من الأسماء التي ملأت سماء الأدب العربي عموما والشعر خصوصا الشاعر المسيحي اللبناني رشيد سليم الخوري المعروف باسم "الشاعر القروي". ولد هذا الشاعر في لبنان في 1877 وقرأ في عدة مدارس قبل أن يصير معلما.. وفي 1910 توفى الله والده، ولما ضاقت عليه سبل المعيشة في لبنان سافر في سنة 1913 إلى أمىيكا الجنوبية، فعمل في أبسط الأعمال لضمان قوته، وهناك بدأت موهبته الشعرية تبرز، وبدأ ينشر قصائده فيما أسس اللبنانيون من مجلات.. وتميز شعره بالهجوم الشديد على الاستعمار.. في سنة 1958 رجع إلى لبنان، وتنقل بين بلدان المشرق العربي داعيا إلى وحدة الشعوب العربية، مستنهضا لها، منددا بالاستعمار الغربي، كاشفا لجرائمه في حق تلك الشعوب، فاضحا لنفاقها حيث تدعي الحرية وتمارس الاستعباد والاضطهاد.. وقد اعتبره بعض النقاد "أخلص شعراء العربية للقومية العربية". لقد ذهب بعض الدارسين إلى أنه اعتنق الإسلام، ولكن الراجح أنه لم يفعل ذلك، وإن كان رأيه في الإسلام يدل على تقدير له كبير، وإعجاب به شديد.. وقد ترك وصية عبر فيها عن رفضه لفكرة التثليث الذي تقول به بعض فرق النصرانية.. وإن لم ينكر فكرة الصّلب.. لقد نشرت هذه الوصية في مجلة "الشّراع" في عددها 231، الصادر في 18-8-1986، وجاء فيها: "تذكر المراجع التاريخية المتعددة أن الكنيسة ظلت حتى القرن الرابع الميلادي تعبد الله على أنه الواحد الأحد، وأن يسوع المسيح عبده ورسوله حتى تنصّر قُسطنطين عاهل الروم، وتبعه خلق كثير من رعاياه الرومان واليونان والوثنيين فأدخلوا بدعة التثليث، وجعلوا لله سبحانه وتعالى أندادا شاركوه في خلق السماوات والأرض وتدبير الأكوان، وما لأهم الأسقف الأنطاكي مكاريوس ملقبا نفسه "مستقيم الرأي"، فثار زميله آريوس على هذه البدعة ومؤيّديها ثورة عنيفة فانشطرت الكنيسة، واتسع نطاق الجدل حتى أدى إلى الاقتتال وسفك الدماء، فعقدت المجامع للحوار، وفاز آريوس بالحجة القاطعة فوزا مبينا، وأقيمت له مهرجانات التهنئة والتكريم في أنطاكية والاسكندرية، ولكن انحياز السلطة بقوتها وإرهابها وبطشها أسكت صوت الحق، واستمرت الكنيسة ستة عشر قرنا إلى اليوم عامهة في ضلالها الوثني، تنتظر مجيء آريوس جديد، وكم أتمنى – وأنا أرثوذكسي المولد – أن يكون هذا الآريوس حبرا أرثوذكسيا عظيما ليصلح ما أفسده سلفه القديم، ويمحو عنا خطيئة أوقعها فينا غرباء غربيون، ولطالما كان الغرب ولا يزال مصدرا لمعظم بلايانا في السياسة وفي الدين على السواء. لقد كان في نيتي إعجابا مني بالقرآن الكريم، وإيمانا بصدق نبينا العربي ووضوح سيرته أن أكون قدوة لإخواني أدباء النصرانية فأدخل في دين الله، ولكن بدا لي أن الدعوة تصحيحنا خطأ طارئا على ديننا أكثر قبولا وشمولا من الدعوة إلى عدولنا عنه إلى سواه، فقررت أن تكون لي الخطوة الأولى في هذا السبيل: إيقاظ الآريوسيّة الموحدة من نومها الطويل ليعود الحق إلى نصابه، وتزول العقبة الوحيدة المفتعلة الفاصلة بين الدينين، ونغدو بعدها إخوانا على سُرر متقابلين، فيتيسّر لنا تحقيق وحدتنا الكبرى، وبعث حضارتنا الأخلاقية التي طالما ملأت دنيا الناس عدلا وسلاما. أما خطوتي المبتكرة المشار إليها فهي أني أذيع على الملإ عُزوفي عن أرثوذكسيّتي المكاريوسيّة إلى الأرثوذكسية الآريوسية، وأطلب في