هكذا تسير الجماعات الإسلامية مستشيطة مستنفرة داخل الأزهر الشريف أو في جنباته منددة بلغة غاضبة وشعارات دينية برواية حيدر حيدر »وليمة لأعشاب البحر« التي كتبها منذ أزيد من عشرين سنة بالجزائر في عنابة. * "من سعادة المرء أن يكون خصمه عاقلا" * * هكذا أيضا يجر الفنان والموسيقي الكبير مارسيل خليفة إلى المحاكم لأنه تجرأ وغنّى قصيدة الشاعر الفلسطيني الكبير المرحوم محمود درويش »يوسف«. * هكذا يصرح الروائي الجزائري رشيد بوجدرة على القنوات العربية والأوروبية وعلى أعمدة الصحف بكل اللغات بأن الجماعات الإسلامية أصدرت في حقه فتوى مضمونها إهدار دمه. * هكذا أيضا وبصمت قبيح اغتيل الفيلسوف الحكيم الدكتور حسين مروة على خلفية فتوى صدرت ضده وهو خريج أكبر المرجعيات الدينية وصاحب الدراسات التراثية المتميزة وعلى رأسها مؤلفه الشهير: »النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية«. * وهكذا أيضا يغتال الفقيه واللغوي العلامة الدكتور صبحي الصالح صاحب كتاب »دراسات في فقه اللغة« وكذا »مباحث في علوم القرآن« و»مباحث في علوم الحديث الشريف«. * وهكذا نزلت ذات يوم أيضا فتوى ضد المفكر والشاعر الرقيق مهدي عامل (حسن حمدان) الذي أحب حي باب الوادي وأحب الجزائر فاغتيل في شارع اسمه شارع الجزائر ببيروت ذات 18 مايو 1987. * هكذا أيضا نزلت الصاعقة في شكل فتوى طائشة أو مدروسة أصابت الكاتب والمفكر المصري الدكتور فرج فودة في شوارع القاهرة فأخذته إلى العالم الآخر. * ومثل هذه الفتاوى نزلت على شيخ الروائيين العرب الأديب نجيب محفوظ وهو يسير في أمان الله وحفظه وكعادته في شوارع القاهرة العريقة فأردته طريح المستشفى خرج منها معوق اليد التي ما عادت قادرة على حمل القلم ليلتزم الروائي والأديب طريق الإملاء على كاتبه السلماوي أو غيره. * هكذا هي الفتاوى تسقط مطرا حامضا وحمضيا على رؤوس العباد من المثقفين والمفكرين في العالم العربي والإسلامي. فتاوى ينفذها شباب غُرِّر بهم واستثمر كثيرا في جهلهم وفي سذاجتهم وفي إسلامهم البسيط فكانوا اليد التي نفذت وقتلت المفكرين والفقهاء والشعراء والمبدعين أو أرهبتهم أو هجرتهم أو نفتهم إلى بلادات أخرى. * أمام كل هذا المطر الحامض من الفتاوى النازل على العباد من النخب التي لا تتكرر، فتاوى نازلة من بارابولات منصوبة في كل الاتجاهات، أمام هذه الحال المخيفة والتعيسة أليس حري بنا العودة اليوم وبكل هدوء وعقلانية إلى دراسة هذه الظاهرة بعد أن تعاظم وقعها واختلط فيها وبسببها الحابل بالنابل وأصبحت شعوبنا تشك في كل شيء وتخاف من كل شيء وتتردد في كل شيء وتقبل كل شيء وقد ألغي العقل نهائيا أو كاد. * أما وجب علينا أن نتساءل اليوم عن كيف كان المسلمون يعيشون ويتعايشون في ومع مجتمعات متنوعة ومختلفة ومتعددة ومتناقضة: * لم نسمع أن المعري وهو صاحب »رسالة الغفران« الجريئة في أطروحاتها وفي تصوراتها قُتل أو هدد في زمنه. إنني أعتقد بل أجزم أن المعري لو كان بيننا اليوم لصدرت في حقه عشرات الفتاوى التكفيرية الداعية إلى قتله وتقطيع جسده أطرافا أطرافا ورميها في التنور. * ما سمعنا عن بشار بن برد أنه قتل وهو الشاعر الجريء الذي استعمل كل أبعاد الكتابة شكلا ومضمونا. * وأكثر من ذلك ما سمعنا أن أبا نواس نكل به أو عذب أو صدرت في حقه فتوى من أي جهة كانت، وهو الشاعر الذي كسر كل الطابوهات واخترق كل فكر محافظ، بل أكثر من ذلك ظل يستشهد به في اللغة وفي جماليات الشعر. * أعرف أنه لو عاش بشار بن برد أو أبو نواس بيننا في هذه الأيام، أيام البارابول والأنترينت لنزلت في حقهما فتاوى ولعرفا مصيرا مرعبا وكارثيا. * دون شك إننا قرأنا في التاريخ العربي الكثير مما تعرض له بعض الفقهاء والأدباء من قبل الساسة من قمع وتهجير وقتل وأعتقد أن كثيرا من هذا الذي عاشوه كان سببه المواقف السياسية أكثر منها المواقف الأدبية أو الفكرية أو الدينية. * أمام هذه الفوضى في الفتاوى القادمة من القنوات الفضائية وشبكات العنكبوت الإلكترونية نتساءل: هل تغيرت الأدوار؟. * علينا أن نذكر أنه وعلى مدى القرنين التاسع عشر والعشرين كانت هناك ثلاث مؤسسات مرجعية في العالم العربي يتمركز فيها الصوت الديني الذي