سينعقد لقاء الولاة بالحكومة لتقييم مدى تجسيد قرارات وتوصيات اللقاء الذي تم السنة الماضية حيث أعطيت تعليمات من طرف الوزير الأول من أجل إقحام الولاة ومعهم الإدارة المحلية في الحركية الاقتصادية الجديدة على المستوى المحلي. ونظرا لأهمية الموضوع وجديته وتعقيداته ميدانيا فإني خصصت هذه الورقة لتفكيك ولو جزئيا معوقات الانطلاقة الاقتصادية على المستوى المحلي وذلك من خلال تناول عدة نقاط هامة ليس حصرا ولكن باعتبارها من أكبر معوقات الانبعاث الاقتصادي القادر على التأسيس للنهضة الاقتصادية ولو كبداية. أولا: إشكالية العقار الصناعي القديم ظل الخطاب الرسمي منذ عقود يركز على ضرورة توفير العقار الصناعي للمستثمرين، وأنشئت مناطق صناعية كبرى عبر عديد المدن تلتها مناطق النشاطات بيد أن ديناميكية إنشاء هذه الفضاءات الصناعية توقفت مع نهاية الثمانينيات، بل أهملت جل المناطق الصناعية ومناطق النشاطات وهي الآن في وضعية "كارثية" رغم المحاولات المحتشمة لإعادة تهيئتها وحسن تسييرها. وقد أظهرت التحقيقات الميدانية أن ما يزيد عن 40% من الأوعية العقارية الصناعية غير مستغلة ومهملة سواء بالنسبة للقطاع العمومي أو الخاص الذي امتلكها بموجب قوانين سابقة وهو الآن يمارس أبشع صور المضاربة، فيهان أمام أعين السلطات العمومية "المتفرجة" رغم أن يد الدولة "طويلة" وبإمكانها التدخل قانونا لاسترجاع المساحات المهملة من القطاع العمومي أو التي هي محل مضاربة لدى الخواص رغم دفاتر الشروط التي رافقت عمليات التمليك لهذه المساحات. إن أولوية الأوليات هي التوجه لهذه الفضاءات الصناعية الموجودة والمهملة والعمل على إعادة تنظيمها وحسن تسييرها من خلال دفاتر شروط مضبوطة وملزمة للمتعاملين ومؤسسات التسيير والصيانة لهذه المناطق، وإحصاء المساحات الزائدة غير المستغلة والعمل على استرجاعها قانونا وتوزيعها على المستثمرين الجدد بمساحات الوحدات الصغيرة والمتوسطة باعتبارها النموذج الأكثر فعالية في خلق الثروة وامتصاص البطالة وإشاعة أسلوب المناولة والتكامل الاقتصادي لأن عهد المركبات الكبرى التي تصنع كل شيء قد ولى حتى في أكبر البلدان الصناعية. وعلى السلطات العمومية أن تنزل إلى الميدان وتعاين واقع التراث العقاري الصناعي سواء في المناطق الصناعية وخاصة في مناطق النشاطات التابعة للبلديات التي تحوّلت إلى أحياء شبه فوضوية لا طرقات ولا كهرباء ولا هاتف ولا مياه ولا غاز وتقول إنها منطقة للنشاطات؟!. فالأمر لا يحتاج إلى رؤية واضحة وتصوّر دقيق وقرار سياسي سيادي واضح لأن الأمر يتعلق بمستقبل البلاد طالما أكدت التجارب أن الاستمرار في نظام الريع البترولي من شأنه أن يعود بنا إلى الوراء عقودا وعقودا، فمن لا يتقدم يتأخر. لقد كان لنا نسيج صناعي ضخم ورثناه عن "الثورة الصناعية" للراحل بومدين بالدرجة الأولى إلا أن السياسات "العرجاء" فككت ذلك التراث العقاري الصناعي من خلال "الخوصصة" "التحايلية المدروسة" ولكنها قد تكون مقبولة إذا تمكن "الملاّك" الجدد من بعث الأنشطة الاقتصادية من