.. إنها لحظة تاريخية.. تدشين طريق جديد، افتتاح مدرسة جديدة، إلقاء خطبة في مناسبة وطنية، استعمال العنف المنظم ضد قوى رافضة وداعية للتغيير، الترحيب بزائر من عوالم متقدمة أو متخلفة.. تلك وغيرها من الأمثلة في حياتنا العربية، تسرع بنا إلى حيث النهايات القائلة بتحقيق الأهداف، بل الانتهاء، أو الدخول في مرحلة الملل لغياب الطموح. * هكذا إذاً يتفتت التاريخ إلى حركات يومية، تمارس من طرف قلة حاكمة وأكثرية محكومة، تتساوى فيها حركة الشعوب والأمة مع الفعل اليومي للفرد، منذ فتح عينيه عند الاستيقاظ وإلى أن يخلد إلى النوم استعداداً ليوم جديد. ليست إذاً لحظة تاريخية وإنما هي ضرورة حياتية من أجل البقاء حتى ولو كان الوحل هو الفضاء الحقيقي للفعل السياسي والاجتماعي وهنا لا يسيطر الزيف على الوعي وإنما يتحول الأخير في مبتغاه إلى حال من اللاوعي، لهذا لن نغتر بما يتحقق ليس فقط لأنه في مقدورنا تحقيق الأفضل وإنما لأن ذلك القليل المنقطع تحول إلى حال من الرضى والسكينة. * ومع ذلك كله نتخبط داخل فضاء الوحي ليس من أجل الخروج ولكن بحثاً عن سبل للغوص من أجل القول في النهاية: لنقبل بالوحل الحالي الذي يُبقي على صور أشباه البشر، لأن البديل والتحول إلى كائنات مسخ كانت في لحظة تاريخية ادعت بهتاناً أنها مجد تليد بشراً سوياً. * لقد حلت اللحظة التاريخية على المستوى الخطابي تبجيلاً وتعظيماً وشعوراً بزهو مصطنع بديلاً عن صناعة التاريخ، وحلت أيضاً على مستوى الفعل فالتراجع عن القضايا الكبرى أو التسليم بعودة المستعمر أو المزايدة بأفعال أبشع وأشد تنكيلاً من أفعاله في عهده الماضي، أو السطوة على الثوابت والمشاركة في تهديم المقدسات وتوسيع مجال المدّنس، والبحث عن تأويل وتطويع لأوامر الدين ونواهيه ووعود بالتغيير لجهة الخراب والأرض البور.. جميعها غدت حديثاً عن التاريخ وصناعته في حين هي غوص في الوحل والحديث هنا يعني أمة بأكملها. * لنتأمل مشاهد الحياة وصيغ التعبير في دولنا العربية لنرى الكم الهائل من الاستعمال لعبارة "لحظة تاريخية"، بدءاً من أصغر مسؤول إلى صانع القرار السياسي في أعلى قمة الهرم السياسي وقد نختلف حول العبارة نفسها لكن بالطبع لن نختلف حول الفعل الذي يصاحب العبارة واقتناصها باعتبارها فرصة، وليست مجرد لحظة عابرة، خصوصاً وأنها تستبدل أحياناً بعبارة "حدث تاريخي" وحين نسعى لتجميع اللحظات أو الفرص أو الأحداث لنجعل منها صناعة لا نجدها، ونجد عندها العيش خارج التاريخ. * نحن لا نتجاوب مع التاريخ سلباً وإيجاباً إلا من خلال تفاعلنا مع الآخرين، وهم اليوم شهود سواء من خلال الحضور داخلنا أو التحكم في قراراتنا أو من خلال متابعتهم لما نحن فاعلين في وجودنا والحديث عن الغالبية منا خارج التاريخ المشترك البشري في شقه الإيجابي أما من الناحية السلبية، خصوصاً اتخاذ طاقتنا وقودا لمدافئهم واستعمالنا ككباش فداء لحروبهم على أراضينا. * لم يعد كافيا تصورنا للأحداث أو تصويرها مادمنا لا نهتز على مستوى الأفعال أو حتى على مستوى المشاعر لأي قرار يصنع في هذا البلد العربي أو ذاك، فلا الدول الرائدة أو القائدة أو العملاقة، ولا الأخرى المقودة التابعة والقزمة ذات تأثير، فالكل غير موقعه، وعند التغيير اختلطت الأمور واختصرت الدول في أفراد لا يمكن إنكار دورهم ولكن في النهاية لا يمثلون مشروعاً ولو كانوا لعمرت أفكارهم وأفعالهم إلا قليلاً. * هنا يطرح السؤال التالي: ما الذي يجمع العرب اليوم؟.. إن السؤال وضمن الوعي بالتاريخ يوحيلنا إلى قضية أخرى تمثل إشكالية عبر سؤال آخر: من هم العرب؟.. هل عرب ما يسمى بشمال أفريقيا الذين هم أقرب إلى أوروبا أم عرب المركز مصر وسوريا والعراق الذي كانوا القلب النابض للأمة، فلوثتهم الشوفينية الوطنية والطائفية وعادوا إلى مرحلة ما قبل الدولة، أم هم أهل الخليج الذين تتكالب عليهم الأمم، أم عرب السودان واليمن والصومال ولبنان حيث الاختلاف حول المكونات الأساسية للمجتمع وتبعاً لهذا عن أي لحظة تاريخية للعرب نتحدث؟. * لم تعد الأمم المعاصرة مهتمة كثيراً بأصولها، وتلك قفزة تختلف مع السنة الكونية لخلق البشر، حيث الشعوب والقبائل موجودة من أجل التعارف ولكنها مهتمة وبوعي بفعلها في التاريخ، صحيح أنه لا يمكن إنكار تعدد الثقافات وتنوعها، وتعدد الأجناس البشرية لونا وفعلا لكن في النهاية تقاس بمدى ما تحققه من إنجازات حضارية، وبالطبع هذه لسنا طرفا فيها. * الأمم تقوى برؤيتها وإيديولوجيتها ومواقفها، ونحن كنا كذلك على طول المحطات الكبرى في تاريخنا، لهذا يأتي الحديث عبر ذكريات التاريخ عن الامبراطورية الإسلامية، بدايتها كانت مع العرب، وهكذا كانت أيضا بداية انتشار الدين، ثم حين وصل إلى بقاع متعددة من الأرض أخذ طابعه العالمي، لأنه رسالة للعالمين، وليس للعرب فقط، وفي ظل التراجع ولأسباب مختلفة حاول العرب أن يجعلوا الإسلام تابعا لهم فحلت بهم الكارثة. * لقد وصلنا إلى العالم، أو أتانا طائعا مؤمنا حين كنا تابعين للإسلام باعتباره النور، وحين تغير الأمر فر منا إلى أقوام آخرين، لأنه لا يحل في قلوب من يسكنهم الخوف من رد فعل البشر.