لاحظت أن حبرا كثيرا قد أسيل منذ أشهر عديدة حول مقابلة كرة القدم التي ستجمع بين الفريقين الشقيقين: المصري والجزائري، بطرائق مبالغ فيها في البلدين، أخرجتها عن سياقها الرياضي المحض، وتم ذلك على حساب القضايا المشتركة المصيرية التي لم تحظ بالرعاية المطلوبة. وقد أثار ذلك بعض الإحباط في نفسي، فارتأيت ضرورة الحفر في الماضي القريب لنفض غبار النسيان عن العلاقات المصرية الجزائرية الطيبة التي نسجتها جهود الأسلاف، حتى تدرك أجيال الاستقلال مدى التلاحم القائم بين الشعبين المصري والجزائري عبر التاريخ. انحرفت الرياضة في كثير من البلدان العربية، حتى صارت مصدر قلق للرأي العام، جراء تحوّلها إلى أداة للتباعد، بدل أن تكون جسرا للتواصل يمتن اللحمة بين الشعوب، فزرعت البغضاء والأحقاد بين الإخوة الذين وحدهم التاريخ والمصير المشترك، وصارت العلاقات أحيانا مرهونة بنتيجة مقابلة رياضية في كرة القدم، كثيرا ما يتراشق بلدان متنافسان عقبها بالسب والشتم والقذف والتنابز بألقاب مشينة، خاصة بين الجزائر ومصر، هذا ولم يعد المشرفون على الفرق الوطنية يشعرون باطمئنان. ومن دواعي الأسف أن الكثير من المنابر الإعلامية بأنواعها في البلدين قد انساقت وراء هذا السلوك الأخرق، طلبا للربح السريع من خلال مضاعفة مبيعات الجرائد أو حجم المشاهدة، دون التفكير في العواقب الوخيمة المنجرة عن ذلك، والتي من شانها أن تلوث العلاقات الحميمة التي صنعتها جهود أجيال عديدة عبر التاريخ. لذلك فمن الواجب التذكير أن الأصل في الرياضة أن تكون وسيلة للتعارف والتواصل ولبناء العلاقات المتينة بين الشعوب، وأداة للتسلية والترفيه والترويح عن النفس، تخفف من وطأة الحياة اليومية. فما أجمل تلك الصور التي تصلنا من العالم الغربي المتحضر، في مختلف المنافسات الرياضية الشريفة، التي تظهر المتفرجين في قمة السمو المدني، يناصر كل طرف فريقه بأسلوب حضاري راق، يعبر فيه عن تقديره للفريق المنتصر، ولو كان خصما لفريقه المفضل. منزلة مصر أكبر من مباراة كرة القدم يعود تاريخ العلاقات بين مصر والجزائر حسب المعلومات المتداولة إلى عهد الملك الأمازيغي شاشنق، في القرن العاشر قبل الميلاد، حين نجح في تأسيس الأسرة الثانية والعشرين التي حكمت مصر، وخلدت هذه الأسرة بالعديد من المسلات في معبد الكرنك. ثم تدعمت هذه العلاقات بجهود الكتاميين وبعض فصائل الزواوة الذين أسسوا القاهرة والأزهر الشريف، تحت راية الدولة الفاطمية التي أسست في شمال إفريقيا، في القرن العاشر الميلادي، ومن أبرز البصمات الجزائرية في الثقافة المصرية الشاعر الذائع الصيت البوصيري صاحب البردة، والمطربة الكبيرة وردة الجزائرية . ومما لا يختلف فيه اثنان أن مصر قد لعبت دورا رائدا في مساعدة الجزائر، ثقافيا وسياسيا خاصة مع بروز الحركة النهضوية الإصلاحية، وظهور التيار الوطني التحرري، فكانت مصر بمثابة القبلة التي استقطبت نشطاء المجتمع المدني، والحركة الوطنية، وطلبة العلم ، لتصير بعد اندلاع الثورة التحريرية الكبرى، قاعدة خلفية أساسية لها، الأمر الذي جعل فرنسا تشن عليها الحرب في العدوان الثلاثي سنة 1956. وإذا كانت هذه المعلومات التاريخية قد تبدو بديهية بالنسبة للكبار، فإن الكثير من الشباب الذي يشكل ما يعادل 70 بالمائة من مجموع سكان الجزائر، يجهلون مدى الترابط الوثيق بين مصر والجزائر. ومن مظاهر الدعم والمؤازرة بالأمس القريب استقبال مصر لرموز الحركة الإصلاحية الاجتماعية، وممثلي الحركة الوطنية، وتقديم الدعم الكامل لهم ، من اجل العمل على تكسير الحصار الإعلامي المفروض على كفاح الشعب الجزائري . وتم في السياق دعم الثورة إنتاج فيلم حول البطلة