لم أزُر خنشلة إلا مرة واحدة، وذلك في عام 1990، صحبة الأخ الدكتور سعيد شيبان، الذي كان أيّامئذ وزيرا للشؤون الدينية، وكنت موظفا بتلك الوزارة. * لم تسمح لي تلك الزيارة بمعرفة مدينة خنشلة، ولم أتمكن من التعرف على أهلها، لأنها كانت قصيرة، لم تدم إلا يوما وبعض يوم، وكانت زيارة رسمية، محددة التوقيت والتحرك. ولذلك لم تحتفظ ذاكرتي من تلك الزيارة بأي شيء ماعدا ذلك الاستحمام الذي قمنا به في حمّامها المشهور، الذي كان ماؤه حميما، ومسجد الأمير عبد القادر، الذي زاره الوفد الوزاري، حيث ألقى الأخ الحبيب آدمي درسا. * كنت مشتاقا إلى العودة إلى مدينة خنشلة، لألتقي بأهلها، وأتعرف إليها، وأستمتع بجمال طبيعتها، فهي تقع في قلب منطقة الأوراس، وتتوسط الطريق بين باتنة وتبسة، ويحرسها جبل شيلْيا الأشم. * وقد تحقق هذا الشوق يوم 22 من شهر أفريل الفارط، حيث حلَلَت بها تلبية لدعوة كريمة تلقيتها من شعبة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، للمشاركة في الملتقى الذي أقيم تحت عنوان: »ملتقى الأوراس الأول حول مبادئ وقيم الجمعية، ودورها في الحفاظ على الدين والوطن«، وقد مكثت بها ثلاث ليال، كانت بهجة للنفوس، وغذاء للعقول. * لقد كان ذلك الملتقى ممتازا من عدة نواحٍ: * 1) من حيث موضوعه، وهو »مبادئ وقيم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ودورها في الحفاظ على الدين والوطن«. * والحديث عن جمعية العلماء في عهد روادها الأخيار، ومؤسسيها الأبرار حديث عذب، يغذي العقول، ويروي القلوب، ويشحذ العزائم، ويقوّي الإرادات، ويجلّي الحقائق التي يحاول المبطلون أن يطمسوها. فهذه الجمعية لم يُخلق مثلها في البلاد، ومؤسسوها لم يوجد مثلهم في العباد، لما امتازوا به من قوة إيمان، وصلابة عزم، وكثرة عمل، وصدق نية، وإخلاص قصد، ونكران ذات. وذلك ما جعل الشاعر مفدي زكرياء، وهو ليس من أعضائها، يشهد بأن هذه الجمعية المباركة هي أمل الجزائر، فقال: * جمعية العلماء المسلمين ومن * خاب الرجاء في سواك اليوم فاضطلعي * أمانة الشعب قد شدت بعاتقكم * * للمسلمين سواك اليوم منشود * بالعبء، مذ فر دحال ورِعْديد * فما لغيركم تُلقى المقاليد * * فإذا كان للأرض أوتاد هي الجبال، فقد كان للشعب الجزائري أوتاد هم أولئك الرجال، الذين أسسوا جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فصححوا له عقيدته التي أفسدتها البدع والخرافات، وأحيوا له لغته التي أقبرتها فرنسا الباغية، وعلمته تاريخه الذي جهّلته فيه فرنسا الطاغية، ليعتز بذلك التاريخ المجيد، وليعمل على استرجاع وطنه المسلوب، وليثأر لعرضه المثلوب. ولذلك أقبل هذا الشعب على جمعية العلماء بعدما تبيّن له معدن رجالها، »فبذل لها - كما يقول الإمام الإبراهيمي - قليلَ موجوده في سبيل وجوده«، وراغت فرنسا على رجالها ضربا باليمين وبالشمال، فلم تضرُّهم إلا أذى، حيث ثبّتهم الله، وربط على قلوبهم، فما ضعفوا، وما استكانوا، وما وهنوا، حتى أحق الله الحق، ودمغ الباطل، فإذا هو زاهق. وعسى الله أن يمنّ على الجزائر فيبعث فيها رجالا مثل أولئك الرجال، يريدون وجهه، ويخدمون دينه، ويمْحَضون