"نأكل اللحم في السجن ولا نشمّ رائحته في منازلنا" على بعد أيام قليلة من دخول موسم الشتاء والبرد القارص، خاصة في المدن الداخلية، حيث تصل درجات الحرارة من تبسة إلى غاية البيض قرابة العشرة تحت الصفر في غياب أماكن استقبال المشردين وازدحام دور العجزة والطفولة المسعفة، حيث يصبح من المستحيلات المبيت في الشارع أو في بقايا الحدائق العمومية أو حتى في مداخل العمارات، فقد أسرّ عدد من المحامين للشروق أن بعض الأفراد سألوهم عن الجريمة التي تضمن له بين ثلاثة والستة أشهر سجنا نافذا حتى يأتيها بحثا عن تحقيق الإقامة في شتاء الثلج والجليد، فالسجن يضمن له الدفء الذي يفتقده خلال فصل الشتاء، خاصة بالنسبة للذين تلطخت سوابقهم العدلية بالكثير من القضايا. * وكان البعض في سنوات الثمانينات من القرن الماضي يلجؤون لإحراج رجال الشرطة العموميون إما بالاعتداء عليهم أو بشتمهم في ساعات عملهم، حتى يكون الشرطي هو الضحية، ويتم اقتياد الجاني بسرعة لمركز الأمن، وطبعا تحويله على السجن ليقضي أياما بعيدا عن قسوة الشارع، ثم بدأت ظاهرة اقتناء قطعة من الكيف، والاتجاه إلى أقرب مراكز الأمن لتوريط أنفسهم في جنحة الاستهلاك حيث لا تكون العقوبة كبيرة. * بعض الذين تعوّدوا على السجن لاحظوا بعض الامتيازات التي يتحصل عليها الناجحون في الجامعات من عقود تشغيل، فأغوتهم شهادة البكالوريا، وبدأوا في طلب النجاح فيها، واتضح أن المساجين هم الوحيدين الذين بإمكانهم النجاح في شهادة البكالوريا دون اللجوء للدروس الخصوصية، وعندما يحقق سجن لامبيز الشهير بباتنة نتائج باهرة وعلامة حسن، وعندما يحقق سجن العلاليڤ بمدينة عنابة نجاح سجين بعلامة جيد جدا عام 2004، ويحقق ذات السجن في دورة البكالوريا لعام 2009 نجاح 16 طالبا من ضمن 17 مترشحا فإن الراغبين في النجاح قد يتأكدون بأن السجن هو المدرسة الأمثل التي يمكن أن تحقق لهم ذلك من دون أدنى تكاليف، خاصة ظاهرة الدروس الخصوصية التي أصبحت الوسيلة الوحيدة لتحقيق النجاح بالنسبة للطلبة النظاميين والأحرار خارج السجن، وحتى بالنسبة للطلبة المتفوقين، عكس السجناء الذين تتوفر لهم ظروف الدراسة ويتلقون المساعدة من أعوان السجون. * أما بالنسبة لبقية المتابعين قضائيا والمسبوقين والمتشردين فإن تكاليف الحياة الصعبة، خاصة في الشتاء، سواء من خلال كراء غرف الفنادق أو توفير الأكل الساخن والدواء هو ما يجعل السجن بالنسبة إليهم أشبه بالحلم الذي لا يتحقق إلا من خلال الإتيان بجريمة بسيطة تنقله إلى الحديد وإلى الدفء والأكل، وهناك من يقول إن ما يأكله من وجبات في السجن لا يأكله حتى في بعض الولائم، وحديث وسائل الإعلام المكتوبة وحتى التلفزيون الجزائري في تقديمه لبعض المؤسسات العقابية جعل بعض المتشردين يرونها وكأنها فنادق من خمسة نجوم لتظهر بذلك حالات غريبة لطلبات أغرب، لبعض المحرومين من النّاس، من المشردّين وعديمي المأوى، والمطرودين