هناك سنن إلهية، ونواميس كونية، في فقه الطبيعة، وما وراء الطبيعة، يقف العقل الإنساني مهما أوتي من علم، ومهما حقق من تطور يقف مشدوها، وحائرا أمامها، لتفسير معنى الوجود. * فهذه الزلازل التي تضرب شرقا وغربا، وليس لهارب منها نجاة. وهذه الفيضانات التي تبتلع البنايات، وتقتلع النباتات، وتودي بالأناسي والحيوانات. وهذه الأعاصير التي تقذف نارا، فتشل حركة الطائرات، وتحرق الطيور العابرة للقارات، هي كلها ظواهر كونية يقف العالم، مهما عظم شأنه، والمشعوذ، مهما طال ذقنه، يقف الجميع حيارى، لإعطاء تفسير مقنع لسيرها وصيرورتها. * هل يمكن لراصد هذه الظواهر، أن يضعها في خانة الغيبيات كما يفعل بعض المتديّنين، أو من أعراض قيام الساعة كما يفعل البعض الآخر؟ أم أنها التفسير المنطقي لغضب الطبيعة كما يعلل ذلك العلمانيون من محللي الظواهر الطبيعية؟ * أيّا كانت التفسيرات المقدمة لقراءة الكون وظواهره، فإن العقل الإنساني لا يمكن إلا أن يتعامل معها بمنطق التسليم بعظمة الله في تسييره للكون، حسب منطق المؤمنين، أو الاستسلام لقوانين الطبيعة كما يفعل الماديون والعلمانيون. * غير أن ما قد ينطبق على الطبيعة وظواهرها، يوشك أن يتمرد على قوانين فقه الحضارة الإنسانية، وسياسة العمران البشرية، فالحضارة والعمران تحكمهما قواعد، تبدأ بمقدمة وتنتهي بخاتمة، وهذه القواعد يربط بينها خيط دقيق وعميق، هو الإنسان في مختلف مظاهر، حالاته، في هدوئه، وغضبه، وفي شطحاته وسبحاته، في قناعاته وتطلعاته، في حياته ومماته. لذلك نجد الشعوب كالأكوان الطبيعية، يعتريها غليان، وهيجان، ويستبد بها طغيان وعصيان. وإذا كنا في الطبيعة قد عجزنا عن إعطاء تفسير منطقي لحركة الظواهر، فإننا في الظاهرة الإنسانية لا نملك إلا اللجوء لحقيقة الموت والحياة، وقانون البقاء والفناء. وإذا صح الحديث النبوي القائل: "من مات فقد قامت قيامته«، فإن أعراض الموت يمكن تشخيصها في الإنسان، كما يمكن تشخيصها في المجتمعات والشعوب، وبالتالي يمكن تشخيص اشراط قيام الساعة لدى هذه المجتمعات والشعوب. * وتعالوا معي إلى إنزال ظاهرة فقه الحضارة وقانون العمران البشري، لتطبيقهما على واقع شعبنا الجزائري. إن من نافل القول التأكيد على أن شعبنا ينعم بمجموعة من النعم، يصعب عدها... طقس جميل في اعتدال، وإنتاج وفير في السهول والتلال، وخير غزير في الصحارى والجبال، وكنز دفين من أنواع المعادن، وألوان الذهب، في تفاعل واكتمال. * ويتربع على هذه الكنوز، شعب عريق في أصوليته وأصالته، وفي ثقافته وديانته، وفي وحدته وسلامته، وفي تآزره وشهامته، إنه يشبه في انسجامه والتحامه جوق الأركسترا الموسيقي المتناسق، فإذا اختلّ أداء من أداء آلاته، وعكر عليه صفو عزفه ونغماته، فذلك صوت نشاز، يوشك أن يفسد عليه العذب من أصواته ويضاعف من معاناته. * وأنكى من كل هذا، أن يخرج من صلب جزائرنا، الحبيبة، ابن عاق، ذو انتماء شاق ليطالب ببتر يد أو ساق، ويبث بين أرحام أمنا، الفتنة والشقاق، فذلك من علامات قيام الساعة في الجزائر. * كبرت حركة تنسب إلى وطني، من دعيٍّ لا يسمن ولا يغني، فيباهي بالخيانة وهي عار ويطالب بالتجزيئية وهي شنار ويرفع شعار العصبية الجاهلية، وهي انتحار. * إن مجرد الإقدام على مثل هذا الادّعاء، والإجهاز بتجسيده بتحريض من المتآمرين والأعداء، لهو عدوان على الذاكرة الجزائرية في قدسيتها، وعلى الوحدة الوطنية في عليائها ومركزيتها... وما كان لفنان مهما نزلت أو علت حنجرته، وما كان لسياسي، مهما تفشّت خيانته أو افتضحت عمالته، ما كان لهذا أو ذاك أن يقدم على هذه الفعلة، لولا مقدمات فاسدة، ساهمنا جميعا في