جديد وارتفعت القيمة المضافة وازداد عدد العمال، أما إذا كان الأمر يتعلق بالمضاربة في العقار الصناعي وتحويل الأموال فعلى السلطات العمومية التحرّك لوضع حدّ لهذه الممارسات المافيوية. ثانيا: أين مشروع 49 حظيرة صناعية؟! استقر الرأي لدى الحكومة الحالية على القفز على التسميات السابقة للفضاءات الصناعية والمسماة المناطق الصناعية ومناطق النشاطات وجاءت بفكرة أو تسمية جديدة باسم "الحظائر الصناعية"، وتقرر إنشاء أكثر في 50 حظيرة صناعية عبر مختلف الولايات بإمكانها احتواء - نظريا- آلاف الوحدات الصناعية، وهو أمر في غاية الأهمية لو يتحقق عمليا ولو خلال خمس سنوات. ولكن أين نحن من ذلك؟ شخصيا أعرف ولاة لهم من الإرادة والتجربة والديناميكية ما يمكنهم من تجسيد ذلك ميدانيا ولكنهم وجدوا أنفسهم يتخبطون ويتيهون في دهاليز الفضاءات المظلمة بين الخطاب السياسي والتجسيد الميداني لذلك الخطاب، فأغلب الأراضي المقترحة لاحتضان الحظائر الصناعية الجديدة إما فلاحية أو شبه غابية ولا يستطيع لا الوالي ولا المجلس الشعبي الولائي أو البلدي اتخاذ أي قرار بشأن تلك الأراضي بنزع الصفة الفلاحية عنها إلا بموافقة وزير الفلاحة ودراستها لدى لجنة وزارية مشتركة لدى الوزير الأول، ولنا أن نتصوّر حجم التأخر في اتخاذ القرارات بهذا الخصوص! وعند اتخاذ القرار بتحويل الأرض الفلاحية غير الخصبة أو شبه الغابية إلخ ... تأتي سلسلة الخطوات الأخرى كتعويض الفلاحين! من يعوضهم وأين هي الاعتمادات؟ ثم تبدأ معركة التهيئة من شق الطرق، وإيصال المياه، وقنوات الصرف، والكهرباء والغاز والهاتف، والأرصفة وتعبيد الطرق إلخ.. هذه تتطلب مبالغ ضخمة والولاة ليسوا مسيرين لهذه الأموال، فهي تحت تصرف الوكالة الوطنية لضبط العقار الصناعي التابعة لوزير الصناعة، ثم من يتولى تسيير هذه الحظيرة الجديدة؟ وماهي التزامات المستثمر والوكالة المعنية ومصالح أملاك الدولة؟ وماهي المبالغ المحدّدة سنويا كحقوق امتياز؟ وعلى أي أساس يتم تحديدها؟ وهل يتحول الامتياز إلى تنازل؟ أتذكر أن الوزير الأول في اجتماع الولاة السنة الماضية أمرهم بتوزيع الأراضي الصناعية في هذه الحظائر بمجرد الانتهاء من الدراسة فيها وهي خطوة نحو المجهول هدفها سياسي أكثر منه عملي، لأنه سيقال لنا في اجتماع هذه السنة إنه تم توزيع كذا ألف قطعة وإنشاء كذا حظيرة صناعية وكل ذلك على الورق، ويبقى الاستثمار حبرا على ورق !! إننا لا نريد تكرار كارثة مناطق النشاطات المهملة أو المناطق الصناعية شبه المنسية، فعلى وزير الصناعة أن ينزل للميدان ويعاين عيّنات من هذه الفضاءات الصناعية ما آلت إليها، والبحث عن أسباب ذلك حتى لا يخلق "حظائر" لا علاقة لها بالفضاءات الصناعية والخدماتية العصرية الجديدة على غرار من سبقنا في آسيا والخليج حتى لا أقول أوروبا وأمريكا. إن إستراتيجية الانطلاقة الصناعية يجب أن تنطلق من فكرة إنشاء الأقطاب الصناعية المتخصصة وفق توجيهات المخطط الوطني لتهيئة الإقليم، وحسب خصوصيات كل منطقة وقابليتها لاستقبال المستثمرين