احتفل الجزائريون قبل أيام بالذكرى 49 لاستقلال بلادهم، وهو آخر احتفال قبل اليوبيل الذهبي الذي سيؤرخ لمرور نصف قرن عن الحدث التاريخي الذي أسقط أسطورة الاحتلال القائم على عدم تكافؤ القيم المادية، ومعها سقطت فكرة "الاستعمار" لصالح حق الشعوب في صناعة حاضرها ومستقبلها بنفسها. * ولكن احتفال الجزائريين هذه المرة بالذكرى جاء على خلفية واقع سياسي واقتصادي واجتماعي لا أحد يجزم بأنه واقع يتناسب مع فكرة "الاستقلال" نفسها، ليس لأنه يحمل مدلولا استعماريا بل لأن المؤشرات التي بين أيدينا تؤكد وجود مخلفات للتاريخ الاستعماري للجزائر لا تزال تنشط في دائرة ضوء الاستقلال . فهل حقا استكملت الجزائر تحررها؟ وماذا يعني أن تتحول كوريا الجنوبية في خلال نصف قرن من دولة مهملة تحيط بشوارعها الأتربة وبيوت القش الى قطب صناعي يستعد لمنافسة اليابان في آسيا، بينما ظلت الجزائر خلال نفس المدة تتراجع على سلم الاستقلال الاقتصادي والثقافي حتى أصبحنا رهينة للسوق الخارجية بواردات حجمها بحجم ربع اجمالي الناتج الوطني أي 40 مليار دولار، وهي تساوي بالضبط 25 مرة ما نصدره من سلع خارج المحروقات، وبتبعية للكتاب الفرنسي بنسبة 70 ٪ من واردات الكتاب العام 2010 بقيمة قدرتها مصالح الجمارك ب 20 مليون أورو؟ *
* هاهي الأمم المستقلة * قال الدكتور سليم قلالة في محاضرة أخيرة بالجزائر بأن العالم يشهد تحولا نحو أنظمة سياسية أكثر تطورا وتختلف عن الأنظمة الحالية في عدة جوانب منها طبيعة الأحزاب، مؤسسات المعارضة وموقع السلطة من القرار. وقالت المحامية والناشطة الحقوقية منية مسلم بدورها بأن استشراف المستقبل يجعلنا نقف على قضاء وعدالة قائمة على شخصية القاضي المستقلة والمتصلة بالمهنة أكثر منها بالسياسة. وتعلمت من هذه الرؤى لشخصيتين جزائريتين - لا يتكلمان من فراغ - أن الجزائر لم تعد معنية بتطوير نظامها الاقتصادي والتجاري على سلم التحولات المستقبلية فحسب بل إنها معنية أيضا بالتكيف سريعا مع اشتراطات العالم الجديد أيضا. اشتراطات بدأت في التشكل خلال القرن الماضي عندما شرعت الدول في بناء سياسات اقتصادية واجتماعية وتعليمية مبنية على المعرفة والمصلحة الوطنية والحكم الديمقراطي. * حدث هذا في الصين العام1911 عندما أسقط الصينيون الحكم الإمبراطوري ووضعوا الأساس للصين الجديدة، وحدث هذا في تركيا العام 1923 بتأسيس الجمهورية التركية على قاعدة "صفر مشاكل مع الجوار" والنهوض الاقتصادي، وحدث هذا مع ماليزيا العام 1961 - 3 سنوات بعد استقلال الدولة - بإطلاق سياسة "إحلال الواردات" التي مهدت للخطة الاستثمارية الماليزية الجديدة العام 1982 ، وحدث هذا مع دولة صغيرة هي سنغافورة التي حولها رجل اسمه "لي كوان يو" في خلال 40 عاما من قرية غارقة في الفقر الى دولة تتصدر قائمة الدول في تصدير قطع الكمبيوتر، وعلى الرغم من حجم سكانها المتواضع والذي لا يزيد عن 5 مليون نسمة إلا أن حجم صادراتها من المواد الصناعية والالكترونية لامس العام 2010 - حسب بيانات لهيئة التجارة الماليزية - 120 مليار دولار بعيدا جدا عن الرقم المسجل العام 1980 أي قبل 30 سنة والذي كان 19.7 مليار دولار، رقم يساوي 70 مرة ما تصدره الجزائر خارج خام المحروقات . وتنتج ماليزيا 239 مليار دولار كناتج محلي اسمي، ويبلغ متوسط دخل الفرد فيها أعلى المستويات العالمية أي 37 ألف دولار سنويا، والنمو الكلي فيها لامس معدل 10 ٪ . وحدث نفس الشيء مع اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، ومع الهند ومع البرازيل التي استطاعت في خلال 10 سنوات أن تحتل الرتبة التاسعة في الاقتصاد العالمي بناتج محلي اجمالي قدره 1661 مليار دولار تصدر منها 200 مليار دولار سنويا. *
