* * شاءت الأقدار أن تنطلق النسخة ال 27 من بطولة إفريقيا للأمم لكرة القدم، التي تجري فعالياتها بأنغولا من 10 إلى 31 ينابر 2010، بالهجوم على حافلة منتخب توغو الذي قرر العودة إلى الديار. الحادثة وقعت في مقاطعة كابيندا التي استغل الانفصاليون والناشطون السياسيون بها الحدث الإفريقي الذي يتابعه مئات الملايين في القارة السمراء والعالم للتعبير عن مطالبهم وأهدافهم السياسية. وبهذا الهجوم الذي سبق المباراة الافتتاحية للبطولة تأكدت مقولة أن الرياضة ليست بريئة وفي الكثير من الأحيان تتقاطع وتمتزج بالسياسة. * الرياضة وبالأخص كرة القدم، لم تصبح مجرد رياضة وتربية بدنية وتهذيب للروح وتقارب بين الشعوب والأمم، بل هي تجارة وتسويق ورعاية وإعلانات وسياسة... الخ، والدليل على ذلك أن ميزانية الاتحاد الدولي لكرة القدم تعد بالمليارات، وميزانيات أندية كرة القدم الأوروبية تقدر كذلك بمئات الملايين من الدولارات، فالمنتخب البرازيلي الفائز بكأس العالم لكرة القدم سنة 2002 أنسى 180 مليون برازيلي هموم الفقر والمشاكل اليومية وسوء الإدارة والتسيير من قبل الحكومة البرازيلية، واستطاع أن يجعل هذه الملايين من البشر ترقص السامبا في عرس واحد وحفل واحد، الأمر الذي تعجز عن تحقيقه أية مؤسسة أخرى داخل البرازيل بما فيها مؤسسة رئاسة الدولة. ومن خلال الفوز بكأس العالم أدرك الرأي العام البرازيلي أنه بألف خير، وأنه الأحسن والأقوى عالميا في كرة القدم، وهذا إنجاز عظيم يجب أن تشكر عليه وزارة الرياضة والشباب والاتحادية البرازيلية لكرة القدم والحكومة والرئيس البرازيلي. أكثر من هذا شعوب في دول عديدة رقصت السامبا وساندت الفريق البرازيلي وهنأت الرئيس البرازيلي والشعب البرازيلي بالإنجاز العظيم. هذه هي إذن الرياضة التي تخترق الهموم والمشاكل وتبرز الإنجازات والنجاحات. * في أولمبياد أثينا 2004 وجّهت اللجنة الأولمبية الأمريكية رسالة رسمية إلى الرئيس جورج بوش الابن طالبة منه عدم استغلال الألعاب الأولمبية في حملته الانتخابية ولأغراض سياسية. المشرفون على حملة الرئيس الأمريكي أشادوا بمشاركة العراق وأفغانستان في الألعاب وأشادوا بفضل أمريكا "بلد الحرية وحقوق الإنسان" في تحقيق ذلك. وأصبح أداء فريق كرة القدم العراقي من فضائل وخيرات "العم سام" على العراق والشعب العراقي. فبمنطق خبراء الحملة الانتخابية لجورج بوش فإن أمريكا لم تخلص الشعب العراقي من ويلات الرئيس صدام حسين فقط وإنما أعطت الفرصة للعراق للمشاركة في الأولمبياد وتقديم أداء رائع في كرة القدم. * أسدل الستار على الألعاب الأولمبية بالعاصمة اليونانية أثينا بحضور شخصيات سياسية بارزة من رؤساء وملوك ومسؤولين سياسيين كبار من عدة دول من جميع أنحاء المعمورة. الحضور في مدرجات الملعب في مراسم الافتتاح ومراسم الاختتام فاق ال 70 ألف متفرج وأمام شاشات التلفزيون عبر القارات الخمس فاق الملياري نسمة. هذا الحضور وهذا الاهتمام العالمي يعتبر فرصة ذهبية للساسة وللحكام وللدول لإبراز العضلات والقوة ولاستغلال الاهتمام الجماهيري لتمرير الرسائل السياسية التي يريدها هذا الرئيس أو ذاك الزعيم. الألعاب الأولمبية لم تصبح لعبة ورياضة فحسب وإنما تخطت هذا البعد الرياضي لأبعاد أخرى مثل الاقتصاد والسياسة والدبلوماسية والعلاقات الدولية. * في القرن التاسع عشر ربطت القوى الاستعمارية التطور والتفوق الرياضي بحركة الاستعمار وتفوق النظام الرأسمالي الغربي، وأصبح المتفوق في الرياضة هو المتفوق في الاقتصاد وفي السياسة وفي الحضارة، وأصبح المنتصر في الرياضة هو المنتصر في الحرب. وهكذا دخلت الرياضة السياسة، وكيف لا وهناك دول استثمرت مليارات الدولارات لاستضافة بطولة كأس العالم لكرة القدم أو لاستضافة الألعاب الأولمبية أو الألعاب الآسيوية أو الإفريقية أو ألعاب البحر الأبيض المتوسط إلى غير ذلك. وبذلك تم توظيف الرياضة في خدمة السياسة، وأصبحت السياسة الرياضية جزءا لا يتجزأ من سياسة الدولة. وأصبح الأبطال في مختلف الألعاب والرياضات وخاصة الألعاب الأكثر شعبية ككرة القدم يقلّدون الأوسمة ويستقبلون استقبال المحررين المنتصرين من رئيس الدولة وتقدم لهم التهاني والتبريكات من قبل كبار السياسيين. * مع مطلع القرن العشرين تحوّلت الملاعب إلى فضاءات للدعاية السياسية وللتجنيد ولغسل الأدمغة وحتى للانقلابات العسكرية. فعبرت الشعوب المستعمَرة (بفتح الميم) عن حقها في