ماذا نفعل إزاء ما يجري الآن في لبنان؟ ذلكم هو واحد من الأسئلة المحيّرة لسائله أولا وللمطالب بالإجابة عنه ثانيا. ماذا يجب علينا أن نفعل إزاء جرائم التقتيل والتدمير والتهجير المسلطة على اللبنانيين؟ اللبنانيون أشقاؤنا، وما يتعرضون له منذ أيام يستدعي التحرك. لكن كيف نتحرك وماذا يمكننا فعله؟ سؤال محيّر فعلا. لكن هل نحن مطالبون بالإجابة عنه؟ الوضع يقتضي ذلك، لكنني بعد طول تفكير وبعد محاولات عديدة أدركت أن السؤال ليس محيرا فقط، بل ربما كان مفخّخا أيضا، لأن كل جواب أو محاولة جواب عليه تظهر هي الأخرى محيرة. ومع ذلك، دعونا نعيد المحاولة لعلنا نجد جوابا شافيا نقنع به أنفسنا والآخرين خضير بوقايلة ماذا نفعل؟ على أي صعيد؟ وكيف؟ هل نحن مطالبون فعلا بأن نفعل شيئا؟ هل طلب منا اللبنانيون ذلك؟ هل علينا أن ننتظر من اللبنانيين أن يطلبوا منا شيئا حتى نتحرك؟ أم لعل الأجدر بنا أن نبادر إلى التحرك ولو طلب منا اللبنانيون عدم التحرك؟ هل علينا أن ننسق تحركنا أم نترك ذلك للمبادرات الشخصية؟ الجواب البديهي لهذا السؤال المحيّر (فعلا) هو الانضمام لصفوف المقاومة والوقوف بالفعل لا بالقول إلى جانب الأشقاء في لبنان. جواب منطقي، لكنه هو الآخر محاط بكذا سؤال عن سبل وكيفية تحقيق ذلك. من هو هذا الشخص الذي يملك الشجاعة فعلا ليزج نفسه في أتون الحرب وهو يعلم أنه لو أخلص في مسعاه فإن مصيره لن يخرج كثيرا عن ما هو معروف؟ لعلهم كثرٌ هؤلاء المستعدين لهذه الخطوة. كُثرٌ بالنسبة إلى ماذا؟ هل هم كل الناقمين على الوضع؟ أم هم أدنى من ذلك بكثير؟ هل هم الذين يجهرون بذلك في التجمعات والمظاهرات والتجمعات على قلّتها؟ أم هم أدنى وأدنى من ذلك بكثير؟ لنفرض إذن أن هناك من هو مستعد فعلا لتحويل أقواله إلى أفعال. هل علينا أن نبحث عن أسباب اختيارهم سلوك هذا الطريق؟ السؤال مشروع في هذا المقام (التساؤلي). فلنستمرّ إذن، هل هؤلاء يتحركون عن قناعات دينية أم إنسانية؟ كم يوجد من بين هؤلاء من يحاول أن يذهب إلى خط النار لأنه يعتقد أن ذلك سيخلّصه من الجحيم الذي هو فيه؟ وكم من بين هؤلاء من يتحرك فعلا ويفي بالوعد؟ وهل هؤلاء الذين يتجاوزون كل هذه الأسئلة يستطيعون أن يجهروا بما ينوون فعله؟ وبعد ذلك من يتمكن فعلا من الوصول إلى خط النار قبل أن يقع في قبضة حاكم حريص على سلامة شعبه ولا يتورع مقابل ذلك عن ردع هذا المغامر ولو اقتضى ذلك إدخاله السجن ثم محاكمته بتهمة الإصرار على قتل نفس بريئة؟ هل بقي لنا شيئا نفعله بعد هذا؟ طبعا هناك الكثير الكثيرُ من المبادرات الطيبة. وقد لا يتّسع المقام ولا العقل البشري لحصرها كلها؟ أول القائمة هو الإكثار من اللغط وتلويث الجوّ (الملوّث أصلا) بالمزيد من المظاهرات والخطب العصماء وقصائد الهجاء والمديح. هناك أيضا بيانات التنديد ولقاءات القمم المصغرة والقمة الموسعة والزيارات المكوكية في كل الاتجاهات والمكالمات الهاتفية المطولة والمختصرة لبحث الوضع الراهن وتبادل وجهات النظر في سبل وقف المعاناة عن الشعب المقهور وردع المعتدي وشد يده. هناك أيضا حملة الكلام غير المباح المفتوحة لكل الناس عبر الفضائيات ومحطات الإذاعة والصحف والتجمعات، كل يدلي بدلوه والقافلة تسير. وعندما تنطلق آلة