رفضت إدارة الضرائب الطعن الثاني الذي قدمته شركة "جازي"، مما يؤكد نهاية فترة العسل لشركة "أوراسكوم" في الجزائر. * دخلت أنشطة شركة أوراسكوم في الجزائر فترة عسيرة منذ الأزمة التي نشبت بين الجزائر ومصر غداة الأحداث التي تزامنت مع مقابلة في كرة القدم قي نوفمبر الماضي. وتثير معاناة الشركة المصرية سؤالا غريبا: هل يمكن لإمبراطورية اقتصادية بحجم أوراسكوم أن تنهار إثر مقابلة في كرة القدم؟ * وقد كانت شركة أوراسكوم، ونجمها "جازي"، مؤسسة قوية، محترمة، تتباهى بأعمالها الخيرية ومساندتها لعدد من فرق كرة القدم، إلى جانب تمويلها لنشاطات ثقافية وخيرية. لكن بعد مقابلتي القاهرة والخرطوم، تحولت "جازي" إلى مؤسسة غير مرغوب فيها، تعاني من سلوك المواطنين ومن مصالح الضرائب. ولم يتردد مسؤولون كبار في الدولة أن يتكلموا عن ضرورة رحيل شركة أوراسكوم من الجزائر. وبعد أن كانت "جازي" رمز الاستثمار الأجنبي الناجح، تحولت إلى مؤسسة تتعامل بالتحايل على حساب الاقتصاد الوطني. * وكانت أوراسكوم قد استفادت في بداية الأمر من امتيازات كبرى، لما كانت الحكومة تتبنى نهجا ليبراليا متطرفا خلال العهدة الأولى للرئيس عبد العزيز بوتفليقة. واستطاعت "جازي" أن تلعب دورا أساسيا في انتشار الهاتف النقال بفضل التسهيلات التي سمحت لها أن تبلغ ما يقارب 14 مليون مشترك. * لكن هذا النجاح الباهر لشركة "أوراسكوم" أدى إلى ارتكاب سلسلة من الأخطاء. فقد استغلت "جازي" موقعها لتتعامل مع الإدارة الجزائرية باستهتار واحتقار كبيرين، في فترة كان يقال عن "جازي" إنها تحت حماية السلطة، مما يمنع أي جزائري من مواجهتها. وذهبت "جازي" إلى حد تجاوز تعليمات سلطة الضبط، ولم تبالي بتوصياتها في تلك المرحلة. * ونذكر كذلك أن أوراسكوم تكسب شركات أخرى في الجزائر تعمل في ميادين مختلفة، منها مواد البناء. وقد استفادت أوراسكوم من مرحلة ملائمة لتشتري مصانع الإسمنت في الجزائر، ثم باعتها للفرنسي "لافارج" Lafarge بعد تحقيق أرباح كبرى. وهنا كذلك تساهلت الإدارة الجزائرية مع أوراسكوم عند شراء المصانع، قبل أن تغضب نفس الإدارة لما اكتشفت أن أوراسكوم لا يهمها الاستثمار في المصانع إنما يهمها تحقيق الأرباح... * وأمام هذا النجاح الباهر، تصرفت أوراسكوم وكأنها أصيبت بالغرور، وكان ذلك بداية مشاكلها. فكانت الإدارة تسجل أخطاء "أوراسكوم" وتنتظر الظرف الملائم. وجاء ذلك مع تغيير الخطاب الاقتصادي، لما تخلى الرئيس بوتفليقة عن الليبرالية وعاد خطاب تقليدي حول "الوطنية الاقتصادية". وقام الوزير الأول أحمد أويحيى بترجمة ذلك في القانون، حيث اتخذ قرارات تكاد تمنع الاستثمار الأجنبي وتفرض قواعد جديدة للاستثمار الموجود. * وكانت شركة "جازي" محل مراقبة من طرف مصالح الضرائب التي منعتها من تحويل فوائد سنة 2008. وقالت مصالح الضرائب إن "جازي" قامت بتزييف حساباتها، مما يفرض عليها إعادة النظر في مستحقاتها الضريبية، إضافة إلى عقوبات بسبب تأخرها في دفع الضرائب. ويصل مجمل مستحقات "أوراسكوم" إلى 596 مليون دولار، وهو ما يفوق الأرباح التي تقول "جازي" إنها حققتها في سنة 2008، والتي تبلغ 580 مليون دولار. * وذكر خبير اقتصادي أن "أوراسكوم" قد دخلت في عمليات كبرى في أوربا، وكانت تنوي استعمال أرباحها في الجزائر لمواصلة تلك المغامرة، فوجدت نفسها في وضع صعب يمكن أن تخسر فيه الكثير. وحتى إذا أرادت "جازي" أن تبيع جزءاً أو مجمل ما تملكه في الجزائر، فإن القانون الجديد الذي جاء به السيد أحمد أويحيى يعطي الأولوية للدولة الجزائرية، أي أن أوراسكوم لا تستطيع أن تبيع حصصها لأي شركة تريد. * وحقيقة الأمر أن قضية أوراسكوم لا تقتصر على جانب واحد فقط، بل إن هناك تراكمات كان لابد من الفصل فيها. ويقول خبير اقتصادي إن "أوراسكوم" أصبحت تشكل قوة مالية تهدد بعض التوازنات. وقد وصلت أرباحها مثلا إلى مستوى يضر بميزانية البلاد من العملة الصعبة على المدى البعيد. كما طرحت "أوراسكوم" قضايا أمنية. فهي تكسب خطا رقميا مستقلا يسمح لها بربطها مع الخارج، مما يجعلها تستغني عن الدولة الجزائرية. وفي نفس الوقت، فإن "جازي" باعت لمدة سنوات طويلة أرقاما هاتفية دون تحديد هوية أصحابها، مما يشكل تهديدا أمنيا واضحا، واضطرت السلطات المختصة إلى فرض إعادة تعريف كل أصحاب الخطوط الهاتفية. * هذه الأخطاء تراكمت منذ مدة، لكن بقيت "أوراسكوم" متعاملا عاديا يقلق الكثير دون أن يستطيع أحد أن ينتقد الشركة، لأن لا أحد يعرف العلاقة الحقيقية بينها وبين السلطة الجزائرية. وتواصل الوضع على حاله إلى أن جاءت المقابلة الشهيرة في كرة القدم، لتكسر الحاجز السياسي والبسيكولوجي الذي كان يمنع مواجهة أوراسكوم. * ومنذ ذلك اليوم، تعرفت أوراسكوم على إدارة جزائرية أخرى، واكتشفت جوا اقتصاديا جديدا لا توجد فيه تسهيلات ولا محاباة، وهو السلوك التقليدي للبيروقراطية التي تغمض عينيها عن كل شيء تارة، وتعود لتطبق القانون بكل قساوته لتمنع كل شيء تارة أخرى. ورغم أنها تتغنى ب14 مليون مشترك، وأن قيمتها تبلغ خمسة ملايير دولار، فقد اكتشفت "جازي" أن ذلك لا ينفع أمام مقابلة في كرة القدم.