كان من الطبيعي أن يكبر من الفساد ما كان صغيرا، وأن يكثر ما كان قليلا، وأن يعم ما كان خاصا. فما كان يشار إليه بالهمس واللمس، في المجالس، وبالغمز واللمز على أعمدة الصحف، أصبح واضحا وفاضحا، وما كان يتم تحت الطاولة وفي السرية التامة، أضحت رائحته تزكم الأنوف، وتقرب من السجون والحتوف. * لقد ظهر الفساد في أعلى المؤسسات وفي رؤوس مسؤولين يعتبرون من "الكبار"، وشمل البَرّ، والبحر، والجَو، وحتى الطريق السيّار، فأصاب رجالا كنا نعدهم من الأخيار. * كان الفساد -فينا- يسكن عقول بعض فآت الضحايا من الأطفال الصغار، وبعض السذج من الفجار، فكبر الفساد ونما حتى أصبح يشمل المؤسسات، وأية مؤسسات! ويصيب شخصيات، وأية شخصيات! ماذا دهانا؟ أفي الوقت الذي صارت الجزائر تنعم فيه ببحبوبة في الدخل والنمو، ويتوق مواطنوها الشرفاء إلى التقدم والسمو، نروّع من كبراء المؤسسات بفساد الذمة، وخيانة الغلة، ونبتلي من بعض الكبار بملء جيوبهم، على حساب خزينة الأمة، فيصاب الاقتصاد بالكساد، بعد التواطئ مع أعداء البلاد؟ * ويسأل المواطن الجزائري البريء، نفسه: لماذا يلجأ هؤلاء "القارونيون"، إلى هذه الخيانة الكبرى، في حق البلاد والعباد؟ أهي الحاجة والمسغبة؟ كيف، وهم يبنون بكل ريع آية يعبثون، ويتّخذون مشاريع ومصانع لعلهم يخلدون؟ لقد أغدقت الجزائر عليهم من النعم ألوانا، ومن الامتيازات المادية والمعنوية أصنافا وأنواعا، فهل هذا هو جزاء اليد التي كرمتهم، وبجلتهم؟ ألا يعيدنا مثل هذا التصرف إلى طرح السؤال الأساسي الأول: هل تم كل هذا نتيجة خطإ في إسناد المسؤولية، أم هو نتيجة غياب المتابعة في الأداء والمراقبة الصارمة على أموال الرعية؟ * لا نريد أن نستبق الأحداث، فنخوض مع الخائضين من "الغاشي" أو الغاشية، فنعمل على إثقال الملفات، ومحاولة تصفية الحسابات. إننا قوم ندين بمبدإ أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، ولكن، أن تصل القضية إلى هذه الضجة الإعلامية من الاتهامات، ما كان لها أن تصل لو لم يكن هناك أساس للتهمة. ثم لو كان المتهم مسؤولا واحدا أو اثنين أو ثلاثة، لقلنا ربما كانت تصفية حسابات، أما أن تصل الأمور إلى هذا العدد من المورطين، وبهذا المستوى الذي تتعدد فيه قضايا الفساد والتوريط، فذلك ما يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، بأنه لا يوجد دخان بلا نار. * ويل للجزائر مما يفعله بعض أبنائها بها، وبمالها، وبسمعتها. فللجزائر نوعان من الأبناء، أولهم الذين يدينون بالولاء لها -مجانا- فهم يدفعون من جهدهم العقلي، وجيبهم المادي، ما أمكن دفاعا عن اسمها، وإعلاء سمعتها، وتصحيح وجهها من أنواع القبح والتشويه التي يحاول البعض إلصاقها بها. وهناك الصنف الثاني من أبناء الجزائر الذين لم يكتووا بنار لهيبها، ولم يريقوا دمائهم إنقاذا لها، إنهم قوم قُدمت لهم الجزائر على طبق من ذهب، فلم يكتفوا بنهب ما على الطبق فحسب، بل سولت لهم أنفسهم الاستيلاء على "الجمل وما حمل" مع المطالبة بثمن. * هل كتب على الجزائر، أن تتوالى عليها الفضائح والنكبات، فتصبح قضايا الفساد فيها كموجات البحر، تلاحق الواحد الأخرى. فبعد عاصفة "الخليفة" الكبرى، التي اعتبرت فضيحة العصر، والتي اقتصرت محاكمتها على التقنيين، والموظفين الصغار، وخرج من فتحات شباكها حوت كبير، متمرد على هذا النوع من الشباك. بعد هذه الفضيحة، ها هي عواصف فضائح كبرى تطل برأسها على العالم. ومن كان يظن أن مؤسسة كبرى في حجم مؤسسة "سوناطراك" التي تعتبر دولة وسط الدولة، والتي تؤمن للجزائر نسبة 80٪ من الدخل الوطني، ستهتز على وقع فضيحة تطيح بالعالي من أشجارها؟ ومن كان سيصدق، أن يتواطأ، مسؤولون كبار -كل حسب مسؤوليته- على رهن مصير الشركة، بتلويث سمعتها بالرشاوى، وكل أنواع الفساد، كما طالعتنا بذلك صحفنا الوطنية؟ * وبينما الجميع يترنحون تحت ضربات الشركة البترولية الكبرى، تأتي الرياح بما لا يشتهي الطريق السيار، فتفجر قنبلة فساد الطريق "شرق -غرب" لتسقط رؤوس أخرى، باسم محاربة الفساد .لحاها الله أنباء توالت، فصيرت الحليم حيرانا، وجعلت ذوي النوايا الحسنة يشككون في كل شيء، ويقذفون في سمعة كل واحد، وإنها -والله- للحالقة.! * كيف اجتمعت هذه الفضائح كلها في وقت واحد؟ ولماذا اختير لها هذا التوقيت بالذات؟ هل هناك رائحة مؤامرة وتصفية حسابات؟ هل هناك صراع أجنحة بين صقور وحمائم، تخفي خلفها مخالب سباع، لا تريد الإعلان عن وجودها؟ * أيا كانت التبريرات التي يمكن أن تقدم في هذا المجال، فإن الفساد الذي تراكمت عوامله، قد فاق كل حد. كما أن الجهات التي أمرت بفتح التحقيق، والكشف عن ألغام الطريق، أيا كانت نواياها، فلا نملك إلا أن نحني لها الجباه، تقديرا وتعبيرا. وما نأمله، هو أن تفتح الأبواب على مصراعيها في اتخاذ الإجراءات، وتنصيب المحاكمات حتى لا يفلت منها القطط السمان وأبناء الذوات. * لهذا أصبح كل وطني مخلص يخجل من نفسه عندما يرى بأم عينه الفروق الفاضحة بين جزائريين يلتحفون العراء، فيتوسدون التراب، ويتغذون بالسراب، وبين جزائريين لا يربطهم بالجزائر إلا جواز السفر وملء الوطاب، فهم يعيشون فوق السحاب، ويتدثرون بالغالي من الثياب، ويتغذون، بالنادر مما لذ وطاب، ويكفرون بلغة البربر والأعراب. * ويح لوطني، وطن المليون شهيد، ويح له مما آل إليه، وما أوقعه فيه عديمو الضمائر، وسيئو السرائر! لقد ألبوا عليه المواجع، وسببوا له الكثير من الفجائع، وعبثوا فيه بالمصادر والمراجع!. لقد صدق فيهم قول الله تعالى: "فتحنا عليهم أبواب كل شيء" (سورة الأنعام الآية 44) وقوله تعالى: "أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات، بل لا يشعرون" (سورة المؤمنون الآيتان 55 - 56). * تبا لحياة، تموت فيها الضمائر، وتهتك فيها السرائر، فيستحيل فيها الإنسان إلى حيوان كئيب يتلهى -إلى حين- بزينة الدنيا، وإذا هي حلم طائف، يستيقظ منها كما يستيقظ النائم من الحلم، ولكن على أصوات الفضائح، فلا العيش أحلى، ولا الموت أطيب. * بئس المواطنون هؤلاء الذين عبثوا برحم الأخوّة الوطنية، فلوثوها! وبئس المسؤولون هم، الذين شوهوا درجة المسؤولية، فأنزلوها إلى الدرك الأسفل من المحسوبية والوصولية، والاستغلالية! * إننا لا نود أن نستبق الأحداث، فأيا كانت الدوافع الداعية إلى الكشف عن هذه الفضائح الآن، وإخراجها إلى العلن، فإننا نعتبر الإرادة السياسية التي أقدمت على هذا قد وفت ببعض ما يجب، وبقي على العدالة أن تقول كل ما يجب عليها، بكل نزاهة، وحرية، وشفافية حتى لا نظلم أناسا باسم العدل. إن الأمة قد ألقت بذمتها بين أيدي القضاة، كي يخلصوها من براثن الفساد والمفسدين، وعلى هؤلاء أن يكونوا في مستوى آمال الأمة وطموحاتها، فالأشخاص يزولون، والتاريخ صحائف خالدة. * وبعد هذا كله، ماذا يمكن استخلاصه من هذه الفصول الكئيبة، والمقامات العجيبة؟ إننا للتاريخ نريد أن نسجل المعاني التالية: * 1- لا يظنن ظان أن الجزائر العريقة، قد تحولت بفعل هذه الفضائح، إلى بلد المرتشين، ووكر للفساد والمفسدين، ففي وطننا، والحمد لله، من إن تأمنه بقنطار ذهب، يؤده إليك سالما، لا ينقص منه مثقال ذرة، وما أكثرهم! * 2- إن الأغلبية الصامتة في وطننا التي لا ناقة لها ولا جمل فيما يحدث، ولا في تعيين أو عزل أي مسؤول، من حقها أن تطالب بحماية مالها العام، وسمعة وطنها المضام، بإنزال قصاص يكون في مستوى الاتهام. * 3- يجب استخلاص العبرة مما حدث، بأن يعاد النظر في معايير إسناد المسؤولية ومراقبة المال العام، والسهر على نظافة الضمائر والسرائر قبل ائتمانها على حقوق الأمة، ماديا ومعنويا. * ينبغي استئصال الداء قبل زيادة استفحال الوباء، وإسناد المسؤولية في ذلك لخيرة الأطباء، وإلى العادلين في القضاء.