتخابية لفيفري القادم بين حزبي »كاديما« الحاكم حاليا بقيادة ليفني والليكود بقيادة نتانياهو، بحيث تريد جماعة لفني أن تكسب الإسرائيليين بالظهور بموقف المتصلب الأقدر على استرداد هيبة إسرائيل العسكرية، هناك رغبة إسرائيلية في خلق وضع جديد أمام الوافد الجديد للبيت الأبيض باراك أوباما. هذا الأخير، وإن كان ينتظر ألا يحيد عن سابقه من حيث الدعم المطلق لإسرائيل، لكنه أعطى أملاً بأنه سيتعامل مع الصراع في الشرق الأوسط وفق مقاربة مغايرة لسابقه ستتسم بالجدية، بحيث سيدفع نحو تقدم عملي في مفاوضات السلام. وباختيارها لأسلوب الحرب والعنف مع عدو أنتجته سياساتها تكون إسرائيل قد ضيّقت على أوباما حظوظه في تسوية نهائية للصراع الطويل هناك، وفي هذه الحالة، فالرجل الأسود، الذي بنى حملته الانتخابية على التغيير وردّ الاعتبار للقيم الأمريكية، سوف لن يبقى أمامه سوى المضي في المساندة المطلقة لما تقوم به الدولة العبرية في تسيير شؤونها مع »إرهابيي الشرق الأوسط«، وهكذا تهدر إسرائيل فرصة تاريخية للسلام في المنطقة. * الحقيقة المرة التي لم يهضمها العرب، سيما المحسوبين على حلف المعتدلين أو أصدقاء أمريكا وإسرائيل، هي أن إسرائيل لا تريد السلام الآن، لأنها ببساطة هي الدولة القوية عسكريا في الشرق الأوسط ولها ترسانة عسكرية نووية كافية لتدمير من يهدد أمنها في المنطقة وهي تحظى بدعم القوة الأولى في العالم، فلماذا تقيم سلاما مع خصم ضعيف وهي قادرة على قتله وسلب أرضه لكسب مزيد من الأرض لدولتها التي لم تطلع المجموعة الدولية على حدودها بعد. يكفي أن نشير إلى أن إسرائيل تنصّلت من اتفاقات أوسلو ونعتت ياسر عرفات، الذي وقعها معها، بالإرهابي، لأنه رفض الاستمرار في التنازلات بدون مقابل. في ذلك الوقت لم يكن الخصم حماس. * إسرائيل لم ترد على المبادرة العربية للسلام منذ 2005 إلى اليوم. وبعد لقاء أنابوليس لم تترد في بناء المستوطنات في الضفة. وهكذا تبقى في كل مرة تختلق أزمة لتبادر بالعنف لخلق مزيد من العنف، الذي يبرر العدوان. * وفي الجهة الفلسطينية والعربية هناك وضع معقد. فالانقسام ليس عربيا فقط بل صار فلسطينيا أيضا. هناك دولتان وهميتان؛ واحدة في غزة والأخرى في الضفة وكل طرف يعتقد أن نجاحه يتم على جثة الآخر. وهو سقوط حر في الفخ الإسرائيلي. * لقد انساق العرب وراء الرغبة الأمريكية في كسر العمل العربي المشترك، وهو العمل الذي من شأنه أن يعزز القدرة التفاوضية للعرب ويقوي الطرف الفلسطيني كونه الأضعف في الحلقة. لكن التقسيم المفروض حاليا بين معتدلين (السلطة الفلسطينية، مصر، الأردن، السعودية...) ومتطرفين أو ممانعين (حماس، سوريا، حزب الله، إيران) خدم إسرائيل في مخططها لرفض التسليم بحقوق الفلسطينيين، وتمنح لنفسها الوقت لتغيير الوقائع على الأرض بقتل الفلسطينيين وترحيلهم وقضم الأراضي وبناء مستوطنات جديدة. ولم تكن مفاوضات السلام سوى تغطية عن وضع لا مفاوضات فيه. * الطرف العربي المعتدل، الذي وُضع في خانة الحليف لأمريكا وإسرائيل في محادثات السلام، ينبغي أن يسأل نفسه: ما هي المكاسب التي حققها من تحالفه؟ هل حصل تقدم في حل المشكلة الأم وهي القضية الفلسطينية؟ أم هذا الوضع هو في حد ذاته مصطنع للإبقاء على اللاّحل بما يحقق المصالح الإسرائيلية؟! * المؤسف أن الأطراف العربية المسماة »معتدلة« خضعت لهذا التصنيف وصمتت؛ فلم تطلب من حلفائها تقديم عمل ملموس لدعم خيار السلام على الأرض. وتاهت، أيضا، في حساباتها الخاصة، التي تمليها الرغبة في التحكم المستمر في السلطة، بعيدا عن القواعد الديمقراطية. فهي تبدي تخوفا مما تسميه »قوى التطرف ذات الأجندة الخارجية«، التي تنازعها السلطة، لكنها لا تريد الاعتراف بأن قوى التطرف نبتت على إخفاقاتها المتتالية وهي مرشحة للتجذر أكثر في المجتمع مادامت الأنظمة على عجزها الحالي. * لقد ارتكب محمود عباس والعرب »المعتدلون« خطأ قاتلا لما تحالفوا ضد حماس، لأنهم بذلك مهدوا الطريق أمام إسرائيل لخلق وضع يبرر لها بالعدوان. فالقادة الإسرائيليون والسياسيون الأمريكيون يكررون أمام العالم بأسره »إن حماس منظمة متطرفة وإن جميع دول المنطقة تساندنا وتريد السلام، باستثناء إيران وسوريا وحزب الله...«! * الوضع الفلسطيني معقد، وبارقة الأمل باقية في إيمان الفلسطينيين الصلب بعدالة قضيتهم وبإمكانية إدراكهم للخطط الإسرائيلية. المستعجل اليوم هو أن يتكلم الفلسطينيون بصوت واحد، وهذه مهمة ملقاة على عاتق عباس أولا وقادة حماس ثانيا. ومن جانب آخر، ليس مقبولا أن يبقى العرب »المعتدلون« رهن صمتهم، الوقت اليوم مناسب للمضي في دبلوماسية نشطة للتعريف الجيد بالقضية الفلسطينية وللدفع نحو حل نهائي، باستغلال الظرف الجديد المتمثل في إدارة أمريكية وعدت بمقاربة جديدة في الشرق الأوسط. *