فيها وتشجيع التكامل بين الوحدات الصناعية الكبرى والوحدات الصغيرة المكمّلة لها في إطار المناولة. ولأننا ندعو الأجانب للشراكة معنا فلابدّ من توفير شروط ذلك لانعدام التهيئة، والظّلام لانعدام الكهرباء، وانعدام الاتصالات بانعدام الأنترنت أو ضعف تدفقها، ناهيك عن الشروط التعجيزية باعتماد وفرض قاعدة 49/51 المنفّرة للأجانب، إلا في القطاعات الإستراتيجية الحساسة. ثالثا: إلى متى التغوّل البيروقراطي؟ إن كل الدراسات والتحاليل حول المناخ الاقتصادي ببلادنا تشير بأصابع الاتهام إلى "الغول" البيروقراطي الجاثم على الذهنيات والأفكار والعقول في كل الإدارات العمومية المركزية والمحلية والذي كان ومازال حجر عثرة في بعث التنمية الاقتصادية من خلال التعقيدات وكثرة الوثائق التي لا طائل منها بل وعدم احترام الآجال المنصوص عليها في بعض النصوص الجديدة، على غرار عقود التعمير من رخص التجزئة والبناء والمطابقة إلخ... والمنصوص عليها في المرسوم التنفيذي الصادر في 21 جانفي 2015 المنشئ للشباك الوحيد على مستوى البلديات لتسليم هذه الوثائق حيث حدّدت الآجال ب 21 يوما، حيث أننا نتحدى أي بلدية استطاعت أن تسلم وثيقة من هذه الوثائق في أقل من ثلاثة إلى أربعة أشهر وأحيانا أكثر إلا نادرا جدا جدا. فشتان بين القرار السياسي أو النص التشريعي أو التنظيمي والتطبيق الميداني العملي في غياب المتابعة والمراقبة والمساءلة نظرا للتحجر الذهني لدى القائمين على تسليم هذه الوثائق أم لعدم توفر الكفاءات أو حتى الموارد البشرية، غير القادرة على مسايرة النصوص الجديدة واحترام آجالها. إن الآلة البيروقراطية يجب تفكيكها من خلال عصرنة الإدارة المركزية والمحلية باعتماد الرّقمنة والإعلام الآلي والأنترنت أو ما يطلق عليه "بالحكومة الإلكترونية" للقضاء على الطوابير والمواعيد والتخلص من قناصي الرشوة في مختلف إداراتنا العمومية، فالعصرنة الإدارية ليست شعارا سياسيا يرفع في المناسبات فقط بل يجب أن يصبح حقيقة يومية وقد جربناها في وثائق وزارة الداخلية ووزارة العدل رغم أنها مازالت في حاجة إلى المزيد من الجهد، فالأحرى بالإدارات المتعاملة مع العملية التنموية الاستثمارية أن تكون في الريادة لأن رهان المستقبل مرتبط عضويا ببعث الحركية الاقتصادية النشطة التي يمكن أن تحل محل الريع الطاقوي الذي مازال اقتصادنا أسيرا له. رابعا: وماذا عن الإدارة الجبائية؟ الحديث عن الإدارة الجبائية وعلاقتها المباشرة بكل الأنشطة الاقتصادية الصناعية والتجارية وغيرها يقودنا إلى التأكيد أن النظام الجبائي في بلادنا من أعقد وأصعب النظم الضرائبية من حيث تعدّد وتنوع الضرائب والرسوم واتساع وعاءاتها لاسيما في السنوات الأخيرة. وبصرف النظر عما يتم تقريره في قوانين المالية سنويا وعدم استقرار الرؤية الجبائية لدى المشرّع الجزائري مما يربك المستثمر الوطني فما بالك بالأجنبي وما يترتب على ذلك من إحجام رؤوس الأموال عن الدخول في المغامرات الاستثمارية وتفصيل الأنشطة الموازية الطفيلية وفي أحسن الحالات التفنّن