يدّعون الراديكالية، يغنون عن الفقر، الحقرة، التهميش، الفساد السياسي وأوضاع "الزوالية" .. ولكنهم بمجرد أن يشتهروا، يلينون خطابهم ويدخلون بيت الطاعة ليتحولوا إلى كائنات أليفة لا تؤذي أحدا بأصواتها .. يبسطون كل شيء: التاريخ، الجغرافيا، السياسة وحتى الفتوى الدينية.. ينتقدون "الراي" ولكنهم يتسابقون للغناء مع نجومه.. هؤلاء هم نجوم الراب الجزائري، وإذا كان مشاهير الراب الأمريكي أمثال "توباك" و"نوتوريوزبيغ" قد تعرضوا للإغتيال سنتي 1996 و 1997 على التوالي، فليس ذلك بسبب حرب العصابات التي كانت بين ما يعرف ب "الكوت آست" و"الكوت واست" فحسب، والتي اتخذتها مصالح "الأفبياي" الأمريكية ذريعة لتصفيتهما، بل وبالدرجة الأولى بسبب خطابهم الراديكالي الموجه بشكل مباشر ضد النظام الأمريكي، وكذلك قوة تأثير نجوم الراب الأمريكيين على مجتمعهم.. فأشهر ألبوم للراب في الجزائر لم تتجاوز مبيعاته 60 ألف شريط بينما وصلت مبيعات بعض الألبومات في الولاياتالمتحدة إلى خمسة ملايين نسخة.. فهل يمكن أن يكون ذلك دليلا على أن الراب الجزائري ليس له جمهور وبالتالي ليس له سوق ولا تأثير على المجتمع ؟. تحقيق : سعيد جاب الخير موسيقى الراب مرتبطة أساسا بثقافة "الهيب هوب" كما ظهرت في بلدها الأصلي الولاياتالمتحدةالأمريكية ،و قصة الراب في العالم بدأت نهاية الستينيات من القرن الماضي في أمريكا، مع مجموعة من المناضلين السود الذين استطاعوا تحويل غضبهم على الواقع إلى ألحان وإيقاعات تحمل خطابا راديكاليا بأفكار بسيطة وعبارات قصيرة. لكن الأب الحقيقي المؤسس لثقافة "الهيب هوب" هو "كلايف كامبل" الشهير باسم "كول هارك" المهاجر الجمايكي الذي كان أول من غنى الراب سنة 1973 في قبو العمارة التي يسكنها بمدينة نيويورك، وكان ذلك بمناسبة عيد ميلاد أخته. وقد صدرت أول أسطوانة للراب سنة 1979 في الولاياتالمتحدة. وتقوم ثقافة "الهيب هوب" التي يندرج تحتها الراب على أربعة أعمدة أساسية : الغرافيتي أو الجداريات، البريكدانس، الديجينغ، والراب. ثورة على ثورة ! إذا كان الراب الأمريكي بالأساس خطاب احتجاجي راديكالي ضد أوضاع تكرس التهميش والعنصرية، فقد تطور أيضا في شكل تعبير عن يوميات حرب العصابات بين مجموعات الأحياء الهامشية التي يسكنها السود والمهاجرون في الغالب. غير أن دماء "شهداء" الراب، إن كان للراب شهداء، أمثال "توباك"و"نوتوريوزبيغ" هي التي سمحت لأسماء أخرى جاءت من بعدها أن تجني ثمار "الثورة" لتصل مبيعات ألبوماتها وتنافس "مادونا" على عرش الخمسة ملايين نسخة. لكن الخطاب "التوباكي" و"النوتوريوزبيغي" العصبوي الراديكالي الذي كان يملك الجرأة على الغناء بالأسلحة والذخيرة الحية على شاشات التلفزيون، تحول مع ظهور الأسماء والوجوه الجديدة أمثال إيمينام، إلى ثورة جديدة داخل الثورة القديمة، لكنها ثورة من نوع آخر، ثورة على الأخلاق هذه المرة .. فهل كانت هذه الثورة خالصة أم أنها إحدى الطبخات الجاهزة التي حدثت تحت الطلب ؟ تصوروا أن إيمينام، أبيض البشرة وأزرق العينين، الذي يصف الصراعات العصبوية لزميليه "توباك" و"نوتوريوزبيغ" بالمهاترات التافهة، يصل به الحد إلى إعلان مثليته الجنسية في حفلاته على الملأ (وهذه شجاعة كبيرة قل من يتجرأ عليها) بل وشتم والدته ووصفها بأبشع ما يمكن أن توصف به امرأة على الإطلاق في أحد ألبوماته.. الموسيقى التي أفقدت شيراك أعصابه بوصف فرنسا بلد الجن والملائكة كما يقول طه حسين، فإن رحلة الراب من نيويورك إلى باريس كانت بطيئة نوعا ما، حيث لم يظهر أول ألبوم إلا مع منتصف الثمانينيات من القرن الماضي. وإذا كان الراب الأمريكي يعبر عن الثورة ضد العنصرية والأخلاق التقليدية للرجل الأبيض بالدرجة الأولى، فإن الراب الفرنسي كان ثورة ضد التهميش والإقصاء وتعبيرا في الوقت نفسه عن أزمة الهوية التي يعيشها أبناء الضواحي أو ما يطلق عليه اليمين الفرنسي"الأحياء الصعبة" التي تسكنها الأجيال الجديدة من أبناء المهاجرين من مختلف الأصول، وسط مجتمع يصر على الكيل بمكيالين .. غير أن الراب الفرنسي تميز بخطاب "أكثر توازنا" من الراب الأمريكي، حتى وإن وصلت الجرأة بفرقة مثل NTM" " إلى شتم الرئيس شيراك الذي كان من الرؤساء القلائل الذين رفعوا دعوات قضائية ضد مغنيي الراب. وتميز خطاب الراب الفرنسي بمحاولة إقناع الجمهور المتلقي والطبقة السياسية المستهدفة من أجل دفعها إلى التحرك لمصلحة أبناء الضواحي من خلال التركيز على الظلم الاجتماعي، العنصرية، العنف، واقع الضواحي، الشرطة، المال، المخدرات، الجنس... وبما أن المجتمع الفرنسي من خلال إدارته، عمل على تهميش شباب الضواحي، فقد عمل هؤلاء على صناعة مجتمع خاص بهم داخل المجتمع الفرنسي، مجتمع له قواعده الخاصة به وزعماؤه. ومن خلال سلاح الراب تمكن أبناء الضواحي من الحصول على الاعتراف الرسمي بهويتهم. وفي فرنسا اشتهرت العديد من الفرق من بينها : باسي.إي أم ، جوي ستار، أم سي سولار، منيليك، ديامس (فرقة نسوية) وغيرها.. كيف دخل الراب الى الجزائر ؟ يقول المتتبعون للغناء في الجزائر إن أول من أدى مقطعا من نوع الراب هو المطرب "حميدو" ضمن أغنية صورت سنة 1984 بالفيديو كليب بعنوان "جولة في الليل". وقد ظهر في جزائر التسعينيات العديد من الفرق والأسماء التي تؤدي الراب أمثال : أنتيك، أم بي أس ، حامة بويز، فيكسيت، صولو، طارق، تي أو إكس، أسواس بلاد.. لكن أول ألبوم ظهر على الإطلاق، حسب المعلومات المتوفرة لدينا، هو ألبوم (أولاد البهجة) الذي أصدرته فرقة (أم بي أس) بمساهمة إذاعة البهجة، والذي نال نجاحا كبيرا حيث بيع منه أكثر من 60 ألف نسخة وهو رقم قياسي لمبيعات الراب في الجزائر. وبعد ذلك انتقلت فرقتا (حامة بويز) و(أنتيك) إلى فرنسا ليجربا حظهما.. وبينما لم تنجح (حامة بويز)، تمكنت فرقة (أنتيك) من الحصول على عقد مع شركة (سوني ميوزيك). أما فرقة (أم بي أس) فقد تقاطع قدرها مع شريف دوفان الذي قدمها إلى المرحوم شريف أفلح، هذا الأخير أصدر لهم أول ألبوماتهم سنة 1997 . وتجدر الإشارة هنا إلى أن إذاعة البهجة كان لها دور كبير في إنجاح هذا الألبوم من خلال الترويج الذي قامت به بصفتها راعية له بالاتفاق مع منتجه. إرادة وحظوظ .. استطاع شريف أفلح الحصول على عقد لفرقة (أم بي أس) مع شركة (بوليغرام) التابعة ليونيفرسال ميوزيك. أما (صولو) الآتي من الغرب الجزائري وبالضبط مستغانم، فقد انتقل إلى تونس واستطاع أن يفرض نفسه من خلال ألبومين.. كما استطاع أن يفرض اسمه في فضاءات "الهيب هوب" المرسيلي بفرنسا إلى جانب "كريم لوروا". وبعد انسحاب المؤسسين من الساحة، ظهرت أسماء