وصيتي هذه أن يصلي على جثماني شيخ وكاهن فيقتصران على تلاوة الفاتحة والصلاة الربانية لا أكثر ولا أقل، ثم أوارى الثرى في بقعة طيبة حددتها قرب منزلي، وينصب على قبري شاهد خشبي متين وبسيط في رأسه صليب وهلال متعانقين رمز الوحدة التي أجهدت في سبيلها طول حياتي، هذه وصيتي التي أريد تنفيذها بعد وفاتي، وأصب لعنتي على من يخالفها. ورحم الله حيا وميتا كل من يذكرني بالخير ويترحم عليّ".. وأما ما قاله عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فهو من أجمل ما قيل عنه، وقد أورده صديقه أكرم زعيتر في مقال نشره في مجلة الدوحة القطرية، (ع 109. الصادر في يناير 1985. ص 22)، ومما جاء فيه: "يا محمد، يا نبي الله حقا، يا أحكم الحكماء، وأعظم المصلحين، وأنبلهم مطلبا، وأبعدهم غاية، وأصدقهم دعوة، وأهداهم سبيلا. يا نبي الله حقا، يا مجد العرب، يا مجد الإنسانية، يا آية الصحراء الكبرى جاء الحكماء قبلك وبعدك عورا وعميانا، وجئت بصيرا بكل نواحي الحياة كأنك ترى الكون وأهله بنور خالقهم جميعا، لقد خالف الكل الطبيعة وسرت معها يدك في يدها، وعيناك في قلبها، وروحك في روحها فاستغرقتها بعلمك، واستوعبتها بفهمك وبعثت راقدها فانبعث غير أهوج، ورضت جامحها فانقاد غير ذليل.. آياتك آيات الخليقة، ودينك دين الفطرة.. شرعك رياضة لا إرهاق، وتكاليفه تمرين لا تعجيز، مذهب يحض على العمل حتى الجهاد، وجهاد تكفه المروءة عن الجور، وعدل تحده العفة عن القسوة، وقوة يربأ بها الحق عن الطغيان، رسالة تتفاءل بالحياة، وتهلل للنور، وتبارك الجمال، وترهف الحس، وتطلق الخيال، وتقدس العلم، وتغري بالطموح، وتدفع إلى الرقي، وتحث على الكسب الحلال، وتبعد عن اليأس، وتنزّه عن الرياء، وتقرب من عرش الله... إني لموقن أن الإنسانية التي يئست من كل فلسفاتها وعلومها، وقنطت من مذاهب الحكماء جميعا لن تخرج من مأزقها، ولن تجد راحة لروحها وصلاحا لأمرها إلا بارتمائها في حضن الإسلام، تجد فيه حلا لمشكلة الحياة والتوفيق بين قوى الإنسان جميعا جسدا وعقلا وروحا". سقت هذا الكلام الجميل رغم طوله ليقرأه العُمي عندنا، الداعين إلى الرداءة باسم "التقدمية"، الذين همهم في بطونهم، فكان أكثر ما ينتجونه يشبه ما يخرج من تلك البطون (أكرمكم الله)، الزاعمون أنهم مهتدون وهم أضل خلق الله، وإن البهائم الرّتع لأهدى منهم.. ولكن غرتهم هذه الأضواء المسلطة عليهم من شياطين الإنس.. وهذه الأقلام التي تُزيّن لهم أعمالهم.. اللهم هذا عبدك الشاعر القروي نقول فيه ما قاله عبدك ورسولك عيسى عليه السلام في أمثاله: إن تعذّبه فإنه عبدك، وإن تغفر له فإنك أنت العزيز الحكيم. وما أجمل قول الشاعر القروي عندما علم أن المغتربين لبنانيين ينوون شراء بيت له في البرازيل، فشكر، واعتذر قائلا: "أوثر قبرا في وطني على قصر في غربتي". وأختم هذه الكلمة ببيت من الشعر قاله الشاعر القروي عن دعوة الإسلام إلى العزة ورفضه الاستخذاء الذي استمرأه كثير من "المسلمين". يقول الشاعر القروي: إذا شئت دفع الظلم فاضرب** بسيف محمد واهجر يسوعا لقد علق الشاعر عمر أبوريشة على كلام الشاعر القروي عن الإسلام وعن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال إنه "أروع ديوان للقروي".. فرغم أنه نثر ولكنه كان أشعر من الشعر..