النصح لشعبهم، لا يبغون من وراء ذلك حظ النفس وبريق الفلس، وما ذلك على الله بعزيز. * * 2) من حيث المستوى العلمي: حيث كانت المحاضرات رفيعة الأسلوب، عميقة الأفكار، غزيرة المعلومات، موثّقة الاستشهادات، ولم تكن كلاما غير مفيد، وأشهد أن ملتقى خنشلة كان أعلى مستوى من كثير من الملتقيات التي حضرتُها في داخل الجزائر وخارجها. * * 3) من حيث التنظيم والانضباط: حيث كانت المحاضرات تنطلق في مواعيدها، وكان المحاضرون ملتزمين بما حدد لهم من وقت، ولم تستحوذ عليهم شهوة الكلام. وكان رؤساء الجلات في غاية الأدب واللطف مع ما يقتضيه التسيير من حزم. ولم يكن في القاعة لا مكاء ولا تصدية، فإذا اضطر أحد من الحاضرين إلى محادثة جاره همس في أذنه، وإذا اضطر أحد إلى الخروج لا تسمع له رِكزا، كأنه يمشي على رؤوس أصابعه. * * 4) من حيث الحضور: حيث توافد على قاعة المحاضرات كثير من الناس، وقد دلت أسئلتهم وتعقيباتهم على حسن الإصغاء للمحاضرين، وعلى حسن الاستيعاب للمحاضرات، وعلى الأدب السامي في طرح الأسئلة والتعقيب. * وقد لفت نظري حرص كثير من الأخوات الفضليات على حضور الملتقى، ومتابعة المحاضرات، ولم يقتصرن على ذلك، بل طالبن بلقاءات مع بعض المحاضرين لطرح بعض القضايا، وقد ظهرن أكثر وعيا وأعمق إدراكا بما يُكاد للإسلام وللجزائر، وأشد حرصا عليهما من كثير من »الرجال« الذين يقولون في الإسلام والجزائر بأفواههم ما ليس في قلوبهم، حتى إنهم ليذكّرونك بقوله تعالى: »ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام، وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها، ويهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد، وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم..« (البقرة 204 - 206) * لقد ذكرني بعض من التقيت بهن، واسمتعت إلى ما طرحنه من أفكار سديدة، وآراء صائبة بقول المتنبي في واحدة من أمثالهن: * فلو كانت النساء كمثل هذه * لفُضِّلت النساء على الرجال * * لقد أعادت أولئك الأخوات الكريمات لي الثقة في مستقبل الجزائر، إن نشّأن ما تلفظه أرحامهن من بنات وبنين على ما سمعته منهن من مبادئ وقيم دينية ووطنية، التي داسها الفجار، وتاجر بها التجار. * وما أنسى، لا أنسى تلك الأخت الفاضلة، ذات اللسان الفصيح، والقول المليح، التي شنّفت أسماع الحاضرين وأشخصت أبصارهم بقصيدتها التي ألقتها باللسان الشاوي الذي لا أعرفه، ولكنني تفاعلت مع القصيدة، فانسابت كلماتها في كياني (*)، لأنها كانت تتلألأ بالمبادئ الإسلامية والقيم الوطنية التي يطاردها أراذلنا، وبادي الرأي منا، لينزلوا الجزائر العالية إلى مستوياتهم السافلة. * وقد قارنت بين أمازيغية هذه الأمازيغية الأصيلة وبين أمازيغية قوم آخرين، الدخيلة، الهجينة المطبوخة في المخابر الفرنسية فتذكرت كلمة للحاج العقيد الأخضر الأمازيغي - رحمه الله- الذي وقف كالطَّود في وجه من أراد عقد ملتقى »للأمازيغية« في باتنة، واعترض على ذلك قائلا »هذه أمازيقية وليست أمازيغية (*)« * ومما زاد في بهاء هذا الملتقى أن المحاضرين كانوا من مختلف مناطق الجزائر. وبالرغم من أن بعضهم