جميلة بوحيرد ، وتلحين نشيدنا الوطني من طرف محمد فوزي ، كما استقبلت مصر العديد من الطلبة، وخصصت مرتبا ثابتا للمفكر الجزائري مالك بن نبي، مكنه من التفرغ للعمل الفكري. هذا مجرد غيض من فيض مما يمكن أن يقال عن الدعم المصري للجزائر في الأوقات الحرجة. سلام على مركز الإعلام المصري بالجزائر كان المركز الإعلام المصري، الكائن مقره بشارع علي بومنجل بالجزائر العاصمة، يعد في السنوات الأولى للاستقلال، بمثابة مركز إشعاع ثقافي كبير، وفر للجزائريين المعربين فضاء علميا وثقافيا كبيرا، مكنهم من توسيع معارفهم. هذا وقد ارتبطت طفولتي وشبابي بهذا المركز المشع، ولا زلت أتذكر تلك الظروف القاسية التي كان يعاني منها الطالب المعرب، جراء استحواذ اللغة الفرنسية على جميع الفضاءات العلمية والثقافية، فكان لنا نحن المعربين هذا المركز بمثابة طوق النجاة، مكننا من الاطلاع على كنوز الثقافة العربية، والتواصل مع الحضارات الإنسانية باللغة العربية، التي كانت آنذاك ضعيفة في المدرسة الجزائرية الرسمية. والجدير بالذكر أن هذا المركز قد أنجز بطريقة عصرية جعلته في مصاف المراكز الثقافية الغربية، وكان يقدم خدمات علمية وثقافية وترفيهية متنوعة لم أكن أحلم بها. ولا شك أن كفاءة السيد شكري (المشرف على المركز آنذاك) وحسن معاملته لنا نحن الطلبة، كان عاملا آخر ساهم في ترقية الخدمات المقدمة لرواد المركز. وكان يكافئ التلاميذ والطلبة المجدّين، بتوجيه الدعوات لهم لحضور عروض السينما والحفلات والمحاضرات. وإن أنس من الأشياء فلا أنس الدعوة الأولى التي تلقيتها منه - وأنا في سن المراهقة لحضور أحد ألوان هذه النشاطات، وغمرتني هذه الدعوة التي لم أكن أتنظرها، بالغبطة والسرور، وجعلتني أشعر بقيمة اجتماعية، رغم رقة حالي وبؤسي الشديد، الناجمين عن استشهاد والدي وأخي في الثورة، دون أن أحظى بالرعاية المطلوبة من طرف الدولة الجزائرية. وساعدتني هذه المعاملة الطيبة على استعادتي توازني النفسي الذي كاد أن ينهار. هل من معتصم يعيد فتح هذا المركز؟ هذا ومن دواعي الحسرة والألم أن هذا المركز الرائد قد أغلق سنة 1977م ، عقب زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات إلى إسرائيل، دون أن يحرك دعاة التعريب عندنا ساكنا من أجل إعادة فتحه. واعتبارا لأهمية هذا المركز العلمية والثقافية، فإن استمرار غلقه يعد في رأيي وصمة عار في جبين السلطة الجزائرية التي حسب علمي لم تحرك ساكنا من أجل إعادة فتحه. ومما يحز في النفس أن غلق المركز الثقافي الفرنسي لبعض الوقت، في عقد التسعينيات من القرن الماضي بسبب ظاهرة الإرهاب، قد ولّد حالة استنفار لدى جهات نافذة، وأقيمت الدنيا ولم تقعد حتى أعيد فتحه! فبماذا نفسر ظاهرة الكيل بمكيالين إزاء قضيتين ثقافيتين متشابهتين؟ لا شك أن إعادة فتح المركز الثقافي الفرنسي بسرعة مذهلة يفسر بقوة اللوبي الفرنسي الذي يناضل من أجل قضية أيديولوجية معروفة وهي الدفاع عن أمبراطوورية الفرنكوفونية، في حين حوّل أشباه المناضلين عندنا اللغة العربية إلى مجرد سجل تجاري لكسب المغانم باسم الدفاع عن العربية، ينكّسون الرايات فور حصولهم على المناصب السامية المساعدة على الترقية الاجتماعية. وفي الأخير أذكّر سعادة السفير عبد القادر حجار الذي ارتبط إسمه بقضية التعريب في الجزائر أيام زمان، أن الرأي العام لا يزال ينتظر منه بذل جهد هناك، من أجل إقناع الدولة المصرية بوجوب إعادة فتح مركز الإعلام المصري الكائن مقره في شارع علي بومنجل بالعاصمة الجزائرية، هذا المركز الذي تجاوز وزنه حجم الخدمة الثقافية، ليصير في رأيي رمزا من رموز التواصل الحضاري بين بلدينا مصر والجزائر.