كان قد أعد خطة لاختطاف أحد العقداء المهمين في وزارة الدفاع، ترصده في سكنه البحري، بالجميلة، عدة أسابيع، عرف الشيء الكثير عن تحركاته، وتحركات زوجته الألمانية، وأمها. * كانت المنطقة ساحة كبيرة، خالية من السكان، فيلاتها الجميلة، انتزعت منها النوافذ والأبواب، والمداخن الرخامية البديعة، وكل ما يمكن انتزاعه، وعمها الغبار والغائط الجاف، والأوراق المتسخة، وصور الفنانات في حجم كبير، ملوثة. يظن من يقترب منها، أنها مأوى للشياطين والأرواح الشريرة. * * للساحة الكبيرة المستديرة، منفذان، يمكن أن يلتقيا وسط المدينة، ويمكن لأحدهما أن لا يمر على المدينة، إنما يشق بعض بنايات ويتجه جنوبا نحو الغابة الكثيفة، أو نحو القرى الساحلية الأخرى، وهو بالذات نقطة ضعف سكن حضرة العقيد. * * لم تكن هناك حراسة مهمة على حضرته، ويمكن لثلاثة أو أربعة رفاق، أن ينجزوا المهمة. يلقون به في أية سيارة أو شاحنة مغطاة، وينصرفون في أمان، سواء نحو الغابة، وكانت، كل غابات الجزائر، خالية إلا من الذئاب ومن الخنازير البرية، والكلاب والقطط الضالة، بعد أن هاجر أصحابها مرعوبين الجزائر، كما يمكن أن يرمى في أحد القوارب المتروكة على الشواطئ ويغير به المنطقة كليا. وهناك يتدبرون أمرهم. * * دبروا مكان إخفائه والباقي علي. * * وماذا نفعل به؟ * * سألوه، فأجاب، نساوم به على إطلاق سراح الرئيس الأسير، أو الرفاق المسجونين، زهوان وحربي وبشير حاج علي . * * لا نخوض معركة مسلحة. وليس لنا أية نية في التحول، إلى حركة إرهابية. * * جاءه الجواب النهائي، فراح يسائل نفسه: * * فقط، نتخفى، وننشئ المناشير، ونعرض أنفسنا لخطر القبض علينا، وندفع الاشتراكات..؟ * * ما معنى تسمية حركتنا إذن، بمنظمة المقاومة الشعبية.؟ * * كما ظل، وإلى وقت متأخر، وربما إلى اليوم، يتفقد خلوة العقيد الذي سقطت به فيما بعد مروحية. * * هل يمكن لوم الرفاق، على أنهم تخلوا عن مقاومة الانقلاب، وتوجهوا إلى استعادة الحزب ؟ * * لعلهم معذورون، بأنهم لم يجدوا التجاوب من لدن باقي الشرائح الوطنية الأخرى. فقد كانت الصدمة قوية جدا، لم يكن أحد ينتظرها، وكان الناس متلهفين على الحياة، يغرفون من متاع الدنيا، بلا حساب. وكانت مؤشرات الانفتاح الاقتصادي، والاجتماعي، التي ظهرت في ملصقات الإعلانات عن البيرة الوهرانية، وفي انتزاع عدة مزارع من عمال التسيير الذاتي، ومنحها لمجموعة من المجاهدين، كلها تشجع، على عدم الالتفات إلى الوراء. كما كان الإعياء من الحرب وتبعاتها، أحد الأسباب في طأطأة الناس لرؤوسهم، لسان حال الجميع يردد ما نسب للشعب غداة الاستقلال: * * سبع سنوات بركات. * * لقد أسدل الستار من يومها عن أمل مواصلة الثورة، وفتح الباب، للاسترخاء والنهب. ولا أحد تساءل من الخبيث الذي أطلق هذا الشعار الملغوم؟ * * لعل الناس أدركوا بالغريزة، أن مسألة الانقلاب العسكري، لا تتعدى كونها صراعا على السلطة، داخل أسرة جبهة التحرير الوطني، التي ما فتئت تعاني الاضطرابات الداخلية، مسلحة وغير مسلحة، منذ ميلادها القسري، والتي لا يعنيهم شأنها في أول وآخر الأمر كثيرا؟ * * همس بدون سبب. * * لقد شكلنا مع ذلك، حجرة ثقل لا يستهان بها، في ميزان سير الأحداث وتطورها. * * ما في ذلك من شك. كنا السند القوي، إن لم أقل الوحيد للشق الوطني، في حركة التصحيح. لعلني أستطيع استعمال عبارة، الحافز للضمير الوطني، على عدم الاستسلام للموت. * * لكن لو أقدمتُ على اختطاف العقيد زوج الألمانية، لاتخذت الأحداث مجرى آخر. * * فلتت منه العبارة، وقد نسي صفة صاحبه، كما فلتت من الضابط كلمة كنا. فبادر كل واحد صاحبه: * * ماذا قلت؟ * * لا شيء كنت أحدث نفسي. * * قلت كنا. هل خنتنا؟ والتحقت بالصف الآخر. * * طلبت الإذن، وكان ذلك في بداية الإعلان عن الثورة الزراعية.. قلنا ندعم. * * لكنك قلت كلاما مهما جدا. هل جرى التفكير فعلا في اختطاف العقيد أياه؟ * * خطر لبعض الشباب ذلك، لكن القيادة كانت حكيمة. * * بالعكس، كانت غبية. فلو حدث ذلك، لانهار النظام الذي لم يكن أيامها متماسكا، ينتفض المجاهدون المتبرمون من ضباط فرنسا داخل وخارج صفوف الجيش الوطني الشعبي، وتلتحق بنا قوى كبيرة من مناضلي جبهة التحرير الوطني، ونكسب احترام وتقدير الشعب، فينضم إلينا كذلك. * * كان الهلع سيستولي على القيادة الانقلابية، فتعيد كل حساباتها وحساباتنا... وربما تجفل. كان الانقلاب يذهب أدراج الرياح، في أقل من أسبوع. يا للفرصة الضائعة. مَن هذا الغبي الذي اتخذ هذا القرار؟