لم يكونوا على معرفة ببعضهم، إلا أنهم سرعان ما تعارفوا فائتلفوا، وأقبل بعضهم على بعض كأنهم يتعارفون منذ أمد بعيد. والفضل في ذلك يعود إلى الإسلام الحنيف والوطنية الصادقة، هذان العاملان اللذان ما يمسك الجزائر الشاسعة إلا هما، ولا يحفظها من كيد الأعداء وخيانة »الأبناء« غيرهما، ولا يؤلف بين قلوب الجزائريين سواهما من الأفكار الدخيلة التي يجتهد الكائدون والخائنون في إنباتها في الجزائر، لتتمزق إلى عروش وقبائل يلعن بعضها بعضا، ويقتل بعضها بعضا. * وأولئك المحاضرون هم عبد الحميد زغارة، الذي تحدث عن بعض آثار الإمام الإبراهيمي، وأدبه البديع، ومحمد الأكحل شرفاء الذي ذكّر بأعمال جمعية العلماء وأفضالها على البلاد والعباد، ومحمد بوحجام الذي تناول موضوع »الهوية الوطنية عند الجمعية« وكاتب هذه السطور الذي تحدث عن »إسهام الجمعية في الحركة الوطنية«، وموسى بابا عمي الذي تكلم عن »روح التوحيد والأخوة في فكر الجمعية«، وصالح عسكر الذي أبرز »دور الجمعية في إحياء الأمة«، وإبراهيم مڤلاتي الذي تحدث عن أهمية اللغة العربية في جهود الجمعية، وسعيد بويزري الذي جلّى تأثير جمعية العلماء وجهودها في منطقة زواوة، وعبد الحليم قابة الذي استعرض محطات من تاريخ الإمام ابن باديس ولمحات من فكره، والعمري مرزوق الذي حلّل سؤال الهوية في آثار الجمعية، ونعيم رحالي الذي طرق موضوعا طريفا وعرضه عرضا لطيفا، شد به الأنظار، ولفت إليه الأبصار، وهو »العلم بين الإسلام والوطنية«، وحمدي محمد الذي شغله موضوع »مصادر التمويل« التي اعتمدت عليها الجمعية في إنجاز ما أنجزته من عظيم الأعمال، وتكوين الرجال، فوجدها عند هذا الشعب الكريم، الذي يؤثر على نفسه رغم خصاصته، إن وَثِق أن ماله سيكون في يد أمينة، تستلمه أمانة، وتؤديه أمانة، وكان لبنة التمام ومسك الختام مراد زعيمي الذي استشف آفاق الجمعية واستراتيجيتها. * وقد دلت تلك المحاضرات على أن فكر جمعية العلماء ثري وعميق، ولكنه في حاجة إلى تجلية، وتنظيم، ونشر في الناس. وقد أصبح هذا ممكنا بعدما تكرم الأخ الحبيب اللمسي فنشر مجلة الشهاب، وجرائد الجمعية. * وقد حضر جزء من جلسات الملتقى السيد والي ولاية خنشلة، وتشرف بإلقاء كلمة وجيزة على الحاضرين، ونرجو سيادته أن يمد شعبة الجمعية بما يستطيعه من إمكانات مادية، ومنها إعادة نادي الجمعية القديم، الذي هو مغلق الآن، إلى الشعبة، ونطمع أن يزيد. * وأذكر - للتاريخ- أن الذين التقيناهم قد أثنوا على السيد الوالي لما قام به من منع للخمر، وإغلاق للخمارات، فاستحق شكر الشاكرين، وإن أغضب إخوان الشياطين، الذين أشاعوا الفاحشة في تلك الربوع التي طهرتها من الرجس دماء الشهداء الأخيار، وبطولات المجاهدين الأحرار، الذين ما نفروا للجهاد واستحبوا الشهادة إلا حماية للعرض، وتطهيرا للأرض. * لقد أصبح المواطنون يستطيعون الخروج بعائلاتهم إلى تلك الربوع الجميلة، للتمتع بتلك المناظر الخلابة، بعدما كانوا محرومين من ذلك بسبب أولئك الصعاليك الذين نجّسوا تلك الأماكن. بما كانوا يتقيأونه من بذيء القول، ويقومون به من فاحش الفعل. إن السيد الوالي لم يقم إلا بواجبه الديني