الحوار الذي يديره السيد أحمد أويحيى من مكتبه برئاسة الجمهورية مع الشخصيات السياسية والثقافية والحقوقية وحتى الجمعوية في إطار المهمة التي كلَّفه بها رئيس الدولة لا تختلف كثيرا عن سابقاتها لأن النظام عوَّدنا على محاورة نفسه واستنتاج ما يراه صالحا لديمومته، وإلا كيف نفسر توجيه هذه الدعوات إلى كل مكونات المجتمع الجزائري مستثنيا مكونا أساسيا من أمتنا وشعبنا المتمثل في الفاعلين والناشطين والباحثين والسياسيين في الحركة الأمازيغية. والتجربة علَّمتنا أن النظام لا يحاور إلا من يختاره حسب مقاييسه ليضع في آخر الأمر الجميع أمام الأمر الواقع، وما الهدف من هذا التشاور سوى تضليل الرأي العام الداخلي والخارجي ليتظاهر على أنه متفتح ومنفتح لسماع والأخذ بالرأي المخالف ليضع في نهاية المطاف في أدراج النسيان كافة المقترحات التي لا تساير توجهاته. هذا إن لم تُهَمّش الشخصيات النافذة والفعالة والمؤثرة في المجتمع. ما لا شك فيه أن النظام تعمد تغييب عنصر الأمازيغية الذي هو مطلب من المطالب الشرعية لشرائح عريضة من المجتمع الجزائري تحت غطاء الحفاظ على ثوابت الأمة وعدم التعرض لها في مشاورات تغيير الدستور وذلك لغرض في نفس يعقوب. بمناسبة هذه المشاورات، أرى من الضروري التذكير والتوقف عند بعض المحطات من سلسلة المعاناة التي عاشها ولا يزال يعيشها الجزائريون الغيورون على ثقافتهم ولغتهم. منذ فجر الاستقلال تأسس نظام أُحادي، إقصائي، ضيق التصور مهمش لكل ما لا يتماشى مع توجهاته ومنهجيته المبنية على النظام اليعقوبي المركزي، المطابق للنظام الفرنسي الذي طُرِد اسميا لكن محافظا على ممارساته فعليا. لقد أُسِّسَ على وحدة الثقافة والتصور والتفكير واللغة، معتمدا على إقصاء شرائح عريضة من مكونات الشعب الجزائري من قبائل جرجرة وشاوية النمامشة وشناوة شرشال وميزاب غرداية وطوارق الجنوب الجزائري. لقد تم عزل وجوه بارزة وفعالة في الحركة الوطنية منهم: صادق هجرس، حسين أيت احمد، إيدير أيت عمران، خليفاتي محند أمقران، علي يحيى رشيد الخ. ووصل الأمر إلى حد التصفيات الجسدية، ومن بين الضحايا: مبارك أيت منقلات، اعمر ولد حمودة وبناي وعلي، وذنبهم الوحيد التعاطف مع القضية البربرية رغم وفائهم للقضية الوطنية والثورة إلا أن هناك من رأى أن تصفيتهم أولى من طرد فرنسا. صحيح أن منطقة القبائل كانت ولا تزال في طليعة المطالبين بإدراج عنصر الأمازيغية في مكونات الهوية الوطنية إلا أن هذا لا يعني أن بقية المناطق الناطقة بهذه اللغة قد فرّطت فيها، بل كانت تسعى دائما إلى ترقيتها والمحافظة عليها وعلى النمط المعيشي الأمازيغي. فلحد اليوم بقي القبائلي قبائليا والشاوي شاويا والشنوي شنويا والميزابي ميزابيا والتارقي تارقيا، معتزين بلغتهم وهويتهم وأصالتهم وجزائريتهم رغم التهميش والاضطهاد الذي جعلهم يحسون بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية وهذا بدون مبالغة. مع مرور السنين لم نعد نؤمن بالصدفة بفعل تكرار المؤامرات التي تُحَكُ ضد كل من هو غيور على هذه الثقافة، فجُلّ العناصر المؤطرة للحركة الوطنية والمحركة للثورة المنحدرين من منطقة القبائل، تمت تصفيتهم جسديا وغدرا أو هُمِّشوا عمدا. فلم تشفع لهم وطنيتهم ولا انتماؤهم للمنطقة التي رأى فيها النور بيان أول نوفمبر بإغيل إيمولا ولاية تيزي وزو والتي احتضنت مؤتمر الصومام سنة 1956 بإيفري ولاية بجاية لقد استدرج عبان رمضان إلى المغرب ليغتالَ شنقا وغدرا وهو من وضع أسس الدولة الجزائرية الحديثة رفقة بن مهيدي والآخرين. إلى حد كتابة هذه السطور تبقى ظروف استشهاد أسد جرجرة عميروش وسي الحواس غامضة، فمن وشى بهما حتى يسقطا في فخ بوسعادة؟ قد يقول قائل بأن التهمة باطلة ولكن هل من أدنى شك في سجن جثتي هذين البطلين في زنزانة للدرك الوطني إلى غاية عام 1978؟ لقد حرما مدة 19 سنة من الدّفن في التراب الذي سقطا من أجله وهذا للقضاء على أسطورة عميروش القبائلي. من الخزي والعار أن يُقْتَلَ مرتين رجلان زلزلا الأرض تحت أقدام الاستعمار الغاشم لأسباب حقيرة، سفيهة، تافهة. أليست جريمة وظلما وقهرا لا مثيل لهما؟ كيف هُمِّشَ من كانت فرنسا تطارده في الجبال والوديان منذ 1945 والملقب بِلَيْثِ جرجرة: المرحوم كريم بلقاسم الذي وضع بصماته وإمضاءه على بيان اتفاقية إفيان واستقلال الجزائر في 19 مارس 1962. يا ليت توقف الأمر عند التهميش بل أُجْبِرَ على المنفى بعيدا عن الوطن الذي أفنى شبابه في خدمته، ولكن هذا لم يشفي غليل الحاقدين فتبعوه إلى الغربة وخنقوه بربطة عنقه بأحد فنادق فرنكفورت بألمانيا سنة 1970. كيف هُمَّشَ من أُرْغِمَ على التمرد ضد الظلم والطغيان ومن مثَّلَ لأول مرة الدبلوماسية الجزائرية بمدينة البندقية عام 1956 ورئيس المنظمة السرية التي مهدت الدرب للثورة التحريرية: السيد حسين ايت احمد، ليحكم عليه بالإعدام ويخفف بعد ذلك إلى المؤبد ويدفع به إلى المنفى. كيف تمت تصفية سي صالح زعموم، أحد زعماء الثورة المباركة الذي احتوى بيته تحرير بيان أول نوفمبر1954؟ نكتفي بهذا القدر لإن القائمة طويلة وعريضة لا يتسع المجال لسردها كاملة. النظام لم يهادن يوما القضية الأمازيغية لا بالداخل ولا بالخارج. سدَّ كل المنافذ ومساحات التعبير وهذا ما دفع بناشطي القضية إلى العمل في السر، فكان يقابله القمع والحصار والاعتقالات والمحاكمات والسجن والتعذيب. دامت هذه الحالة القمعية إلى غاية مارس 1980 أين منع والي ولاية تيزي وزو المغفور له مولود معمري من إلقاء محاضرة حول الشعر القبائلي القديم فكانت هذه الحادثة القطرة التي أفاضت الكأس. فكَرَدِ فعل للظلم الذي دام 18 سنة انتفض الشارع القبائلي ضد الديكتاتورية والشمولية وتعنت النظام في نكران البعد الأمازيغي وسد كافة مساحات التعبير الديمقراطي. يوم 20 افريل 1980 اقتحمت قوات الأمن جامعة تيزي وزو ليلا بعنف شديد وانتشر الخبر بسرعة البرق فتعاطف سكان المنطقة مع الطلبة والقضية الأمازيغية ثم امتد الغضب إلى بجاية، البويرة، بومرداس، سطيفوالجزائر العاصمة. لقد تمَّ اعتقال جماعة من المناضلين المعروفين فيما بعد بجماعة 24 سجينا، من بينهم سعيد خليل، سعيد سعدي، جمال زناتي، ارزقي ايت العربي، ارزقي عبوط، علي براهمي، فرحات مهني و المرحوم مصطفى باشا. وعوض إيجاد حل منصف للقضية وتهدئة الأمور إلا أن النظام لجأ إلى تصرفاته المعهودة أي صب الزيت على النار، فاتهمت المنطقة وأبناؤها بالعمالة للأمبريالية والرجعية، فكان رد الفعل هذا، صحوة شاملة لسكان القبائل حتى لغير الناشطين ولغير الواعين بالقضية الأمازيغية، فانكشف لهم الوجه العدواني الرافض لكل ما يمت بصلة مع الهوية والتاريخ الحقيقي للجزائر الأصلية الأصيلة وأن هذا الحكم يريد أن يصبغهم بصبغة على هواه وزرع لسان ليس بلسانهم. امتد تحرش النظام إلى كل ما له صلة بالهوية الأمازيغية، ففي سنة 1985 اتُهِمَ باطلا رمز