أخرى اشتهرت وفرضت نفسها في الساحة من بينها الفرقة العنابية (دوبل كانون) لطفي ووهاب، حيث تقول المعلومات إن لطفي الوحيد الذي يملك شهادة جامعية من بين مغني الراب المحترفين (مواليد 06 جويلية 1974 بعنابة، بكالوريا رياضيات، مهندس دولة في الجيولوجيا من جامعة عنابة). وقد صرح سفيان داني المنشط بإذاعة البهجة، أنه اكتشف الألبوم الأول لهذه الفرقة (كاميكاز) سنة 1997 بالصدفة في جولة قادته عند أحد بائعي الأشرطة، وقد كان من الطبيعي، يضيف سفيان، أن يشجع هذا الإنتاج الجديد والجيد من خلال برنامجه (طوب البهجة)، ما أعطى دفعا لهذه الفرقة التي لم تكن إلى ذلكم الحين معروفة سوى في المحيط العنابي والشرق الجزائري على أكثر تقدير. وقد انسحبت من الساحة جميع الأسماء المؤسسة للراب في الجزائر، ما عدا فرقة (أم بي أس) التي ما تزال تعمل حتى بعد التفكك الذي أصاب أعضاءها والذي يفضل رئيسها رابح أن يسميه تعددا (في أحد حواراته الإعلامية المنشورة على الأنترنت)، و"صولو " الذي أصدر في بداياته ثلاثة ألبومات أحدها في تونس، وانتهى من تسجيل ألبومه الجديد الذي يعود به إلى الساحة كما يشارك هذه الأيام في مهرجان الأغنية بسيدي فرج. المرأة .. سلعة الراب المفضلة على غرار المجالات الأخرى، استغل العنصر النسوي أبشع استغلال في بنية الراب من أجل "تحلية" الأغاني من خلال أداء المقاطع التي تمثل (مذهب) الأغنية حيث لا يسمح للمرأة بغناء مقاطع الراب الحادة التي تبقى حكرا على الأداء الرجالي. وكرد فعل على هذا الاحتكار، ظهرت بعض فرق الراب النسوية هنا وهناك، لكنها لم تستطع فرض نفسها على الساحة بدليل عدم اشتهار أي ألبوم للراب النسوي في الجزائر. وفي المقابل، اشتهرت بفرنسا فرق راب نسوية من بينها (ديامس). وكأن عقدة "الماتشيزم" أو "الرجلاوية" لحقت حتى ببيئة الهيب هوب التي يفترض فيها أن تكون أكثر الذهنيات ثورية لأن ثقافة الهيب هوب هي في الأصل ثقافة الثورة والاحتجاج. وعلى غرار المجالات الأخرى، بقيت المرأة في الهيب هوب الجزائري تؤدي دور التابع فحسب، تزين بها المقاطع (المذهبية) في الأغنية، كما هي الحال في الأغنية الشعبية التي يقتصر فيها دور المرأة على "تحلية القعدة" من خلال الزغاريد ليس أكثر.. غير أن زغاريد الراب تختلف قليلا عن زغاريد الشعبي .. الأجور .. لا تعكس الصدى تقول المعلومات المتوفرة لدينا إن مغني الراب أو ما تبقى منهم اليوم في الجزائر، هم أضعف الفنانين من حيث الأجور التي يتقاضونها حيث لا يتعدى أجر الواحد منهم مبلغ 50 ألف دينار (خمسة ملايين سنتيم) سوى لطفي (دوبل كانون) الذي يصل أجره إلى 200 ألف دينار، وإن كان البعض يقولون (وقد تكون هذه مجرد إشاعة مغرضة) إنه يشترط مبلغ 500 ألف دينار، لكن منظمي الحفلات يرفضون تقديم هذا المبلغ. وقد صرح لنا أحد منظمي الحفلات الذي فضل التحفظ على ذكر اسمه، أن حفلات الراب في الجزائر لا تحقق لمنظميها الأرباح التي تحققها لهم الحفلات الأخرى. أما في فرنسا فإن أجور مغني الراب تتراوح بين 4000 و 5000 أورو باستثناء (بوبا) الذي يتقاضى بين 10 و 15 ألف أورو.. وعلى الرغم من استبعاد العديد من منظمي الحفلات أن يأتي الأمريكي (أيمينام) لغناء الجزائر، فإنهم متفقون أنه في حالة مجيئه فإن أجره لن ينزل تحت 80 ألف دولار أمريكي ..