والوطني، حيث أعاد الأمور إلى طبيعتها، وصحح وضعا منحرفا أنشأته فرنسا في الجزائر، حيث هدمت المساجد، وخربت المدارس، وأنشأت بدلها بيوت الفسق والخمارات، لتدنس الشعب الجزائري، وتغرقه في الفساد، ليخلو لها وجه الجزائر، وتخلد فيها. * وما أروع هذا الشعب إذ سمى الأمراض التي أصيب بها بعض الجزائريين الذين غلبت عليهم شهوتهم »المرض الفرنسي (1)«. والدليل على أن شعبنا كان طاهرا، ولم تنجسه إلا فرنسا هي شهادة القنصل الأمريكي وليم شالر في الجزائر قبيل مجيء الوباء الفرنسي، حيث وصف شعبنا بأنه »الشعب الذي لا يتناول الخمر (2)«. * وأغتنم هذه الفرصة لأدعو الولاة الآخرين إلى الاقتداء بالسيد والي خنشلة، فيطهرون الولايات التي يسيّرونها من الرجس، فإن لم يفعلوا فسيردون إلى عالم الغيب والشهادة، وسيحاسبهم على عدم تغيير المنكر، ولو ألقوا معاذيرهم، ولن يجادل عنهم أحد ممن يرهبونهم أو يُرضونهم على حساب الدين والوطن، ويومها يعضون على أيديهم، ويقولون يا ليتنا اتخذنا مع المؤمنين سبيلا، ولم نطع سادتنا وكبراءنا الذين أضلونا السبيلا. * لقد تحلّى أعضاء شعبة جمعية العلماء في خنشلة بخلق الوفاء، وأثبتوا أنهم نعم الوارثين لمبادئ ديننا وقيم وطننا، إذ كرموا في الملتقى حرم المجاهد الشهيد عباس لغرور، رحمه الله، وكرموا ثلاثة من أعضاء جمعية العلماء القدامى. * وما ينبغي لي أن أنسى مكرمة الأخ الدكتور أحمد الرفاعي الشرفي الذي سمت نفسه إلى المعالي، فأعار منزله في خنشلة إلى شعبة جمعية العلماء لتتخذه مقرا لها، وتمارس فيه أعمالها الخيرية من تحفيظ لكتاب الله - عز وجل- وتربية أبنائها وبناتنا. وإذا أشدتُ بمكرمة الأخ الفاضل فمن باب »من لا يشكر الناس لا يشكر الله« - كما قال رسول الله- لأن ما أعرفه عن الأخ الرفاعي أنه لا يحب أن يحمد بما فعل، فضلا عن أن يحب أن يحمد بما لم يفعل. * لقد وجدت في مدينة خنشلة أمرا لم أجده في كثير من مدننا التي زرتها، وجدت لوحات مسطورة على جدران البنايات التي هاجمها المجاهدون في أول نوفمبر 1954، وتحمل تلك اللوحات أسماء المجاهدين الذين هاجموها. ومن تلك البنايات مقر الحاكم الفرنسي، الذي هاجمته ثلة من المجاهدين ليلة الفاتح من نوفمبر تحت قيادة المجاهد عباس لغرور. والمجاهدون الذين كانوا تحت قيادته هم: * محمد سامر، قدور بورمادة، عبد القادر بورمادة، محمد شامي، إبراهيم بوعطيل، محمد بوعزيز. فرحمهم الله ورضي عنهم، وأرضاهم فلولاهم -وأمثالهم - لما تحررت الجزائر ولما رجعت إلى محمد - صلى الله عليه وسلم- ، ولما أقام هذا العبد الضعيف في ذلك المقر المنيف. * وشكرا للإخوة الكرام، أعضاء شعبة الجمعية في خنشلةوباتنة على حسن الاستقبال، وكرم الضيافة، والشيء من مصدره لا يستغرب. وليعذروني إن لم أذكر أسماءهم، لأنهم كثر - الحمد لله - ولأنهم ليسوا من طالبي الشهرة، اللاهثين وراءها. * * * ) أعاني على فهم ما لم أفهم من كلمات أحد الإخوة كان جالسا عن يساري * **) حدثني بذلك الأخ أحمد عبيدي رئيس جمعية الحاج الأخضر في باتنة * 1) عبد العاطي جلال: فرنسا في الجزائر ص 91 * 2) مذكرات وليم شالر. تعريب: اسماعيل العربي. ص 88 * *