الأخبار الجيدة الوافدة من الأسواق النفطية تؤكد عودة أسعار النفط إلى الاستقرار مع ميل يتأكد أكثر فأكثر نحو الارتفاع تحت تأثير انتعاش الاقتصاد الصيني، وخاصة بسبب انضباط دول الأوبك في تنفيذ اتفاق خفض سقف الإنتاج، والتحاق دول من خارج المنظمة مثل روسيا بمبدأ إدارة الأسعار بالتحكم في سقف الإنتاج. وحتى مع التسليم بأن متوسط الأسعار المسجلة نهاية السنة الجارية (من 55 إلى 62 دولاراً) ماتزال دون سعر التوازن المنشود (70 إلى 75 دولاراً) فإن ثبات هذا المستوى سوف يُبعد عن كثير من الدول النفطية شبح الإفلاس، وانهيار احتياطاتها من العملة الصعبة، وما كان سيترتب عنها من العودة إلى الأسواق المالية للاقتراض، والاستسلام لبرامج صندوق النقد الدولي السالبة للسيادة. في الحالة الجزائرية سوف يترتب عن ثبات هذا التوجه في السنة القادمة إمكانية تنفيذ الميزانية مع الحفاظ على سقف الاحتياطي فوق المائة مليار دولار، ويسمح بنمو للدخل القومي الخام من 2 إلى 3 في المائة حسب بعض التقديرات، بما يعني بداية الخروج من عنق الزجاجة، وفشل بعض الرهانات التي كانت تبشر بحصول الانهيار والإفلاس قبل نهاية 2019. وفي مكان ما تكون الأزمة المالية التي مرت بها البلاد منذ 2015 قد أوجبت على صانع القرار البحث عن نموذج اقتصادي بديل يسمح بتنويع مصادر دخل الدولة وتمويل نشاطها المعتمد على عوائد المحروقات منذ الاستقلال بنسبة كانت دائما فوق ال95 في المائة، وكان يُفترض أن توسع دائرة البحث والتفكير في النموذج البديل خارج الدوائر البيروقراطية، وتشمل في الحد الأدنى الشركاء الاجتماعيين والمعارضة البرلمانية، لأن الخيارات التي اعتمدت في ما سُمي ب"النمط الاقتصادي الجديد" حتى سنة 2030 من شأنها أن ترهن الاقتصاد الوطني لخيارات سوف تهيكل الاقتصاد الوطني لعدَّة عقود قادمة. ونموذج الاقتصاد الجديد جاء في صيغة فاقدة للبُعد السياسي والاجتماعي، لم تأخذ في الحسبان فرص الاقتصاد الجزائري في التقسيم الدولي للعمل، كما لم تبحث بعمق في القطاعات الإستراتيجية القاطرة للاقتصاد وفق المقدرات المادية والبشرية التي تتوفر عليها البلاد، ولم تحسم الخيار حيال الانفتاح التام كما يحصل عند جيراننا في دول شمال إفريقيا بجميع مزاياه وأخطاره، وبين استمرار دور الدولة وقطاعها العمومي كمنشِّط رئيس للاقتصاد، بما فيه من مزايا وعيوب لم تصحِّحها فترة الانفتاح المحتشم منذ ثلاثة عقود. غياب رؤية استشرافية لموقعنا من زلازل عملية إعادة توزيع الأوراق التي سوف يشهدها العالم في السنوات القليلة القادمة، وانتقال مركز قيادة الاقتصاد العالمي من الغرب إلى الشرق، وبروز القارة الإفريقية كفاعل اقتصادي وسوق ضخمة، وحاجة القوى الاقتصادية الكبرى إلى منافذ آمنة لهذه السوق، سوف يحرمنا من لعب الدور الذي يليق بدولة لها ما للجزائر من مقدرات مادية وبشرية، ما لم نسارع إلى إخضاع النموذج الاقتصادي الجديد إلى رؤية سياسية تحظى بإجماع وطني واسع، يُخرج خطوطها العريضة من المزايدات السياسوية الضيقة ويضمن لها الديمومة والثبات. أمامنا سنتان قبل موعد رئاسيات 2019 لنجعل من هذا الموعد فرصة لاستعراض أفضل البدائل ليس فقط لبناء اقتصاد ما بعد النفط، بل للتفكير في بناء مجتمع ما بعد النفط، يراهن على الإنسان، وعلى الإبداع والعمل: المصدر الوحيد للثروة الصانعة للثروة.