في خضم السجال السياسي والإعلامي، اللذين رافقا ورشة تعديل الدستور، لنحو خمس سنوات، وبعد أن أحست السلطة بالحرج الذي سببه عامل الزمن، خرج الرئيس بوتفليقة في أكثر من مناسبة، ليعد الجزائريين بأنه سيحرص على الذهاب إلى "دستور توافقي" يبدد مخاوف المعارضة.. اليوم تصل هذه الورشة إلى محطتها الأخيرة، بعد أن قرر القاضي الأول تمرير المشروع عبر الآلية البرلمانية. وقد حصل على التعليل الدستوري المخول. في الجهة المقابلة، لم تتخلف المعارضة عن إبداء موقفها، وقد سارعت إلى انتقاد آلية التمرير، بل وهاجمت المشروع برمته، متوعدة بعدم تبني الوثيقة، إما بعدم التصويت عليها أو بمقاطعة الجلسة نهائيا. فما مصير "الدستور التوافقي" الذي وعد به الرئيس بوتفليقة الجزائريين؟ هل سقطت هذه الورقة في الماء؟ من يتحمل المسؤولية، السلطة أم المعارضة أم الاثنتان معا؟ هذه الأسئلة وأخرى، سيجيب عنها "الملف السياسي" لهذا العدد .
بعدما قررت المعارضة العزوف عن المصادقة هل سقط مشروع الدستور التوافقي في الماء؟ وضعت التصريحات الصادرة عن الأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي، أحمد أويحيى، التي اتهم فيها حزب جبهة التحرير الوطني بتوظيف "الشكارة" لشراء مقاعد في الغرفة العليا للبرلمان، مصداقية البرلمان ومن ثم الدستور المقبل على المحك ولم تكن الغرفة العليا هي المستهدف الوحيد بالطعن في مصداقيتها، بل سبق لنواب الغرفة السفلى أن طالتهم اتهامات من هذا القبيل مباشرة بعد الإعلان عن النتائج، غير أن تلك الاتهامات كان مصدرها المعارضة، لتشترك بذلك غرفتا البرلمان في قاسم مشترك واحد وهو الطعن في مصداقيتهما . وكان المجلس الدستوري قد أصدر تعليلا بعد تصريحات أويحيى الأخيرة بشأن توظيف "الشكارة"، منح الضوء الأخضر من خلاله لرئيس الجمهورية كي يمرر مشروع الوثيقة الدستورية على البرلمان الأحد المقبل، بدل الاستفتاء الشعبي. وبعيدا عن الانخراط في المسألة المتعلقة بعمق التعديلات الدستورية أو سطحيتها ومن ثم آلية تمريرها، فإن طعن أحمد أويحيى في مصداقية انتخابات التجديد النصفي، يجر انتقادات إلى جميع القوانين والتشريعات التي يصدرها البرلمان، خاصة أن الأمر يتعلق بالوثيقة الأسمى وهي الدستور. وما يعطي اتهامات توظيف "الشكارة" بعدا ووزنا سياسيين، هو أنها صدرت عن شخصية سياسية بحجم أحمد أويحيى، الذي وإن تلكم بقبعته الحزبية، إلا أنه يتقلد منصبا ساميا في الدولة باعتباره مدير ديوان برئاسة الجمهورية، فضلا عن كون هذا الرجل من أبناء النظام ومن الأوفياء لممارساته، وليس من المعارضة التي لم تتوقف يوما عن ترديد مثل هذه الاتهامات بحق أو بغير حق. وكان يفترض ألا تمر تصريحات من هذا القبيل مرور الكرام، وأن تسارع النيابة العامة إلى فتح تحقيق في موضوع الاتهامات، لكن يبدو أن هذا الاعتبار، الذي يعتبر تقليدا في الأنظمة الديمقراطية، لا سيما تلك التي تتمتع