الكلام الجهنمية لا أحد يقدر على إيقافها، والويل الويل لمن يحاول التصدي لها أو مخالفة تحويل مسارها. الحملة انطلقت ولا بد أن تكمل المسير إلى أن يُؤذن لها. كل الناس مشغولون ومهتمون بما يجري في لبنان هذه الأيام، الصحف تجند طاقمها العامل وتلغي التبويب الكلاسيكي فاسحة المجال لمزيد من التحاليل والأخبار والصور الخاصة بالوضع هناك.. المبيعات تزداد وتزداد معها الرغبة في مواصلة الكلام لإشباع رغبة القارئ الجامحة المهتم بالوضع. التلفزيونات والإذاعات تستنفر قواعدها وتلغي إجازات العاملين فيها وتستدعي من هم في إجازة، الوضع خطير ولا بد أن يكون الجميع مجنّدين، ولا نعني هنا بالتجنيد معناه الكلاسيكي، بل التجنيد لبث المزيد من الأخبار والتغطيات ونقل المزيد من صور الدمار والقتل ومحاورة المزيد من المختصين والخبراء الحربيين والمحللين الاستراتيجيين والأكاديميين البارزين الذين قطعوا هم أيضا إجازاتهم مشكورين لتنوير الرأي العام ووضعه في الصورة وإعلامه بحقيقة ما يجري على الساحة. كلام الناس في الشارع وفي أماكن العمل وخلال المكالمات الهاتفية والنقاشات العائلية لا موضوع له إلا موضوع الساعة، وضع لا يختلف كثيرا عن الذي عشناه قبل أسابيع قليلة مع مواكبة مجريات بطولة كأس العالم لكرة القدم. كل وسائل الإعلام وتوابعها مجندة للحدث وأنفاس الناس محبوسة أمام الحدث. من سجل الهدف الأول ومن سجل هدف التعادل ومن نطح الآخر وكيف كان مسار النطحة وتأثيرها على المنطوح وعلى الوضع بصورة عامة. من يقف إلى صف هذا الفريق ومن يقف ضد الآخر. متعة كبيرة لم يشأ الإسرائيليون أن يحرمونا منها. والحق أنهم نجحوا في شد اهتمامنا وتوحيد تركيزنا حول قضية واحدة. لكن علينا أن نعترف أن التركيز يخوننا من حين لآخر، فنحن بشر من طين وجلّ من لا يسهو ولا ينام. علينا أن نعترف أننا من حين لآخر نجد أنفسنا مجبرين على تحويل اهتمامنا، فنحن بشر لا بد أن ننام بضع ساعات لنستفيق لمواكبة الأحداث بتركيز أحسن واهتمام أوسع. نحن بشر لا بدّ أن نتقوّت حتى نستطيع الحفاظ على يقظتنا أمام التطورات المتواكبة على الساحة. نحن بشر ولا بد أن نضعف مرة أو مرتين أمام هول ما نراه وإن لم نفعل ذلك لقوة فينا فإننا مطالبون بالحرص على نفوس وأحاسيس أولادنا المرهفة. وعندما ننام أو نأكل أو نتضايق من صور الرعب والدمار والدماء المتدفقة لا بد أن نتوقف عن المتابعة ونطوي الصحيفة أو نضغط على الريموت كونترول لنغير مجال الحديث أو لنغلق التلفزيون أو جاهز الراديو أصلا ما دام أغلب الكلام عن موضوع واحد. قررت هذا الأسبوع أن أوجز المقال حتى لا أسقط في فخ اللف والدوران، لكنني أجد نفسي في نفس الدوامة. وبما أنني مجبر على التوقف لأترككم ترتشفون قهوتكم دون صداع، فإنني أطرح سؤالا أخيرا. هل اتفقنا على جواب للسؤال المحير؟ ماذا نفعل إزاء الوضع في لبنان؟ شخصيا أعتقد أننا نفعل الكثير. فنحن نندد ونتأسف ونتحسر ونغضب ونضحي بإجازاتنا وبأوقات نومنا لنتابع ما يفعله الآخرون. هم يفعلون ونحن نفعل أيضا وأعتقد أن المعركة متكافئة، ونحن في النهاية منتصرون. تماما مثلما انتصرنا في فلسطين وفي الجولان وفي كل مكان. مبروك علينا هذا الإنجاز العظيم وإلى المزيد. kbougaila@gmail.com