حين قرأت لأول مرة رواية "اللجنة" لصنع الله إبراهيم، كان ذلك في منتصف الثمانينات، فكرت في أن كوكا كولا قادرة على قلب العالم، في الذوق كما في الاقتصاد كما في الحروب والاستعمارات. * تذكرت هذه الرواية التي كتبها مثقف عنيد وبضمير يقظ دائما وهو الحاصل على جائزة ابن رشد للفكر الحر سنة 2004، تذكرت هذه الرواية حين قرأت خبرا مفاده أن رئيس شركة كوكا كولا فرنسا (السيد كريستيان بولج) * اجتمع بمسلمي فرنسا (إتحاد الجمعيات الاسلامية) ليشرح لهم بأن مشروبه السحري لا يحوي كحولا، وكأن المحرم في هذه الكوكا كولا هو الكحول وحده أما أن تكون هذه المؤسسة وراء دعم الاستعمار الإسرائيلي لفلسطين بعشرات الملايير من الدولارات وبشكل إلتزامي ودوري وبنسبة معينة، فذلك ليس بمحرم ولا حرام. * أعجب كيف يضحك الغرب علينا كل مرة ويأكلنا بالتقسيط وبالفرشاة وبالسكين وبالحضارة الهمجية. * في رواية صنع الله إبراهيم "اللجنة" صرخة عالية ضد الأنظمة العربية البوليسية التي تمسخ المثقف وتخصيه عن طريق الرقابة والمسخ ولكن أيضا عن طريق فتح السوق لغول الشركات الأجنبية متعددة الجنسيات وعلى رأسها كوكا كولا. * يبدو أن العالم الذي نعيشه مختلف في كل شيء، في الدين واللغة واللباس وحتى في الله وحدها كوكا كولا لا نختلف فيها ولا حولها. وحتى حين نختلف معها يجيء رئيس هذه الكوكا كولا بكل حضارة يقول للمسلمين بعد أن يجمعهم كالخرفان التي ضاعت بها السبل: "إن كوكا كولا لا كحول فيها" فاشربوها هنية ومنعشة. * وكوكا كولا لا تصنع فقط الإجماع بعد أن يختلف العالم ما بين مسلميه ومسيحييه ويهوديه وصابئته وملحديه وليبرالييه وكنفوشيسييه، إنها وبكل بساطة تصنع لنا "العين" أيضا وتربي "حضارة العين" على مقياس الجمال بما تراه هي وما ترغب فيه. يقول خبراء المودة بأن شكل جسد "نانسي عجرم" منحوت على طريقة قنينة كوكا كولا. فننانسي عجرم هي قنينة كوكاكولا حية ومتحركة وحيوية. * لقد هزمت "قنينة كوكا كولا" التي صممت على شكل إمرأة تشبهها (نانسي عجرم) "قنينة أورانجينا" التي صممت في بلادنا في بداية القرن الماضي، في بساتين الجزائر المستعمرة في بوفاريك والمحمدية (باريكو معسكر) على شكل راقصة الفلامنكو. * هي حرب لا نعرف جيوشها الواقفة على الباب والساكنة في الرأس والمذاق. * لقد تفطن الروائي صنع الله إبراهيم من خلال روايته "اللجنة" إلى هذه الحال من أحوالنا البائسة تجاه هذه الشركات التي تأخذ منا وتحاربنا بمال نصرفه عليها. فكان النص بحق هجائيا جاحظيا بلغة معاصرة وحس مأساوي معاصر أيضا. داخل بنية الطبقة الوسطى المصرية وهو ما ينطبق على هذه الطبقة عربيا أيضا. * لكم هو الأدب الكبير قادر على تخطي الأزمنة ولكم هو مكتشف بشكل رؤيوي المستقبل، ورواية "اللجنة" لصنع الله إبراهيم من هذه النصوص التي تطالبنا بقراءتها وإعادة قراءتها في كل مرة، ما دام حالنا كما هو على الدوام. * في هذا النص المقاوم يرى صنع الله إبراهيم أنه إذا كان الناس يختلفون في معاني كلمات أساسية في الحياة كالحب والسعادة والله فإنهم لا يختلفون حول معنى كلمة "كوكاكولا"، إنها هي هي في كل اللغات وبذات المعنى. * حين أراد صنع الله إبراهيم أن يتهكم بسخريته العالية والفجائعية أيضا من شركة كوكا كولا ووكلائها المباشرين وغير المباشرين المتربصين بالمجتمع العربي في السياسة والاقتصاد والمال والثقافة، عاد لاستغلال معلومات حول تاريخ كوكاكولا إستقاها من أحد الكتب التي نشرتها الشركة نفسها والتي تعرض مسيرة هذا المشروب "الساحر" القادم من ولاية جورجيا بالولايات المتحدةالأمريكية. * وأنا أقرأ خبر اجتماع السيد كريستيان بولج رئيس شركة كوكاكولا فرنسا بمسلمي فرنسا ليطمئنهم الاطمئنان العقائدي بأن مشروبه "الساحر" لا يحوي كحولا، تصورت أن هذا الرئيس "الحضاري" كأنما كان في هذا الاجتماع المنكر يريد أن يعلن إسلام كوكا كولا. سبحان الله؟ * ولكن حين تسلم كوكاكولا هل سيتم ختانها؟ وكيف؟ هل حين تعتنق كوكا كولا الدين الإسلامي وتدخل في باب الحلال الإسلامي هل ستتوقف الشركة عن دعمها السنوي لإسرائيل؟ * دون شك كان السيد الرئيس يتحدث في هذا الاجتماع لغة الفقهاء مستعملا خطاب الفتاوى التي تسقط على المؤمنين يوميا فتقلقهم في نومهم كما في صحوهم إذا كانت لهم صحوة؟ كان وهو يصوغ فتواه أمام مسلمي فرنسا والتي مفادها وفحواها أن كوكا كولا هي شراب "حلال" غير معاد للإسلام ولا متعارض معه، كان هذا "المفتي" يريد أن يقول للمؤمنين إن "كوكا كولا" شراب مبارك وربما في الأيام القادمات ستتحول إلى صديقة حميمة ومباركة لماء زمزم المبارك. * كانت كوكا كولا في القرن العشرين، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، سباقة لفتح باب الإشهار على فضاءات أخرى وغوايات أخرى بل إنها حطمت الفهوم القديمة للإعلانات التي كانت مجرد توصيف لفضائل السلعة والدخول بها في مغامرة فن قائم بذاته مستعملة في ذلك الراديو والأفلام السينمائية والتليفزيون. * وإذا كانت كوكاكولا قد سحبت إليها كثيرا من نجوم السينما والمسرح والتلفزيون والغناء لتوسيع مملكتها في القرن العشرين فهل هي الآن بصدد البحث عن نجوم آخرين يكونون هذه المرة من بعض نجوم الدين وأصحاب الفتاوى والجمعيانت الدينية وتلك طريق آخر للدعاية في القرن الواحد والعشرين لكي تصبح مملكة كوكا كولا إمبراطورية القرن الكبرى. * إني أعتقد أن كوكاكولا من خلال خبرائها الذين بفضل "حنكتهم" التجارية والمالية والاعلامية الدعائية استطاعوا الانتصار على كثير من المنافسين لهم بواسطة حرب الدعاية هاهم اليوم يدخلون تجربة أخرى خطيرة أملا في توسيع وتجديد الوجود والتواجد في الثقافات التي كانت تعد غريبة أو بعيدة وخاصة الثقافة الاسلامية أو الثقافات في العالم الاسلامي، حيث يفوق عدد المستهلكين في هذا العالم المليار نسمة. * إذ بقدرما يعرف الاسلام، هذه الأيام، من توسع داخل خطابات الثقافات العالمية قبولا ورفضا وتعرف اللغة العربية هي الأخرى حضورا ويعرف الفضول الغربي المعرفي والسياسي توسعا كبيرا بغيته معرفة"المسلم" و"الاسلامي" على هذه الأرضية الجديدة فإن كوكاكولا تستغل هذا الوضع السياسي وهذا الفضول الغربي الملئ تارة بالرومانسية الثورية وتارة أخرى بالإسلاموفوبيا القائمة على الخوف من الاسلام، تستغل هذه الحال بوضع استراتيجية إشهارية جديدة قائمة على الثنائية "الحلال والحرام" كي تسحب إليها المؤمنين بعيدا عن قراءة الخلفيات الاقتصادية والتحالفات السياسو مالية والتحالفات الدولية التي تقوم عليها هذه الشركة العابرة للقارات؛ وهو بالفعل ما تحدثت عنه رواية "اللجنة" لصنع الله إبراهيم منذ أزيد من ربع قرن محاولة إرسال رسالة مشفرة للقارئ العربي لتشجيعه على تبني ثقافة المقاومة لا على الرضوخ للوضح المنهار. * يحدث هذا في هذه الأيام حيث عودة الحديث عن التطبيع الثقافي مع إسرائيل والذي يحاول البعض تبريره بخطابات عالمة أو متعالمة.