يستمع إليه وهي: الأزهر والقرويين والزيتونة. * ومع أن هذه المؤسسات نفسها لم تسلم من الصراع الطبيعي الذي حصل بينها وبين المثقفين المتنورين في فترات متعاقبة مثل ذاك الذي حدث بين عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين والأزهر أو ما حدث بين الطاهر الحداد وجامع الزيتونة... وغيرهما، إلا أن هذه المؤسسات كانت تحظى بالاحترام الكبير وكانت قادرة على تخريج الرأي والرأي الآخر وهو سر احترامها حتى من قبل خصومها. * خرجت هذه المؤسسات الفقهاء على كل مشاربهم وفي الوقت ذاته خرجت الشيوعيين والنقابيين والشعراء والروائيين... كان صدرها رحبا. * ولكن اليوم خفت صوت الأزهر المرجعي واختفى مقابل أصوات القنوات الفضائية التي عادت تسمع أكثر مما يسمع بالأزهر. ولم نعد نسمع بجامع الزيتونة أو القرويين إلا كأماكن للسياحة والحنين والقرميد الذي يغري السياح الأجانب ويثير الحس الإغرابي لدى الزوار من الأجانب بتلك الزرابي المفروشة. * لقد قزم وتقلص دور هذه المؤسسات ولم تعوض إلا بالقنوات الهادرة والشاتمة أو المتشنجة. * أمام مطر حامض من الفتاوى النازلة على عقول الشباب من كل القنوات »المتخصصة« وحتى من قنوات منوعات يطيب لها صيد الناس بين أغنية وأخرى من إذاعة حديث ديني لنجم من نجوم هوليود الدين. * لقد كثرت الفتن الفكرية وهي أخطر الفتن جميعها. * لقد تعاظم شأن الفتّانين ومثيري ثقافات الكراهية وتلك مصيبة المجتمعات الإسلامية التي تفقد وتلوث صورتها يوما بعد يوم أمام العالم وبالتالي الإساءة إلى الحضارة الإسلامية والعربية الكبيرة الفلسفية والدينية والأدبية التي كانت ذات يوم تطلع عليها الشمس ولا تغرب. * اليوم أمام زحف هذه الأفكار المتطرفة أما علينا كمثقفين ومبدعين وأدباء على اختلاف مشاربنا وحساسياتنا الفلسفية أن نتدارس هذا الشأن في مؤتمر أو لقاء هادئ وعلمي نتناول فيه »ظاهرة الإعلام الديني« الذي أصبح مصنعا لنجوم هوليود من نوع آخر، نجوم قادرة على إثارة الفتن وتشتيت الجمع وتشويش الرأي ودر الدولار على القنوات وعلى أنفسهم باسم الدين الحنيف. * ضاع الخيط الأسود من الأبيض فإذا المواطن واجد نفسه في منطقة من القلق ما بين الحل والحرمة. * إن هناك استثمارا في صناعة مربحة أساسها صناعة نجوم دينية هوليودية تقوم بها بعض القنوات الفضائية وبعض الشبكات العنكبوتية الانترنيتة من خلال استغلال الإفتاء في كل شيء انطلاقا من فقه المراحيض إلى فقه السياسة إلى فقه الطب إلى فقه الاجتماع إلى فقه الجماع إلى فقه القتل... * اليوم وفي مواجهة الحال على ما هو عليه من واقع كارثي ما هو مطلوب من مثقفينا وعلمائنا على اختلاف مشاربهم ورؤاهم هو الدعوة الملحة أيضا إلى طرح فكرة »الاجتهاد« الجاد والمستقل وقبل »الاجتهاد« علينا أن نطرح ونتساءل وبكل شجاعة وجرأة عن »شروط المجتهد المعاصر«؛ ذاك المجتهد الذي يعيش عصره في ظل تعقد العالم من الناحية التكنولوجية والتقنية والسيكولوجية والاتصالاتية والاجتماعية والاقتصادية وفي ظل انتفاء الجغرافيا وانتفاء الحدود بين الديانات واللغات والعادات والممارسات المتقاطعة على هذه الكرة الأرضية الصغيرة جدا والجميلة جدا والتي علينا الحفاظ عليها من جنون الإنسان ومن قنابل الكراهية التي هي أخطر من القنابل النووية. * مؤكد أن المجتهد الكلاسيكي بعدته التقليدية لم يعد قادرا على الإجابة على سؤال العصر لأن السؤال أصبح مركبا في ظل تقاطع أسئلة العالم وتعقدها. * علينا أن نتحلى بالشجاعة العلمية ونتفق على الاختلاف الذي هو باب الحياة في كل غناها وقوتها وحلمها، نتفق على »أن نصف طبيب يفقدك صحتك ونصف إمام يفقدك إيمانك«. * إننا قد نعرف كيف نتفق ولكننا للأسف لا نعرف كيف نختلف. فالاختلاف ليس الخصومة أو العداوة بل الاختلاف هو رؤية العالم من زاوية غير زاوية الآخر. أن نعرف كيف نختلف معنى ذلك أننا نعرف كيف نتفق. * لذا فعلى قاعدة وفلسفة احترام الاختلاف ندعو إلى تنظيم مؤتمرين كبيرين الأول حول »الإعلام الديني وصناعة النجوم« والثاني حول »شروط المجتهد المعاصر« كل ذلك وقفا لفكر التكفير والتخوين أو التهويد الذي اختزل الفكر العربي الإسلامي بكل ثرائه وتنوعاته الفلسفية والدينية والأدبية