ما يجري في لبنان وفلسطين والعراق وأفغانستان.. مظاهر متعددة لوجه واحد، وجه عالم قائم على قرن ثور هو الثور الأمريكي. كان فوكوياما قد أنذر العالمين منذ أواخر 1989، بخروج هذا الثور من زريبته ليصنع التاريخ بوجهه الأحمر، وجه القوة الهوجاء التي يحركها منذ الأزل منطق بسيط: "أنا الأقوى اليوم. إذن أفعل بك ما أشاء! لأنك إذا أصبحت قويا غدا ستعاملني بنفس الطريقة"! بقلم محمد عباس هذا المنطق أفرغ كل الأشياء من محتوياتها، ما عدا القوة الهوجاء طبعا. أفرغ المنظمات الأممية والجهوية والإقليمية، كما أفرغ الأنظمة العربية التي لم تعد قادرة حتى على الاجتماع، رغم أنه درجة دون درجة أضعف الإيمان! ربما كانت هذه الأنظمة العربية المفرغة من مادتها الحيوية على حق بالنظر إلى منطق القوة وحده، لأنها أدرى من غيرها بذريع فشلها في إعداد العدة للدفاع عن أوطانها وضمان أمن شعوبها، هذا الفشل الذي جعل من ديارنا وأبنائنا مساحة للعدوان النزواتي، لتجربة أحدث أسلحة الدمار مباشرة على الإنسان الذي أصبح مجرد جرذ من جرذان المخابر الأمريكية الصهيونية المفتوحة. طبعا يبدو العدوان على لبنان "نزواتي" بالنظر إلى ذريعته المعلنة: تحرير أسيرين إسرائيليين في كمين نصب على أرض لبنانية أو سورية. لكن الحقيقة غير ذلك، فالعدوان مبرمج منذ أكثر من سنة: مبرمج في قرار مجلس الأمن رقم 1559 الصادر في سبتمبر 2004 والداعي إلى تجريد المقاومة اللبنانية من سلاحها. مبرمج في محاولة تطبيق هذا القرار على الساخن من خلال سلسلة الاغتيالات التي توجت باغتيال الوزير الأول رفيق الحريري. هذا الاغتيال الذي يجعلنا على ضوء العدوان الجاري نعيد طرح السؤال التقليدي: "ترى من المستفيد من الجريمة؟!" وحسب السياسي الوزير جورج قرم، فإن القرار الأممي المذكور هو مفتاح العدوان على وطنه لبنان، هذا العدوان الهادف إلى تطبيق مخطط أمريكي إسرائيلي بمباركة فرنسية أوروبية طبعا في خنق أنفاس المقاومة من كابول إلى غزة مرورا بلبنان وربما طمعا كذلك في استدراج سوريا وإيران إلى معركة غير متكافئة. بهدف تعطيل حركة التنمية في كل منهما خمسين سنة أو أكثر. نحن إذن أمام بوادر حرب وقائية جديدة، مثل الحروب السابقة التي يبدو أنها حققت بعض نتائجها، كترويض الأردن ومصر وربما الجزائر بالإضافة إلى السعودية التي تم ترويضها بمجرد التهديد بالحرب الوقائية! لكن التاريخ يمكن أن يثأر لنفسه من فوكوياما الذي تنبأ بنهايته، من خلال تحنيطه في شكل أعلى هو النموذج الأمريكي القائم! فللتاريخ منطق آخر: منطق الديمومة الذي يهزم منطق القوة مهما طغت وطال جبروتها. إن مبالغة التحالف الأمريكي الصهيوني في استعمال القوة دليل ضعف، لأنها باختصار علامة جبن.. ويليق بنا في هذا السياق أن نستعين برأي أحد الفلاسفة القدامى في هذه المسألة بالذات، وهو من امبراطورية روما التي تحاول أمريكا أن تتشبه بها اليوم.. يقول هذا الحكيم القديم: "عندما تتجاوز القوة حدا معينا تفقد فعاليتها وتنتحر".... فالعدوان على لبنان بهذه الوحشية لأبسط الأسباب المعلنة هو بدون شك مظهر من مظاهر انتحار هذه القوة التي تبدد دون أن تشعر رصيدها من الهيبة والردع، من خلال تعريض نفسها لمقاومة عنيدة انتحارية بالمعنى الإيجابي مصداقا لمنطق التاريخ. فالشيطان الصهيوني مثل الثور الأمريكي أصبح في متناول حزب الله الذي يمكن بصموده التاريخي أن يقلب معادلة القوة رأسا على عقب: فهذا الصمود يمكن أن يغذي خميرة المقاومة في الشام كلها، وقد تزكى بشكل طبيعي لتشمل الوطن العربي كله.. ضمن هذه الآفاق يمكن للتاريخ أن يثأر لنفسه بطريقة أكثر وضوحا: تمييع القوة الأمريكية في صيرورة الزمان وزلازل المكان، التي يمكن لموجاتها أن تضرب في نيويورك أو سان فرانسيسكو! وعلى خبراء القوة في أمريكا ألا يسقطوا من حسابهم أن خميرة المقاومة يمكن أن تنتقل عدوانها من جديد لتعبر المحيط الأطلسي، وتتخذ من أمريكا اللاتينية بل من بحر الكراييب منطلقا لتحد قريبا جدا من مراكز القوة الأمريكية. "فالزلزال الأعظم" الذي تتوقعه واشنطن من "المحيط الهادي"، قد يفاجئنا من أمريكا اللاتينية... ونعود مرة أخرى لمنطق التاريخ نكاية في فوكوياما! لنقول إن القوة المادية زائلة، بدليل زوال الإمبراطوريات في قديم الزمان وحديثه، وبنفس المنطق نذكر بمثلنا الشعبي القائل: "العود المحڤور.. يكسر أو يعمي"