فجأة، تتحوّل لذّة لحظات إلى مأساة سنوات. وفجأة، يحوّل تهور إرهابيي الطرقات شبابا في عمر الزهور إلى أشخاص مقعدين لا حول ولا قوّة لهم.. ذنبهم الوحيد أنّ الصدفة أوجدتهم في طريق هؤلاء العابثين، فلا الموت قبلهم بينه ولا الحياة منحتهم الفرصة الكاملة ليتحولوا إلى جثث تتنفس ولا تتحرك، وتحيا ولا تشعر. "الشروق" تحدّثت إلى بعض هؤلاء، ووقفت على حجم المأساة التي يكابدونها في مؤسسة التأهيل الحركي قاصدي مرباح "تيقصراين" بالعاصمة، وتحدثت إلى مسيري المؤسسة الذين عددوا لنا الحالات والجوانب الخفية في التكفل بهذا العجز الثقيل الذي ترفض أغلب المصالح على مستوى المستشفيات مشاركتها فيه، كما ينبذه الممرضون لما فيه من عناء عكس بقية المصالح.
فصل الصيف.. ذروة استقبال ضحايا حوادث المرور والغطس أكّد زهير خالدي، مدير مؤسسة التأهيل الحركي "قاصدي مرباح" بتيقصراين، أن ذروة استقبال الحالات تكون خلال فصل الصيف بسبب كثرة حوادث المرور وحوادث الغطس في الشواطئ من أعلى الصخور، وأن أغلب هؤلاء الضحايا من الشباب الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و26 عاما الذين تحصلوا للتوّ على شهادات تخرّجهم من الجامعة أو تحصلوا على البكالوريا، فأكثر من 95 بالمائة منهم ذكور أصيبوا بشلل نصفي أو شلل كلّي ويرقدون بالجناحين "ب" و"س" يأتون من 48 ولاية. وأرجع السبب إلى السهر لساعات طويلة بحكم التنقل من مكان إلى آخر، ولأن أغلبهم يتمتع بحرية أكبر في الصيف وبوقت أكبر ليلا وبحكم أنّ بعضهم متهور وشاب لا يبالي بأن تقع تلك الحوادث. من جهته، البروفيسور بلميهوب عبد الرزاق، رئيس مصلحة التأهيل الحركي، أكد أنهم مجنّدون في فصل الصيف لاستقبال هذا النوع من الحالات، لأنهم تعودوا الأمر كل موسم. وفي سبتمبر وأكتوبر، مجندون لاستقبال ضحايا السقوط من شجر الزيتون والنخيل.. فكل موسم له حوادثه الخاصة.
احذروا.. الموت من أمامكم والإعاقة من ورائكم حذّر البروفيسور بلميهوب من خطورة حوادث المرور وحوادث الغطس في فصل الصيف، حيث إنها تخلف غالبا صدمات رأسية تتسبب في الكسر في العمود الفقري، أي شلل رباعي "يدين ورجلين" وشلل سفلي، في الرجلين فقط، وتؤدي جميعها إلى موت في حينه أو موت بسبب مضاعفات الحادث لاحقا أو إعاقة مدى الحياة.. وكل هذا بسبب متعة لم تدم سوى دقائق معدودات.
شباب في عمر الزهور يصرخون: وكيلكم ربي أيها "القتلة" عبد الرزاق، وعمر.. وآخرون.. يرقدون في المستشفى منذ أشهر قليلة. شباب لا تتعدى أعمارهم 25 عاما، التقتهم "الشروق"، فكانت صرختهم واحدة: "وكيلهم ربي، الذين كانوا السبب في مأساتنا.. والله لن نسامحكم أبدا". أشخاص ليس باستطاعتهم الأكل بمفردهم، وآخرون يعجزون عن قضاء حاجاتهم البيولوجية.. صور تثير الحسرة والأسى لأناس تعددت ملابسات وظروف حصولهم على تأشيرة العبور إلى المستشفى وانضمامهم إلى عالم ذوي الاحتياجات الخاصة. "عبد الرزاق. ض"، من ضواحي غرب العاصمة، في ال25 من العمر، كان عائدا من البيت عندما داهمتهم شاحنة فأدخلته الغيبوبة في مصلحة الاستعجالات ليمكث بها لأيام، يقول: "ليس سهلا أبدا أن تجد نفسك مقعدا بين عشية وضحاها بسبب إصابة في الظهر، لكنني أكتفي بالقول: وكيلهم ربي الذين كانوا السبب". وتفاءل عبد الرزاق خيرا بتحسن وضعه واستجابته للعلاج بعد نحو شهر من وصوله إلى تيقصراين. أمّا عمر، الذي تبلغ سنّه 24 عاما، فهو طالب في العلوم التجارية بجامعة العفرون، يقول إنّ الحياة توقفت عند تاريخ الحادث الذي وقع له عندما كان عائدا إلى البيت من عمل موسمي باشره في العطلة لتجنب طلب المال من عائلته برفقة 9 أشخاص آخرين، لكن الأمور انقلبت فجأة، فاضطر إلى تجميد دراسته الجامعية والتنقل بكرسي متحرك على أمل تطليقه في وقت لاحق بعد الاستجابة للعلاج. ويقول عمر وعبد الرزاق: "اتقوا الله في الناس على الطرقات.. فنحن بشر نستحق الحياة" لقد صدمنا بهذه الحوادث والإعاقات فباتت كوابيس تلاحقنا في يقظتنا وحلمنا".
