عندما انهارت أسعار النفط إلى مستوى الثلاثين دولارا قبل نحو أربع سنوات لم تجد الحكومة من منفذ سوى اللجوء إلى مخرجين، الأول تبلور من خلال خطاب تخويفي قوامه عدم قدرة الدولة بإمكانياتها المتوفرة على حل مواجهة الأزمة في محاولة لتحضير الجزائريين لما هو أسوأ، أما المخرج الثاني فكان تبني سياسة تقشفية مبنية على فرض المزيد من الأعباء على الجزائريين، فكانت الضحية هي الفئات الهشة من المجتمع وما أكثرها.. واليوم تشهد أسعار النفط بعض التحسن، فقد ارتفعت بأكثر من الضعف لتصل إلى 70 دولارا للبرميل، فهل وصول الأسعار إلى هذا المستوى يحتم على الحكومة مراجعة خطابها السياسي وإعادة النظر في تدابيرها التقشفية؟ أم أن المرحلة تقتضي توجها مغايرا ينزع نحو دفع الجزائريين لمواجهة مصيرهم وعدم ربطه بالنفط؟ ولما فشلت استراتيجية الحكومات المتعاقبة في القضاء على تبعية الاقتصاد الوطني للمحروقات.. هذه الأسئلة وأخرى سيحاول "الملف السياسي" لهذا العدد الإجابة عليها.
تشهد انتعاشا وضعها فوق عتبة السبعين دولارا المواطن ضحية لانخفاض أسعار النفط.. فهل يستفيد عندما ترتفع؟ حققت أسعار النفط مكاسب كبيرة خلال الأشهر الأخيرة رفعتها إلى مستويات لم تصلها منذ أزيد من ثلاث سنوات، بعدما كانت في حدود الثلاثين دولارا للبرميل، تطور يفترض أن يكون قد وضع الحكومة في مستوى من الأريحية قد تساهم في تقليص هوة العجز المالي الذي تعاني منه الميزانية. وتجاوز سعر البرميل من خام "برانت" الذي ينتمي إليه النفط الجزائري، عتبة السبعين دولارا خلال الشهر الجاري، متجاوزا السعر المرجعي المحدد في قانون المالية 2018، بنحو عشرين دولارا للبرميل، غير أن انعكاس هذا الارتفاع لم يُر له أثر على واقع المواطن المطحون بثقل الأزمة. فعندما انهارت أسعار النفط إلى ما دون الثلاثين دولارا، عمدت الحكومة إلى خطاب تخويفي غير مسبوق، عاد بذاكرة الجزائريين إلى عشرية الثمانينيات، وكان ذلك الخطاب مقدمة لإجراءات غير شعبية، تمثلت في فرض أعباء إضافية على المواطن، جاءت في شكل ضرائب ورسوم جديدة كان لها أثر كبير على القدرة الشرائية للمواطن، مثلما لجأت الحكومة أيضا إلى زيادات في أسعار الكثير من المواد ذات الاستهلاك الواسع، منها الوقود بمختلف أنواعه. المبرر الذي رفعته الحكومة آنذاك لمواجهة الانتقادات التي طالت قراراتها تلك، كان مواجهة العجز الحاصل في الميزانية بسبب تراجع أسعار النفط، وهو القرار الذي اتخذ من باب أن المواطن عليه المساهمة في إنقاذ البلاد من الأزمة التي تعصف بها.. وها هي اليوم قد تجاوزت الأسعار عتبة السبعين دولارا للبرميل.. فهل هذا المستوى كاف لمراجعة الحكومة سياستها تجاه الفئات الهشة من المجتمع والتي تقدر بالملايين؟ وقد أدت الأزمة إلى مراجعة الدولة لسياستها الاجتماعية، حيث انخفض حجم التحويلات الاجتماعية من 26 مليار دولار إلى 16 مليار دولار فقط، وهو رقم كبير بالنظر لما تحصده الحكومة من الجباية النفطية بعد تراجع الأسعار، ومع ذلك يبقى هذا الرقم دون مستوى التزامات الدولة تجاه الجزائريين، مثلما رُسم في بيان أول نوفمبر (إقامة دولة اجتماعية ديمقراطية في إطار المبادئ الإسلامية). ويجمع الخبراء الاقتصاديون على أن ارتفاع أسعار النفط لا يمكنه أن يحقق الثروة ويصنع الرفاه المأمول مهما وصلت إليه، فقد سبق وأن ارتفعت الأسعار إلى مستويات قياسية ( 150 دولار للبرميل) قبل 2013، ومع ذلك لم ينعكس ذلك الارتفاع بالشكل المرجو على واقع الجزائريين. وينطلق أصحاب هذه المقاربة التي تنطوي على مصداقية كبيرة، من حقيقة مفادها أن من يصنع الثروة هو الاقتصاد المبني على المعرفة، في حين أن الاقتصاد الوطني يبقى ريعيا مترهلا وفاشلا بسبب تبعيته المطلقة لقطاع المحروقات، وهو ما يجعله رهينة لتطورات غير قابلة للتحكم حتى من قبل الدول العظمى.. ورغم الاستراتيجيات التي وضعتها الحكومات المتعاقبة على مدار سنين طويلة من أجل القضاء على تبعية الاقتصاد الوطني لقطاع المحروقات، إلا أن ذلك بقي مجرد حبر على ورق، فالصادرات خارج المحروقات تبقى في حدود 2 بالمائة في أحسن الأحوال، وبواقع 500 مليون دولار فقط، وهو رقم لا يتماشى إطلاقا مع مقومات البلاد وطاقاتها المتعددة، فضلا عن الدور الهدام الذي لعبته ظاهرة الفساد في القضاء على جميع محاولات النهوض. مثل هذه المعطيات، برأي مختصين، تحتم على الدولة بلورة خطاب واقعي وهادف، يروم إقناع الجزائريين بضرورة التكيف مع متطلبات المرحلة، قوامه المزيد من التضحية، غير أن نجاح مثل هذا المسعى يجب ألا ينطلق من الواقع الحالي والذي يعج بالكثير من التناقضات، والذي يطبعه صعود مئات إن لم نقل آلاف "الميليارديرات" من العدم، وهو أمر من شأنه أن يحطم ما تبقى من جسور الثقة بين المواطن والدولة.
الخبير الاقتصادي إسماعيل لالماس ل"الشروق": المواطن آخر من يستفيد عندما يرتفع سعر النفط تجاوزت أسعار النفط عتبة ال70 دولارا للبرميل بعد ما كانت في حدود الثلاثين دولارا قبل أزيد من سنتين.. ماذا يعني هذا بالنسبة للاقتصاد الوطني؟ في البداية، يجب التأكيد على أن سعر البترول في السوق الدولية غير مستقر، حيث يشهد منذ سنوات تذبذبا راجعا لعدة عوامل مفهومة وأحيانا غير مفهومة، لكن الشيء المؤكد هو أن هذا الارتفاع الذي وصل لحدود 70 دولارا للبرميل خلال الأشهر القليلة الأخيرة، يعتبر تطورا ايجابيا نوعا ما على الاقتصاد الوطني.. وينتظر أن يساهم هذا المعطى في التقليل من عجز الخزينة العمومية، علما أن السعر المرجعي في قانون المالية لسنة 2018 حدد ب50 دولارا للبرميل، وبالتالي هذه الزيادة سوف تسمح بإعادة إنعاش صندوق ضبط الإيرادات المتضرر من تراجع الأسعار، ومن ثم التخفيف من حجم الأزمة المالية. خطاب الحكومة التخويفي من تراجع أسعار النفط لا زال مستمرا بالرغم من ارتفاع الأسعار بأكثر من الضعف.. هل هذا مبرر؟ وما خلفيات ذلك؟ تطور الاقتصاد ليس مرتبطا بسعر البترول، حتى وإن وصل سعره إلى 140 مليار دولار لبرميل كما حصل في السابق، فهذه الزيادة لم تخدم الاقتصاد الوطني بسبب سوء التسيير وانعدام الرؤية المستقبلية، وبالتالي انخفاض أو ارتفاع سعر برميل البترول إن لم يكن متبوعا بحلول جذرية من شأنها تحرير الاقتصاد والخروج من التبعية فلن يتحقق الهدف المسطر، لا سيما وأن ارتفاع الأسعار في السوق الدولية يعتبر ظرفيا، وأعتقد أن أزمة الجزائر تكمن في النموذج الاقتصادي المتبع والمبني على اقتصاد الريع وهو ما يجعله هشا غير قادر على موجهة الأزمات الاقتصادية، الأمر الذي جعل الحكومة تلجأ إلى الخطاب التخويفي وتستمر فيه بالرغم من تغير أسعار النفط، لأنه وبكل بساطة ليس لدينا اقتصاد وطني حقيقي يمكن له مواجهة الأزمة الاقتصادية الناجمة عن هذا التراجع. عندما انهارت أسعار النفط لجأت الحكومة إلى التقليص من أعبائها، وذلك بتحميل الجزائريين جزء منها.. ألا يساهم ارتفاع الأسعار في التخفيف من تلك الأعباء على المواطن؟ في الحقيقة إن من بين الوسائل التي اعتمدتها الحكومة للخروج من الأزمة المالية التي أعقبت تراجع أسعار البترول، هو فرض زيادات جديدة على المواطن في شكل ضرائب لمواجهة العجز في الميزانية، وهو الأمر الذي أدى إلى المساس بالقدرة الشرائية للمواطن، حيث نلاحظ أن الحكومة تعالج الأزمة بأزمة أخرى تكون عبر حلول ترقيعية ليست كفيلة بحل المشكل، ومن الطبيعي في مثل هذه الظروف أن يكون أول الضحايا هو المواطن الذي لم يستفد يوما من ارتفاع أسعار البترول. هناك من يقول إن المنطق الذي تسير وفقه الحكومة يقوم على مقاربة مفادها أن المواطن يتضرر عندما تنهار الأسعار ولا يستفيد عندما ترتفع.. ما قولكم؟ بالفعل، البحبوحة المالية التي عرفتها الجزائر منذ سنوات بعد وصول سعر برميل البترول إلى أعلى مستوياته، والتي قاربت 150 دولار، لم يغير شيئا في دخل الفرد الجزائري الذي لا يزال يعاني من أوضاع صعبة، وهنا يمكن القول إن الانخفاض في أسعار النفط أثر على المواطن، عكس الزيادة التي استفادت منها فئة من المجتمع دون غيرها، فهناك توزيع غير عادل لثروة في البلاد. هل تتوقعون لجوء الحكومة إلى قانون مالية تكميلي يتماشى والمستوى الذي وصلت إليه أسعار النفط.. بمعنى التراجع عن بعض الإجراءات المرفوضة شعبيا؟ قانون المالية التكميلي في هذه الحالة مستبعد، لا سيما وان أسعار النفط في العالم متذبذبة، وبالتالي لا يمكن للحكومة المجازفة بقانون مالية تكميلي، لكن مع اقتراب موعد الرئاسيات في 2019 ستعمل الحكومة بكل جهدها حتى لا تتأثر القدرة الشرائية للمواطن، حيث ينتظر أن يتم فرض إجراءات جديدة لاحتواء الجبهة الاجتماعية في ظل توسع رقعة الاحتجاجات، لذا ينتظر أن تحدث زيادات جديدة في الأجور لدى بعض القطاعات على غرار الصحة والجيش والتربية، التي تشهد غليانا.