في التهرّب والتحايل الضريبي، فالمثل يقول "كثرة الضرائب تقتل الضريبة". إن الجانب البيروقراطي والأساليب البيدائية في عمل الإدارات الجبائية المحلية في المديريات والمفتشيات والقبّاضات وعدم التفكير في عصرنة هذه الإدارات التي مازال أعوانها يمارسون مهامهم بطرق تقليدية بدائية وفي مكاتب أشبه بالدهاليز وكأن العملية "مقصودة" ليعمل هؤلاء في الظلام كالخفافيش لأن العمل في وضوح النهار وفي الشفافية لا يساعد من تربى وترعرع في ريوع الهدايا والرشاوى مقابل منح الامتيازات والابتزاز والمساومة في غياب آليات الرقابة الآنية الحادة أو عدم نجاعتها. إن النظام الجبائي يجب أن يساير الحراك التنموي من خلال عقلنة وموضوعية الضريبة والرسم تفاديا للتهرب والتحايل وتجنبا لظاهرة إحجام أصحاب الأموال والأفكار عن الدخول في المشاريع الاستثمارية، ثم أنه لابد من إحداث ثورة في عصرنة الإدارة الجبائية وجعلها أكثر شفافية وفي متناول الخاضع للضريبة، حيث يقبل عليها بصدر رحب عكس ماهو عليه الآن، حيث تعتبر مصالح الضرائب بمثابة كابوس يؤرق كل صاحب نشاط صناعي أو تجاري مهما كان، وما قيل عن الضرائب يقال عن المصالح شبه الضريبية للضمان الاجتماعي للأجراء وغير الأجراء. خامسا: القروض البنكية لمن؟ لا يمكن الحديث عن الاستثمار مهما كان دون وجود نظام بنكي ناجع يساير ويراقب الديناميكية الاقتصادية صناعية أو سياحية أو خدماتية أو غيرها، ورغم دخول بنوك أجنبية الساحة المالية بالجزائر فإن البنوك العمومية هي المستأثرة بعمليات تمويل مختلف المشاريع الاقتصادية من خلال القروض الاستثمارية في حين تتولى البنوك الخاصة الأجنبية في أغلبها تمويل العمليات التجارية لاسيما منها عمليها الاستيراد والمبادلات التجارية. وحيث أن البنوك العمومية هي المهيمنة على عملية القرض الاستثماري فإن المسجّل أن هذه القروض ليست في متناول كل من يريد الاستثمار، فهناك من يتحصل على ما يريد وبمكالمة هاتفية! وفي آجال قياسية وهناك من يكابد ويعاني الوثائق والتأثيرات ووضعها تحت تصرّف لجان بنكية قد ترهقه دوريا بزيادة هذه الوثيقة أو تلك وقد يستفيد من جزء مما طلب وقد يرفض طلبه بعد شهور وشهور. وتلك هي حالة من يريد الاستثمار في بلادي. إن النظام البنكي في الجزائر نظام بدائي وصف منذ 26 سنة من طرف رئيس حكومة الإصلاحات بأنه عبارة عن شبابيك لا غير، والمؤسف أنه مازال كذلك، ولم يستفد منه إلا أصحاب الجاه والمال حيث استحوذوا على ما قدر يساوي رؤوس أموال بعض البنوك، وفضائحها كانت ومازالت ماثلة للعيان الآن. فهل أدرجت حكومتنا الحكيمة ترشيد النظام البنكي وجعله يساير العملية التنموية ويرافق المستثمرين؟ أم أنها اكتفت بتكليف الولاة بتوزيع الأراضي على الورق ليبقى الاستثمار مؤجلا إلى موعد آخر لا نعرف وقته؟! نتمنى أن نكون بهذه الملاحظات قد لفتنا الأنظار إلى حقائق الميدان التي تعتبر من المعوقات الكبرى للانبعاث الاقتصادي المنشود، وكلنا أمل في غد مشرق ولكن ليس بأساليب بالية بدائية فكرا وعملا ورجالا. * وال سابق