باستقلالية فعلية للقضاء، لا يزال بعيد التجسيد على أرض الواقع عندنا. وهو الأمر الذي يبقي على مصداقية الهيئة التشريعية محل تشكيك. وفي ظل هذا المعطى، ومع حسم المجلس الدستوري في تمرير المشروع عبر القناة البرلمانية، سيتأثر الدستور المقبل، من دون شك، بالطعون التي تلاحق مصداقية المؤسسة التشريعية، وهو أمر ليس من السهل ابتلاعه، لأن الدستور هو المسطرة القانونية الأسمى، وليس مجرد قانون عادي يمكن العودة إلى مراجعته في فترة وجيزة. ويمكن القول إن الاعتبار المتعلق بمصداقية البرلمان، لا يمثل المؤاخذة الوحيدة على الدستور قيد التعديل، إذ هناك الكثير من الانتقادات التي توجهها المعارضة إلى الدستور المقبل، المتمثلة في عمومها بانفراد السلطة في صياغة المسودة، حتى وإن رفضت المعارضة الاستجابة لدعوات المشاركة في الحوار حول هذه الورشة، التي عمّرت لنحو خمس سنوات. وهنا تبرز إلى الواجهة مسألة تجسيد "الدستور التوافقي" الذي وعد به الرئيس بوتفليقة في خطاباته المتكررة، فمن خلال التصريحات التي صدرت عن الطبقة السياسية المحسوبة على المعارضة، فإن جلسة التصويت ستشهد عزوفا ومقاطعة من قبل أحزاب سياسية ممثلة في الغرفتين. وهذا يعتبر في حد ذاته مؤشرا على سقوط ورقة "الدستور التوافقي" في الماء، وهو الذي لطالما راهنت عليه السلطة، وهي نهاية لا تخدم الطرفين على حد سواء. وبرأي متابعين، فإن السلطة كان بإمكانها تجاوز المؤاخذات التي رفعتها المعارضة- ولا تزال ترفعها-، وذلك من خلال رفعها التحدي شعبيا بدفع الوثيقة الدستورية إلى الاستفتاء الشعبي بدل الاكتفاء بالآلية البرلمانية، حتى ولو كانت التعديلات لا تمس بتوازن السلطات، كما جاء في تعليل المجلس الدستوري، صيانة لمصداقية الدستور المقبل، ومن ثم إسكات المعارضة وإلزامها الحجة، غير أن السلطة فضلت الطريق الأسهل والأسرع، لكن للأسف، كان ذلك على حساب مصداقية الدستور.. وقد يكون للظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها البلاد علاقة بذلك.
عضو المجلس الدستوري سابقا، عامر رخيلة ل "الشروق": شرعية البرلمان لا تؤثر على مصداقية الدستور يتهيأ البرلمان لاستقبال المولود الدستوري الجديد، في حين لا يزال الجدل قائما بشأن الآلية الدستورية، ما تعليقك على ذلك؟ بالنسبة لي، موضوع الآلية الدستورية الملائمة لتمرير مشروع التعديل المقترح انتهى وقته، ما دام المجلس الدستوري قد قدم رأيه معلّلا بهذا الخصوص، والذي أفتى بجواز عرضه على ممثلي الشعب، بدل الاستفتاء المباشر، ومن ثمّة لم تعد القضية مطروحة من وجهة نظر قانونية، بل ما نسمعه الآن هو نقاش من طرف الطبقة السياسية، هذا لا يعني أنّ الملفّ قد طوي، بل سيكون محلّ دراسة عن طريق الدستوريين لاحقا. لكن، وحتى نكون عمليين، فأيّ مناقشة لا تفضي إلى رأي يسودُ، و يؤخذ به، ستكون مجرد ترف فكري، لا يتجاوز السجالات السياسية. أفهم من كلامك أن تمرير مشروع التعديلات الدستورية عن طريق البرلمان قانوني ولا غبار عليه؟ نعم، في كلّ الأحوال، ومهما كانت التحفظات، سيكون اعتماد هذه الآلية، أي التمرير عبر الهيئة التشريعية، وليس الاستفتاء الشعبي، هو إجراء قانوني لا غبار عليه، على أساس أنّ رأي المجلس الدستوري المعلّل، يملك الحجية الذاتية والنهائية، بغض النظر عن التفاصيل الأخرى، لكن المضمون سيبقى محلّ نظر ودراسة من طرف المختصّين في القانون الدستوري، فهو ليس آيات قرآنية، حيث يبدى هؤلاء فيما بعد آراءهم ضمن تناول العيوب الشكلية والجوهرية التي تشوب الوثيقة. وفي حال تبيّن أن رأي المجلس الدستوري بهذا الصدد غير موفق، فهل لذلك من تأثير على شرعية التعديل الدستوري؟ لا أبدا، بل سينطبق عليه ما وقع مع تعديل 2008، إذ سيبقى ساري المفعول، وله حجيته، لأنّ المساس بالآلية المفترضة وفق الدستور نفسه، لا يمسّ بمحتوى الوثيقة، هذا على افتراض أن رأي المجلس الدستوري غير صائب، لأن مثل هذا الكلام في الحقيقة هو نقاش غير محسوم. البعض يثير أيضا مسألة تمثيلية الهيئة التشريعية الحالية، وأهليتها القانونية والسياسية لإقرار التعديل، فهل يقيم الموقف الدستوري الاعتبار لهذه الآراء؟ لا بالمطلق، فأي تذرّع بنتائج الانتخابات، وملابساتها، يصبح عديم الجدوى القانونية، بمجرّد إعلان وتصحيح المجلس الدستوري لمجريات العملية الانتخابية، وبالتالي لا يعتدّ به للطعن في أهلية المؤسسة البرلمانية، من قبيل التحجّج بالمقاطعة، والتزوير أو استعمال المال المشبوه، كما أنّ تراجع تمثيلية البرلمان اليوم هو ظاهرة عالمية، وعليه، فمثل هذه الأقاويل لا يعتدّ بها، وهي تدخل في باب النقاش السياسي، الذي لا فائدة منه ولا طائل من ورائه، أكثر منه إشكالات قانونية أو دستورية. هل تعتقد أنّ تمرير الدستور في ظلّ هذه التحفظّات، يمكن فعلاً أن يؤسس لمرحلة جديدة، يسميها البعض ب"الجمهورية الثانية"؟ مسألة الجمهورية الثانية هي مصطلحات خاوية، لأنّ محاولة الإسقاط على التجربة الفرنسية لا تصلح، فلكل دولة تجاربها التاريخية الخاصة بها، والتي تولد في سياقات محدّدة، وأرى أن دستور 2016 في الجزائر هو إعادة لإنتاج دستور الجمهورية الفرنسية الثالثة (1876)، حيث جمع بين أحكام الدستور والقانون العضوي، بل تجاوزه في إدماج الأحكام التنظيمية، وهذا في اعتقادي لا يستقيم، إذ أنّ الوثيقة العليا هي الإطار العام لوظائف الدولة وهندسة المجتمع. الدستور الجديد مرشّح للمرور بسهولة، لكن إلى أي حدّ يمكن أن يصمد مستقبلاً أمام موضة التعديلات؟ لا نتوقع بتاتا أن تكون مثل هذه الوثيقة ثابتة ولا دائمة، بل بالعكس، لأنّنا كدولة، نحن جزء من عالم متخلف، آخر اهتمام عنده هو دسترة الحياة، و في ظل غياب الثقافة الدستورية لدى السلطة والمعارضة على السواء، يمكن في أي وقت أن يتعرض الدستور للتعديل والمراجعة، فالمسألة تخضع فقط للتوازنات السياسية المستقبلية.