الأغنية القبائلية الملتزمة الذي لقَّبَه الأستاذ فراد بحكيم زمانه "لونيس ايت منقلات" بحيازة ترسانة من الأسلحة. تهمة لا يمكن ان يصدقها عاقل، نظرا لشهرة هذا الفنان بصفة السلم والسلام والحكمة والرزانة، ليتضح في آخر الأمر أن هذه الترسانة من الأسلحة الفتّاكة المزعومة، ما هي سوى بنادق صيد قديمة غير صالحة للاستعمال كان الشاعر يجمعها كتحفة فنية لا غير، ورغم هذا، سُجِنَ الرجل. لكن هذا الحبس التعسفي لم يغير شيئا من عزيمة الفنان، ولم يقبل بالمنفى الذي دُفِعَ إليه رفاقه في الفن أمثال: سليمان عازم الذي غنى عن حب الوطن وعن الثورة بكل ما لديه من موهبة خاصة بأغنيته المشهورة: "يا جراد الغازي انسحب من بلادي" "أفغ أيجراذ ثمورثيو" والمناضل والمجاهد فريد علي الذي ألّفَ قصيدة لو لا التمييز اللغوي وتهميش كل ما له صلة بالثقافة الأمازيغية لكانت نشيدا وطنيا بلا منازع وهي: "يا أمي اصبري ولا تبكي" "أْيْمَّ اصبر أرتسرو" أغنية أبكت كل من سمعها وحرضت على الجهاد كل من لم يلتحق بصفوف الثورة وكانت على شفاه المجاهدين في الجبال والوديان. وما جناه هذا الغيور على وطنه سوى السجن والتعذيب والتجريد من أملاكه كهدية لنضاله. إضافة إلى الفنانين الذين لا يَقِّلُون شأنا عن سابقيهم، على سبيل المثال لا الحصر: سعداوي صالح، ايدير، فرقة أبرانيس، آيت ميسلاين، عثماني، أمغيذ، محند أويحيى الخ. فكل من رغب في النطق بكلمة الحق وحرية التعبير بعيدا عن الاضطهاد والإهانة كانت الغربة مصيره. وفي نفس السنة أنْشِئتْ اول رابطة جزائرية لحقوق الإنسان من بين مؤسسيها: علي يحيى عبد النور، فرحات مهني، هاشمي نايت جودي، حسين زهوان، عبوط أرزقي، سعيد خليل، سعيد سعدي وعدد آخر من المناضلين والحقوقيين. فكان مصيرهم سجن سركاجي ولامبيز ومحكمة امن الدولة كمتآمرين على امن الدولة والوطن. بعد الانفتاح الديمقراطي الظرفي وفي ظل الدستور الجديد الذي يعترف باحتشام بالتعددية السياسية المفخخة، حاولت الأمازيغية الخروج من عنق الزجاجة، مغتنمة فرصة الانفتاح لأخذ مكانتها الطبيعية في المنظومة الوطنية والمشهد السياسي الجزائري متوهمة بأن ساعة الحسم قد حانت للاعتراف بالهوية والثقافة واللغة الأمازيغية، ولهذا نظمت الحركة الثقافية البربرية MCB أول مسيرة مرخصة بالعاصمة يوم 25 جانفي 1990. المسيرة كانت حاشدة، منظمة وسلمية، سلمت خلالها لائحة المطالب إلى رئيس المجلس الشعبي الوطني من طرف الراحل معطوب الوناس وجمال زناتي. من بين المطالب: إدراج الأمازيغية في المنظومة التربوية والاعتراف بها كلغة وطنية ورسمية للبلاد بجانب اللغة العربية. رغم التعبئة الناجحة والمناخ السياسي الملائم ومعانات السنين الطويلة والأليمة لم يجب النظام إلا بقبول إدخالها إلى جامعتي تيزي وزو وبجاية. بقيت الأمور على حالها جامدة راكدة والنظام ماض في سياسة التعريب الشاملة، وفيا لمنهجه الإقصائي، حيث غُيِّبَت الامازيغية من المدرسة والإعلام والقضاء من كل مساحات التعبير. وكَرَدِ فعل لهذا التعنت والتصلب، قرّرت الحركة الثقافية البربرية الدخول في إضراب مفتوح المعروف ب "إضراب المحفظة ". قاطع الطلاب المدارس بجميع أطوارها من الابتدائي إلى الجامعي في سبتمبر 1994 للضغط على النظام حتى يفك الحصار على الأمازيغية والاعتراف بها كلغة وطنية ورسمية وإدراجها في المنظومة التربوية. إلا أن الحكم بالغ في حيَّله ومناوراته الشيطانية اتجاه الحركة وأبناء