تقرير مصيرها من خلال مشاركاتها المختلفة في المحافل الرياضية الدولية، وكان فريق جبهة التحرير الوطني الجزائري إبان استعمار فرنسا للجزائر خير سفير للقضية الجزائرية، ونلاحظ اليوم المنتخبات الفلسطينية ودورها الريادي والاستراتيجي بالتعريف بالقضية الفلسطينية وإسماع صوت أطفال الحجارة للعالم. كما عبّرت الأقليات والأعراق عن حقوقها من خلال الرياضة، وخير دليل على ذلك الزنوج الأمريكيون ابتداء من العداء المشهور "جيسي أوينس" إلى الملاكم العالمي محمد علي الذي رفض أن يلتحق بالجيش الأمريكي في فيتنام. وهكذا بلغ استغلال الرياضة سياسيا ذروته مع صعود الأنظمة الشمولية في ألمانيا الهتليرية النازية وإيطاليا الموسولينية الفاشية والاتحاد السوفيتي من لينين إلى ستالين إلى كروتشف وبريجنيف... الخ. ففي سنة 1934 استضافت إيطاليا بطولة العالم لكرة القدم واستغل الفاشيون الحدث وحوّلوا ملاعب كرة القدم إلى حلبات للدعاية وغسل الأدمغة وتجنيد الجماهير واستغلال حماسهم والروح الوطنية لذيهم ومشاعرهم القومية للزج بهم في حروب لا فائدة من ورائها. وفي سنة 1936 استقبلت ألمانيا النازية الألعاب الأولمبية وجمعت برلين الرياضيين من جميع أنحاء العالم لكن بشرط أن يعلم الجميع أن العرق الآري هو أحسن عرق فوق الأرض وأنه ولد ليتفوق وليحكم العالم. وهكذا زحفت ألمانيا من الملاعب المختلفة للرياضات الأولمبية إلى غزو جيرانها وإعلان الحرب على العالم. كما لا ننسى أن "هتلر" رفض أن يسلم الميدالية الذهبية للعداء الأمريكي الأسود "جيسي أوينز" لا لشيء إلا لأنه أسود، وفي منطق "هتلر" غير ممكن للأسود أن يتفوق على الأبيض. * الأيديولوجية الاشتراكية والشيوعية هي بدورها استغلت الرياضة لتأكيد تفوقها وقوتها. الاتحاد السوفيتي ومن كان يدور في فلكه وخاصة ألمانيا الديمقراطية ورومانيا وبلغاريا والمجر وتشيكوسلوفاكيا كانت هذه الدول كلها تستثمر استثمارا لا حدود له في مجال الرياضة وكانت تنفق مئات الملايين من الدولارات على رياضييها وبعض الأحيان تستعمل المنشطات وكل الوسائل للتفوق على المعسكر الرأسمالي. وكان الصراع يشتد دائما بين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي في المحافل الرياضية الدولية، وكانت دولة مثل ألمانيا الديمقراطية بحجمها الصغير وإمكانياتها المحدودة آنذاك تهزم في المسابقات الرياضية العالمية دولا عريقة مثل فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا وبريطانيا واليابان... الخ. * وابتداء من السبعينيات من القرن الماضي ظهرت الحروب الخفية في المجال الرياضي باستعمال المقاطعة الرياضية، ففي سنة 1976 قاطعت معظم الدول الإفريقية الألعاب الأولمبية احتجاجا على مشاركة زيلندا الجديدة التي كانت تقيم علاقات سياسية واقتصادية مع النظام العنصري "الأبارتيد" بجنوب إفريقيا. وفي سنة 1980 قاطعت أكثر من 60 دولة الألعاب الأولمبية بموسكو احتجاجا على غزو الاتحاد السوفيتي لأفغانستان. وفي الألعاب الموالية في سنة 1984 ردّ المعسكر الاشتراكي الصاع صاعين وتعامل بالمثل وقاطعت 18 دولة الألعاب الأولمبية التي احتضنتها الولايات المتحدة الأمريكية في لوس أنجلوس متعذرة في ذلك بانعدام الأمن. * المونديال والألعاب الأولمبية والرياضة بصفة عامة ليست فقط كما نظّر لها "بيير دي كوبرتان" وغيره، مبادئ ومثل عليا وترقية الخصال البدنية والأخلاقية وتربية الشباب بواسطة الرياضة وروح التفاهم المتبادل والصداقة من أجل بناء عالم أفضل وأكثر سلما، عالم تسوده القيم الإنسانية العليا، تسوده الأخلاق والمحبة والوئام، وإنما هي كذلك مظهر من مظاهر الصراع السياسي بين دول تتنافس وتتصارع كلها من أجل إثبات أنها هي الأقوى وهي الأحسن والأجدر بالفوز. * وأخيرا ماذا سيفعل البرازيليون بعد نشوة الفوز بكأس العالم مع مشاكلهم اليومية وأوضاعهم الاقتصادية المتدهورة وديونهم المتصاعدة؟ وهل بإمكان كرة القدم أن توّحد الكوريتين؟ وهل مشاركة العراق وأفغانستان في أولمبياد أثينا وفي أولمبياد الصين وفي برلين بعد سنتين ستقضي على أعمال التخريب والجرائم والقتل وعدم الأمن والاستقرار في هذين البلدين؟ وهل الأداء الجيد لفريق كرة القدم العراقي في الأولمبياد سيحل هموم ومشاكل الشباب العراقي؟ وصدق "هتلر" يوما عندما قال "إن ملايين الناس المدربين على الرياضة الشغوفين بحب الوطن، المتشبعين بالروح الهجومية يمكن أن يتحولوا في رمشة عين إلى جيش".