زرع نبتها الهجين، وسقينا فسيلتها بماء مهين. فقد عملنا جميعا، وكل من موقع مسؤوليته، على استسمان ذي ورم، واخضرار أزهار الدمن، حينما تواطأنا، عن إرادة، أو عن غباء، مع إعلان الحرب على ثوابت وحدة الأمّة، وتشجيع عوامل الفرقة من القاعدة إلى القمّة. * لقد بدأنا نهيّئ لبروز أعراض قيام ساعة الوحدة الوطنية، حين عملنا على فتح نوافذ وأبواب الغزو الفكري، والثقافي، والإيديولوجي فجسّدنا العوامل المنغّصة للوحدة الترابية والوطنية، بالترويج لهذه الأعراض القاتلة: * 1- التمكين لسياسة الكهوف والدهاليز التي تولد وتنمو ضمن ظلام الأقبية والسرية، بدل فتح الإعلام والتنظيم الحزبي، أمام كل من يستوفي شروط العمل السياسي، وترك المجال مفتوحا أمام تلاقح الأفكار، وحوار المختلفين من المتعاكسين، الأخيار أو حتى الفجار. * 2- تكريس الجهوية والعرقية، والعصبية المقيتة في إسناد المناصب، حتى الحساسة منها، وفي مستويات عليا، وهو ما جرّأ صغار العقول والمصابين بأنيميا العقيدة والوطنية، إلى إعلان الحرب على كلّ من هو متديّن أصيل، ومن هو وطني صادق نبيل. * 3- إفراغ المنظومات التربوية، من محتواها الديني، والوطني، والثقافي، فأنشأت لنا جيلا مهزوز الشخصية، ميّت الضمير، فاقد التعبير، معصوب العقل، أعشى التوجه والتدبير. * 4- فرنسة اللسان، والجنان والحيطان، في التخاطب والإعلان، فضعف الانتماء، وهزل الاعتناء، وكفر من كفر بلغة الوطن والسماء. * 5- التشجيع على ازدواجية الجنسية، والشخصية، والعقدية، واللغوية، والجهوية في الانتماء الوطني، مما جسّد السلوك الذي لا يتم على أساس المصلحة الوطنية العليا، وإنما على أساس المصلحة الضيقة السفلى. * 6- تفشي الفساد بجميع أنواعه، العقلي، والسياسي، والإداري، والمالي دون وازع أو رقيب، فعرض المال العام للضياع، ومكن ذوي النفوس المريضة، من المتاجرة بالوطن، في مزاد سقط المتاع. * فهل يرجى لوطن هذه أعراضه، أن لا يقدم فيه، من هب ودب، على المتاجرة بوحدته، وترابه، وأغراضه؟ * إن داء فقد المناعة الوطنية والعقدية قد تفشى في عروق بعض المصابين بالسيدا الحضارية، وهو فيروس سريع الانتشار في الأجسام الهشة، كجسم وطننا، غير المحصن بالثوابت المقدسة. * ولا أجد من خاتمة استند إليها في هذا المستوى من التأمل، سوى ما قدمته لنا براعم المدرسة الإبراهيمية(1)، بحي الدارالبيضاء، بمناسبة توزيع جوائز حفظ القرآن، يوم الجمعة الماضي، في تقديمهم لنشرة جوية عن أحوالنا الإنسانية، جاء فيها: سجل مقياس درجة التقوى والوطنية، في ربوعنا، انخفاضا كبيرا في مستوى التدين، والانتماء الوطني، وهذا بسبب ارتفاع شدة البرودة في الوعي الوطني، والسلوك الإسلامي، وهو ما أدى إلى انتشار غيوم من الفتن والمكائد والمؤامرات، على الدين وعلى الوطن، فصحب ذلك زوابع من البدع السياسية الانفصالية، والخرافات الدينية، شوهت سمعة الوطن الموحد المتجانس، وتولد أعاصير فيها نار الأحقاد بين أبناء الوطن الواحد، وزلازل من الشحناء بين المسلمين. * أما توقعاتنا، بالرغم من كل هذا، فإن هذا الوطن، الذي ضحّى من أجله العلماء، والشهداء، وفيه الصالحون والمصلحون، سيعود إليه الصفاء، ويتحقق فيه الإخاء وسينقشع عن سمائه الضباب، مما سيمكن من رؤية هلال الوطن، وفجر الإسلام الصادق فيه. * كما ستتساقط بعض الزخات على القلوب الواعية المؤمنة، لنغسل الوطن من ألوان التلوث المتربصة به، وفي الصباح يحمد القوم السُّرى، كما يقول مثلنا العربي، ويسقط الساقط، ويبقى الصحيح. * --------------- * (1) هي مدرسة تحمل إسم إمام الجزائر محمد البشير الإبراهيمي، متخصصة في تحفيظ القرآن للذكور والإناث.