المناطق المشاركة في الإضراب: تيزي وزو، بجاية، سطيف، يومرداس، البويرة. وعوض أن يتخذ قرارات حكيمة وشجاعة، لجأ كعادته إلى الحيلة والمراوغة. فمرة، يوفود وزير النقل للتفاوض كما لو أن الخلل في الحافلات والقطارات. وحينا، لجنة العقلاء مكونة من زبانية النظام ليعيدوا القبائل إلى رشدهم كما لو أنهم فقدوا صوابهم. وأخطر من هذا حاول إدخال المنطقة في متاهات جديدة لا تَمِّتُ بأية صلة بالقضية. بعد سبعة أشهر من المقاطعة والمفاوضات الفاشلة تمكّنَ النظام من إجهاض الإضراب الذي استعمل ككبش فداء الانتخابات الرئاسية المزمع إجرائها في نفس السنة، مستغلا قلة التنسيق بين جناحي الإمسيبي وسوء التفاهم وتباعد وجهات النظر بينهما. وهذا ما أهدر عام دراسي كامل من حياة أبنائنا، لقد ضيعت السلطة على نفسها فرصة الخروج بماء وجه ومن باب واسع بالاعتراف الرسمي بلغة وثقافة الأجداد. في نهاية المطاف تمخض الجبل فأنجب فأرا، فأنشئت المحافظة السامية للأمازيغية التي هي عبارة عن هيئة استشارية أقرب منها إلى دار النشر وتنظيم الندوات ومهرجانات الأفلام والموسيقى ولم تتمكن أبدا من الإدراج الفعلي لهذه اللغة في المنظومة التربوية كمادة محترمة بل أصبحت أقل شأنا من مادة المحفوظات والأناشيد. فبقيت إلى يومنا هذا بدون رئيس منذ التحاق الراحل إيدير ايت عمران بخالقه. إن عدم الاعتراف باللغة الأمازيغية جرَّدَ هذه الهيئة من جميع القوى والشرعية، فأصبحت هيكلا بلا روح. لقد نجح النظام في شراء ذمم بعض السياسيين والفنانين واشباه المناضلين إلى صفه لِيُوهِم الراي العام بأنه يقاسم الحكم مع من يسميهم بالمشاغبين ويشاركونه تسيير دوالب الحكم. لكن من الغباء الشك بأن القبائل يصدقون هذه الخزعبلات التي لا تشفع لا ولن له ولا لهم إلا بتسوية عادلة لهذا الظلم التاريخي والمطلب الشرعي للقضية الأمازيغية. لأن الحلول المبنية على الخدعة والحيلة تكون دائما نهايتها كارثية وهذ ما أدى إلى انفجار جديد في أفريل 2001 . جاء الاعتراف بالأمازيغية كلغة وطنية متأخرا واعتبره أهل القضية رمادا في العيون لأن النظام تعود على الارتجالية وتفويت الفرص على نفسه. لو كان هذا جوابا لإضراب المحفظة عام 1994 لتجنب ارتكاب جرائم أخرى في حق هذا الشعب ولكن ... إن الأمن والطمأنينية والاستقرار لن يسودوا ارجاء الوطن إلا بالاعتراف الرسمي بكل مقومات ومكونات الشعب الجزائري. إن المطلب الذي كان سالفا خاص بمنطقة تيزي وزو أصبح اليوم جزائريا، مغربيا، ماليا وليبيا. نعم إن الاعتراف بالهوية والثقافة واللغة الأمازيغية أصبح إقليميا يشمل جميع دول شمال إفريقيا. إن أرادت الدولة الخير لهذا البلاد والعباد لتجنبهم الفتن والانزلاقات والانشقاقات في وسط مناخ سياسي أمني إقليمي ودولي عصير وخطير عليها الاستجابة لهذا المطلب الشعبي قبل فوات الأوان. إن الاختلاف الذي يعدُّ نعمة حوَّله النظام إلى نقمة بالمناورات والمكائد الشيطانية. فمحاولة إذلال الأمازيغية وإبعادها من المشهد السياسي، الاجتماعي، الثقافي والحضاري لا يزيدها إلا قوة وإصرارا وعنادا. إن كل تطرف للنظام يقابله تطرف مضاد قد يهدد مصالح الوطن. إن القمع وطمس الحقيقة والكبت والجبروت أثبتت فشلها في أكثر من دولة، فالعراق وسوريا وليبيا وأوكرانيا وبلجيكا نماذج لهذه التصرفات الحمقاء الفاشلة، ففرض كل شيء بالقوة مآله الفشل والاندثار وأوروبا الشرقية أكبر دليل على ذلك. (*) صحافي /ناشط سياسي