رغم أن الذاكرة كباقي أعضاء الجسد، تصاب أحيانا بالإرهاق وتتعب، أو تفقد وظيفتها وتصبح عاطلة عن العمل، إلا أنها تبقى أبدا، المسؤولة الأولى والوحيدة، عن إبقاء صلتنا بما مرّ من الزمن، خيره وشره، أو بما فات من العمر والحياة. * هذه حقيقة لا جدال فيها.. ولكن لماذا لا تبقينا هذه الذاكرة، على صلة بجمال الحياة وحلاوتها، إلا عندما نتذكر زمن طوفلتنا، وما كان يحمله من معاني الصّفاء والنقاء والطهر والسذاجة؟ * هل لأن هذا الطور من حياتنا هو "العلامة المسجلة" التي تستطيع وحدها، التعبير عن هويتنا الأصلية الرائعة، وجمال فطرتنا الأولى، بعد تحولنا في زحمة الحياة اللاهثة، وغبار الأعوام الملوثة، إلى مسخ لا هوية له ولا عنوان؟ * قد لا أعرف الجواب عن وجه الدقة، لكن أعرف، أنني كلما تذكرت زمن طفولتي الغابر، تمنيت لو أن العمر توقف عنده ولم يتقدم خطوة، حتى لا أكتشف بعد الخمسين أنني فقدت الكثير من طهر طفولتي الأجمل، ونقاء فطرتي الأروع، وأصبحت كملايين الناس بلا براءة!! * وقفت على شاطىء البحر، أرسل الطرف بعيدا، حيث تنحدر شمس الأصيل رويدا رويدا، لتغيب في الأفق الملون بألوان الشفق، وتساءلت إذ ذاك: * لماذا لا يعود إلي زمن طفولتي، كما ستعود غدا هذه الشمس بعد أن تغيب؟ * كنت على يقين أن زمن العمر، حركة دائبة لا تتوقف، ولا ترجع إلى الخلف، لكن كان من الصعب أن أمتنع عن الارتماء في أحضان الذي فات، وأتمنى من كل قلبي أن يعود. * شعرت كأن عينا من الأماني الجميلة، انفجرت في قلبي، وبدأت تسيل قطرات راشحة، أوشكت أن تتحول نهرا كاسحا. * تمنيت لو أن ذلك الزمن يعود، لأعيد لداخلي أجزاءه المبتورة، وتفاصيله المنثورة حوله كقطع الزجاج المكسر. * تمنيت لو أنني أستطيع أن أعيد لداخلي، ذلك الطفل الطيب، الذي كان يرسم خريطة هذا الوطن على شكل حبّة حلوى، ويذيب حب هذا الوطن في حليبه الصباحي، قطعة سكر، ثم يطير كل مساء مع العصافير، ليقطع المسافات الخرافية، ويحلق على ارتفاع ثلاثين ألف قدم!! * تمنيت لو أنني كنت أستطيع أن أعيد إلي، ذلك الطفل الأبيض، الذي كان يتشاجر مع أولاد الحارة، ويحلف على ألا يعود للعب معهم، لكنه يعود بعد ساعة، لأنه لم يكن يعرف الضغينة الدائمة والقلب الأسود والحقد الموصول، وكل المشاعر الرديئة التي جعلتنا بعد الكبر، ضيّقي العاطفة، لا نألف إلا القليلين ممن هم على شاكلتنا في المزاج، أو من يتفقون معنا في الأهداف. * تمنيت لو أنني كنت أستطيع أن أعيد لداخلي ذلك الطفل الذي كان يحبّ من دون مقابل، وطيد الرجاء في حب الآخرين له وحسب.. تمنيت ذلك بعد أن انتقل الحب من القلوب إلى الجيوب، وأصبح معروضا للبيع في الأسواق كأي خردة!! * تمنيت ذلك، بعد أن أصبح هذا الوطن منكوبا بصنف من الناس، لا يحبون المرأة إلا الجسد، ويظلون يدورون حول هذا الهدف، حتى يغلبهم الإعياء، أو تدركهم الشيخوخة فيموتون كما تموت الحمير التي قضت حياتها مربوطة بعربات القمامة في حي القصبة!! * وبعد.. * انتهت القصة، وأدركت في لحظة وعي، أنني كنت أنضح عفافا، حين كنت أتمنى عودة زمن طفولتي، لأنها تعني العودة إلى المستوى الأكرم والأطيب والأطهر. * وقد يزيد إصراري على هذا التمني، وتزيد حاجتي إليه، ولربما حاجة كل العقلاء، كلما اكتشفنا أن تقدمنا في العمر، لم يكن باتجاه اكتمال العقل والعاطفة والبدن، أو رسوخا في الفضائل والنبل والكرم، إنما كان أسير عقد نفسية، وأثرة حادة، وشخصية مزدوجة، وحياة لا بركة فيها ولا طهر ولا عفاف. * وحين نتمنى عودة طفولتنا في هذه الحالة، نكون قد كذبنا من شدة الصدق، وطوينا جوانحنا على نوع من الكذب لا يفهه إلا الحالمون.. وكل رمضان وأنتم بخير.