القيادي في جبهة العدالة والتنمية لخضر بن خلاف: عندما يصرخ الأرندي من التزوير فالأمر لم يعد مطاقا كثر الحديث عن توظيف "الشكارة" في انتخابات التجديد النصفي بمجلس الأمة؟ في الحقيقة، الحديث عن استعمال "الشكارة" في العمليات الانتخابية ليس شيئا جديدا عن المشهد الانتخابي عندنا. فقد سبق لأحزاب المعارضة أن تحدثت عنه في العديد من المناسبات والاستحقاقات، لكن الجديد هذه المرة هو خروج حزب سياسي معروف بانتمائه للموالاة وهو التجمع الوطني الديمقراطي ليجهر بتوظيف المال الفاسد، وهو الذي سبق له وأن استفاد من التزوير الشامل الذي شهدته انتخابات 97، وذلك باعتراف ناطقه الرسمي آنذاك ميلود شرفي، الذي قال حينها "زورنا الانتخابات لمصلحة الجزائريين"، وهو الأمر الذي أخلط أوراق الموالاة، التي أضحت تتسابق فيما بينها من أجل أن تكون أكثر المستفيدين من هذه العملية. كيف تنظر المعارضة إلى مثل هذا التراشق الإعلامي والسياسي بين أحزاب السلطة بخصوص هذه القضية على وجه التحديد؟ لطالما طالبنا بالتدخل لوقف التزوير، وفي هذا الموضوع على وجه الخصوص، راسلنا وزارة الداخلية والجماعات المحلية لفتح تحقيق بخصوص هذه التصريحات، التي أطلقها الأمين العام بالنيابة للتجمع الوطني الديمقراطي أحمد أويحيى بشأن التزوير الذي عرفته انتخابات مجلس الأمة ونحن ننتظر الرد، خاصة أن مثل هذه التصريحات أصبحت تشوه الممارسة السياسية. ألا ترى أن اتهامات من هذا القبيل من شأنها أن ترهن مصداقية الدستور المقبل؟ بالفعل، الاعتراف بوجود التزوير من مسؤولين كبار في الدولة بحجم أويحيى يرهن الدستور المقبل الذي سيمر عبر هذه الهيئة التشريعية، وفي نفس الوقت جاء ليؤكد ما سبق وإن تحدثت عنه المعارضة التي لا تزال تدعو إلى إنشاء هيئة مستقلة لمراقبة العملية الانتخابية، وليس بالصيغة التي وردت بها في الدستور الجديد، تشكيلتها الأساسية من قضاة يعينهم رئيس الجمهورية، وكذا الأمر بالنسبة إلى الممثلين عن المجتمع المدني، مع إبعاد الأحزاب السياسية من المراقبة والإشراف على الانتخابات على خلفية التقارير التي أعدتها في الانتخابات التشريعية في 2012، والرئاسية في 2014، وبتالي يمكن القول إن التزوير تم دسترته. بعيدا عن "الشكارة" هناك مشكل قانوني مطروح بقوة، وقد سبق للمعارضة أن تحدثت عن وجود مواد في الدستور تتطلب استفتاء شعبيا؟ الحقيقة تكمن في أن البرلمان الحالي فاقد للشرعية، ولا يمكن له مناقشة قوانين مهمة تنظم مستقبل البلاد، واليوم تأكدنا أن الدستور الجديد سيمر شكليا فقط بعد أن قرر رئيس الجمهورية تمريره بأمرية رئاسية دون مناقشة، أما بخصوص الاستفتاء الشعبي، فهذا الأخير يحتاج إلى شرطين من أجل تحقيقه وهو وجود سلطة شرعية، وهيئة لمراقبة الانتخابات من بدايتها إلى نهايتها كما طالبت بها المعارضة. ماذا يعني بالنسبة إليكم أن أحزاب الموالاة هي التي باتت اليوم تصرخ ضد التزوير؟ أول تعليق يقال بخصوص مثل هذه التصريحات هو "شهد شاهد من أهلها"، الأحزاب التي زورت الانتخابات في العديد من المناسبات اليوم تتحدث عن التزوير، والقضية أصبحت واضحة جدا، حيث أصبح الصراع اليوم حول من يكون هو الولي الذي ترضى عنه الدوائر التي تمارس تزوير الانتخابات، يعني من يوظف التزوير لصالحه، وهنا يمكن القول إن الصراع مستقبلا سوف يحتدم بين أحزاب السلطة حول من يكون المستفيد الوحيد من امتيازات التزوير، لذلك سنشهد تصعيدا في حرب التصريحات.