الخبير النفطي عبد الرحمن مبتول: "ارتفاع سعر البترول يحتم وقف طبع النقود" ارتفعت أسعار النفط لتتجاوز ال 70 دولارا للبرميل بعدما كانت في حدود الثلاثين دولارا قبل أزيد من سنتين.. ماذا يعني هذا بالنسبة للاقتصاد الوطني؟ توجد 10 أسباب تقف اليوم وراء ارتفاع أسعار البترول أو انخفاضه، وهي تزامن هذه الفترة مع مرحلة فصل الشتاء، والتي يكثر فيها الطلب على المحروقات، وزيادة نسبة النمو في العالم وفقا لتقرير البنك الدولي، وبالدرجة الأولى الصين وبالتالي تضاعف الطلب، والسبب الثالث هو احترام الكوطة المتفق عليها في اجتماع منظمة الدول المنتجة والمصدرة للنفط أوبك سنة 2016، والاتفاق أيضا بين العربية السعودية وروسيا، والوضع السياسي في السعودية والذي لا يزال غامضا، بفعل حركات مكافحة الفساد، وبيع 5 بالمائة من أسهم شركة ارامكو، والضغط في ليبيا وكردستان ونيجيريا، وانخفاض الإنتاج في فنزويلا وطبيعة الضغط بين السعودية وإيران، ومعدل سعر صرف الدولار أمام الأورو وانخفاض أو ارتفاع المخزون الأمريكي، ويتعلق الأمر بالنفط الصخري، وبالتالي فإنه في حال تحققت كافة هذه المؤشرات، كما ينبغي، سيستمر ارتفاع سعر البترول وسيتأثر الاقتصاد الجزائري إيجابا. خطاب الحكومة التخويفي من تراجع أسعار النفط لا زال مستمرا بالرغم من ارتفاع الأسعار بأكثر من الضعف.. هل هذا مبرر؟ وما خلفيات ذلك؟ نعتقد أن الخطاب التخويفي سيؤدي بالضرورة إلى انفجار اجتماعي ولذلك لابد من القيام بإصلاحات جذرية وهيكلية بدل الاكتفاء بمجرد التخويف، وحتى تصريحات الحكومة نرى أنها تحمل الكثير من التناقض حينما يتم الحديث عن المساواة بين سعر صرف الدينار بالسوقين الرسمية وغير الرسمية، وهذا أمر خطير، وعلى العموم المؤشرات الاقتصادية اليوم غير مخيفة حينما نقول أن احتياطي الصرف تبّقى به نهاية ديسمبر الماضي 95 أو 96 مليار دولار، وكذا المديونية الخارجية التي تناهز اليوم 6 مليارات دولار. عندما انهارت أسعار النفط لجأت الحكومة إلى التقليص من أعبائها وذلك بتحميل الجزائريين جزءا منها.. ألا يساهم ارتفاع الأسعار في التخفيف من تلك الأعباء على المواطن؟ يجب أن لا يعيش الجزائريون حالة من الوهم والخيال، بالرغم من أن قانون المالية لسنة 2018 مبني على أساس سعر مرجعي للبترول يعادل 50 دولارا للبرميل، وكل دولار إضافي تربحه الخزينة يضخ في غضون سنة ما بين 500 و600 مليون دولار، وبالتالي فإنه بمعدل 10 دولارات إضافية في السعر ستضخ في خزينة الدولة 5 أو 6 مليارات دولار، الأمر الذي يجب استغلاله لوقف عملية طبع النقود التي ستؤدي بنا إلى مزيد من التضخم والتعويم للدينار وتكرار السيناريو الفنزويلي وهو الأمر الذي بتنا نلتمسه من الآن. هناك من يقول إن المنطق الذي تسير وفقه الحكومة يقوم على مقاربة مفادها أن المواطن يتضرر عندما تنهار الأسعار ولا يستفيد عندما ترتفع.. ما قولكم؟ على الجزائريين أن يدركوا أن زمن البحبوحة قد ولى، وأن يتيقنوا أن النفط مهما حصل من تطورات، فلن يعود إلى سالف عصره عندما كان في حدود 110 دولار للبرميل، أنا أقول على الجزائريين أن يبتعدون عن العيش في الخيال، ويجب عليهم أن ينتظروا إلى شهر ماي المقبل ليتبين كل شيء، عندما ينقضي فصل الشتاء وتزول الأسباب الظرفية لارتفاع سعر النفط، هنالك فقط يمكن استقراء الوضع، مع العلم أن سعر البرميل لن يرتفع أكثر من 70 دولارا، ويجب أيضا التفكير في سعر الغاز الذي يمثل ثلثي مداخيل سوناطراك والذي يشهد انخفاضا غير مسبوق. هل تتوقعون لجوء الحكومة إلى قانون مالية تكميلي يتماشى والمستوى الذي وصلت إليه أسعار النفط.. بمعنى التراجع عن بعض الإجراءات المرفوضة شعبيا؟ لا يمكنني الحديث عن قانون المالية التكميلي، بحكم أنه خارج اختصاصي وصلاحياتي، فهذا من صلاحيات الحكومة وخياراتها، ولكن ما سمعته هو أن وزراء في الحكومة الحالية يقولون إنه مستبعد على غرار ما أدلى به وزير التجارة محمد بن مرادي قبل يومين، وهو الأقرب إلى الواقع.