التأهيل الحركي.. مهنة منكرة للجميل وأضاف خالدي أنّ مهنتهم "منكرة للجميل"، بمعنى أنّ كل الجهود التي يبذلها الفريق الطبي وشبه الطبي العامل قد لا تكون مثمرة ولا تحقق الشفاء للمريض. والفرق الوحيد الذي قد يخرج به المريض هو مساعدته على التأقلم مع المرض والاندماج في المجتمع والاستقلال الذاتي بعد قضاء أزيد من عام دون فائدة، وعلى العكس هناك من يستعيد الحركة جزئيا أو كليا في الجزء العلوي أو السفلي. واستشهد مدير المستشفى في هذا السياق "بحالات تقصد المستشفى من الجنوب ومن غرب العاصمة لوحدها وباعتمادها على نفسها استطاعت تحقيق استقلاليتها الذاتية وتزوجت وعملت.. فعلا الإعاقة ليست نهاية العالم لأن الحياة تستمر." وقال خالدي إنّ تيقصراين مؤسسة مرجعية في العلاج يحوّل إليها المرضى من جميع الولايات ولذا تتراوح نسبة شغل الأسرّة بها بين 65 و78 بالمائة، وهو مستوى مرعب يعكس الحالة الدرامية التي نعيشها في الواقع.
مرضى يتحولون إلى عدائيين عندما لا يحصل المريض على النتيجة المرجوة فإنه يرمي اللوم على الممرض أو الطبيب الذي عجز برأيه عن شفائه، فضلا عن النفسية المحطمة والمعنويات المحبطة التي يعيش بها، ما يجعله عدائيا مع أهله وغيره.. وهي عدوانية لفظية جارحة يتفهمها العاملون وتقل مع مرور الوقت وتعود المريض. وقال البروفيسور بلميهوب إن الحالات التي لا تتقبل المرض يخصص لها نفسانيون لمساعدتهم، كما أن المحيط العائلي أيضا يتولى مهمة المساعدة في الخروج من الحلقة المفرغة. وأضاف خالدي: "يجب على المريض أن يفهم أنّ الحالة التي يمر بها تفقده الحركة وقد يسترجعها. والخطأ أن المريض يخرج من المستشفى بنفسية محبطة يحمل معه أملا، لكن هذا ليس أكيدا، وعلى الطبيب المعالج توضيح الصورة قبل تحويلة إلينا، لأنه في حال وقوع العكس، يعتبرون أننا عجزنا في شفائهم".
البروفيسور بلميهوب: حالات العجز الثقيل تتطلب استشفاء ل 4 سنوات وصف البروفيسور بلميهوب عبد الرزاق طرقاتنا بمضمار الفورمولا، الذي تستباح فيه كل التجاوزات القاتلة. واعتبر المتحدث أن الحل في التخلص من الظاهرة، باتباع سياسة الترهيب في التوعية. وحسب المتحدث، فإن حادثا بسيطا يكلف صاحبه تكفلا بين 15 يوما و6 أشهر علاجا، لكن الخطر الحقيقي يكمن في الحادث الثقيل الذي يصيب العمود الفقري ويترتب عليه شلل رباعي أو ثنائي يتطلب علاجا بين 3 أو 4 سنوات وتكفلا ورعاية خاصتين، حيث يحتاج المريض الواحد 4 ممرضين على الأقل، غير أنّ عدد المستخدمين يبقى محدودا، ومنهم أشخاص غير مؤهلين. ولتجاوز هذا النقص، تم الاعتماد على مرافق المريض.
جناح الشلل النصفي والكلي.. الوحدة المنبوذة من قبل الممرضين.. رغم أنّ طاقة استيعاب أغلب المستشفيات تسمح باستقبال عدد أكبر، إلا أن قلة الممرضين تحول دون ذلك، ما يحد من فرص علاج جميع المرضى. ويضيف بلميهوب: "مناصب العمل موجودة، لكن اليد العاملة المؤهلة قليلة، لأن أغلبهم يعتبر العمل في هذه المصالح ثقيلا ومتعبا فيتجه إلى مصالح أخرى. إننا نجد صعوبة في تحويل بعض الممرضين إلى بعض الأجنحة. ويعتبر هؤلاء الأمر عقوبة لهم، لأنه يتطلب حضورا كاملا وجهدا أكبر حتى إن من العاملين من يطلب الذهاب إلى التقاعد، كما أنّ الكم المؤهل في المعاهد غير كاف والتوزيع غير عادل ولا يخضع للاحتياج والطلب". وختم بلميهوب أنّ البطالة في الصحة أمر غير موجود والأسباب تكمن في عدم الالتزام وقلة الضمير المهني وكذا إغراءات في مصالح أخرى وانعدام التحفيز.
مصالح التأهيل في المستشفيات ترفض استقبال الحالات أكد البروفيسور بلميهوب أن المشكل الحقيقي بالنسبة إلى هذا التخصص في بلادنا يكمن في أن مصالح إعادة التأهيل على مستوى المستشفيات ترفض قبول الحالات بحجة أن العجز ثقيل وأنها لا تملك مختصين ومستخدمين كافين. واستشهد البروفيسور بحالات تصلهم من ولايات تتوفر مستشفياتها على تلك المصالح، مضيفا أن الأولى بها عدم تحويل مرضاها إلى العاصمة إلا في الحالات المستعصية جدا، لا سيما مع احتمال الإصابة بمضاعفات خطيرة لا يمكن التكفل بها، لأنها ليست ضمن اختصاص المؤسسة. وهو ما يعرض حياة المريض للخطر إذ يضطر الأمر إلى نقله في سيارة الإسعاف إلى مستشفيات مجاورة، ما قد يفقده الحياة قبل الوصول. وأرجع المختص الأمر إلى "مشكل تنسيق وتعاون بين المصالح وأننا أصبحنا نعتمد على علاقاتنا الشخصية.. المفروض ألا يكون الأمر هكذا، وأن نخلق تعاونا رسميا وفق معايير معينة" .