* شروط الاستقلال * ليس هناك قيمة اسمها "الاستقلال الحقيقي" في ظل تبعية للنظم الأجنبية في السياسة والاقتصاد والثقافة واللغة والادارة والتشريع، وكل النماذج التي قدمناها تشترك في ساحة واحدة هي طبيعة الحكم، متانة القضاء، التفكير الاقتصادي المبني على حفز الموارد المحلية أولا ثم المصادر الخارجية في مرحلة ثانية. * ومن دون رسم المشهد المستقبلي للعالم على آفاق نهاية القرن أي العام 2100 في اتجاهاته الحيوية، بينت التجربة الجزائرية على مدى 49 سنة خلت أن العالم المستقل يسير في اتجاه ونحن في اتجاه آخر، وأترك الحكم للقارئ وهو يتلقى المعلومات التالية عن وضع البلد وهو يحتفل باستقلاله للمرة 49 : * تحتل فرنسا الرتبة الأولى في تموين السوق الجزائرية بالكتاب بنسبة 70 ٪ وبمبلغ وصل العام 2010 إلى 20 مليون أورو. * تحتل فرنسا الرتبة الأولى في تموين السوق الجزائرية بالقمح الصلب بنسبة 96 ٪ خلال السداسي الأول من العام الجاري2011 وبمبلغ لامس 314 مليون دولار. * تسيطر فرنسا على نصف مشاريع الشراكة الجزائرية مع الاتحاد الأوربي بحجم 121 مشرو . * تسيطر فرنسا وحدها على 20 ٪ من مشاريع الشراكة الأجنبية مع العالم الخارجي ولكنها مشاريع مرتبطة بقطاع الطاقة بنسبة تصل إى 60 ٪ . * تحتل فرنسا الرتبة الأولى في قائمة مموني السوق الجزائرية بنسبة 16 ٪، وتستورد الجزائر حاليا 45 مادة غذائية بقيمة 6 مليار دولار، و34 مليار دولار قيمة الواردات غير الغذائية وتشمل كل السلع والخدمات عدا النفط الخام والغاز وبعض المعادن، ولكن على سلم تحويل العملة الصعبة الى الداخل الجزائري تتراجع فرنسا إلى الرتبة الخامسة، مما يجع الفائض التجاري للصالح الفرنسي. * منذ 2002 زادت الواردات الجزائرية من فرنسا بنسبة 238 ٪ بينما لم تزد الصادرات الجزائرية الى فرنسا إلا بنسبة 90 ٪ . * تسيطر فرنسا على سوق السيارات في الجزائر التي تحصي 70 وكيلا للتوزيع سوقوا في الثلاثي الأول من عام 2011، 62771 سيارة بقيمة 800 مليون أورو. * تسيطر فرنسا وحدها على 15 ٪ من سوق الملابس والأحذية المستعملة "الشيفون" في الجزائر، سوق حجمها 10 مليون دولار سنويا دون احتساب حجم السوق غير المعلنة. * وبسبب تبعية الجزائرلفرنسا في الإدارة واللغة والتشريعات، وبعد 49 عاما من عمر الاستقلال لا تنتج بلادنا سيارة واحدة، وتستورد كل شيء مصنوع من الآلات الضخمة حتى دمى الأطفال والمسامير وشرائح الهواتف النقالة والسمك المجمد وزيوت المحركات وبعض الفواكه، حتى ارتفعت وارداتنا من الخارج من 12 مليار دولار إلى 40 مليار دولار في 20 سنة، وهي نفسها الفترة التي تقلص فيها عدد المصدرين الجزائريين من 280 مصدر الى 40 مصدر - حسب مصدر رسمي نشر في جوان 2011 - ، وتراجع نصيب الصناعة في الناتج الوطني المحلي من 25 ٪ إلى 5 ٪، ولا تصدر الجزائر خارج المحروقات أكثر من 1.5 مليار دولار وهو لا يساوي شيئا أمام صادرات دولة صغيرة لا ترى على الخارطة إلا بالمجهر اسمها سنغافورة، وتراجع نصيب الفلاحة من 30 ٪ الى 8 ٪، وتراجع ترتيب الجزائر في كل مؤشرات التنمية بدون استثناء الى المراتب الدنيا، وعشية ذكرى الاستقلال هذا العام أعلن عن مرتبة الجزائر على سلم الابتكار لتحتل المرتبة الأخيرة في قائمة تضم جل دول العالم. * حقيقة، يجب أن نفرح بالاستقلال كما نفعل في كل عام ولكن يجب علينا أن نؤمن الفرحة ذاتها لجيل ما بعد النفط أي الجيل الذي يعيش تحت سماء الجزائر بعد عام 2050، وكل عام وبلادنا الحبيبة بخير.