من منازلهم والفقراء وأبناء الطلاق، الذّين يلجؤون إلى ارتكاب جنح ومخالفات خفيفة، تضمن لهم قضاء موسم الشتاء وبداية الرّبيع البارد في زنزانات السّجون، وبعيدا عن أوضاع الهمّ والغم والميزيرية، في ظلّ ظروف جويّة قاسيّة، في الشوارع والأزقة وتحت شرفات المنازل وداخل أقبية العمارات. * وبحسب ما كشفت مصادر أمنيّة للشروق، فإنّ الكثير من هؤلاء النّاس، يعمدون تحت تأثير هذه الظروف، إلى الوقوع عن عمد في المحظور القانوني وإلى ارتكاب جنح خفيفة، تضمن لهم عقوبات أخف، أمام المحاكم، وبالمقابل تمكنّ لهم باب السّجن، الذّي يوفر لهم أجواء وظروفا أرحم وقضاء موسم شتاء في الزنزانة، التّي تسمح لهم بلقاء آخرين وبالمأكل والمشرب وممارسة الرياضة، ولعب الدومينو وقضاء أوقات ترفيهية وتسلية وغيرها، تختلف تماما عن أجواء البرد والقرّ في الشارع. * وتشير عدّة مصادر، إلى قيام العشرات من المغبونين في الشوارع، باللجوء إلى استهلاك وحيازة المخدرات بكميات قليلة جدا، لا تتعدّى الغرام والغرامين، للوقوع في تهمة حيازة واستهلاك المخدرات، ومنهم من يحمل المخدرّات في جيبه ويتوجّه بها إلى مقر الأمن، طالبا منهم أن يزّجوا به في السّجن، لأنّه يستهلك الكيف المعالج، ومؤخرا فقط، بمدينة الحجّار شرقي عنابة، تقدّم شاب في ال 34 من عمره، يعاني ظروفا اجتماعية مزرية وقاسيّة للغاية، قضى ويقضي معظم سنين حياته في الشّارع، من مقر الأمن، حاملا في جيبه غرامين من الكيف المعالج، وثلاثة أقراص مهلوسة، ملتمسا منهم تقديمه للسيّد وكيل الجمهورية لدى محكمة الحجار، قصد إيداعه رهن الحبس، لأنّه من مستهلكي المخدرّات، وقبل ذلك لجأ إلى نفس الطريقة شابين من ولاية ڤالمة، وثالث ورابع بولاية برج بوعريريج. * وفي معظم الأحيان ترّد هذه المصالح الأمنيّة بالسلب على أصحاب هذه المطالب، فيما يعمد البعض ممّن يعيشون نفس الأوضاع ويطمحون على الأقلّ في قضاء موسم شتوي مريح، إلى اللّجوء لارتكاب جنح أخرى، تضمن لهم باب السجن مباشرة، إذ يقومون بممارسة جنح السكر العلني ومخالفة الآداب العامّة، والسّب والشتم العلني والقذف والتجرّيح، وهيّ تُهم وجرائم وجنح تمكنّهم من الحصول على عقوبات بالحبس النافذ لا تتجاوز في أقصى الأحوال الستّة أشهر، ومع العفو الرئاسي تصبح شهرين وثلاثة. * وما شجّع على تنامي هذه الظاهرة، هو الأوضاع المريحة داخل السجون الجزائرية، التّي باتت توفر ظروفا وأوضاعا أحسن حالا مما هي عليه في الشارع، ومما هي عليه في الكثير من البيوت الجزائرية، وما ينقص فيها هو الحريّة، ولكن الراغبين في دخول السجن بهذه الطريقة الطواعية، يرون أنفسهم أحرارا داخل الزنزانة أكثر ممّا هم خارجها، بسبب الضياع والتشرد والحرمان والفقر والمرض وغيرها، وهي ظاهرة لا تقتصر على الجزائر ففي باريس عندما منعت السلطات المحلية المتشردين من المبيت في أنفاق الميترو لأسباب أمنية صاروا يطالبون بسجنهم وتحريرهم مع نسمات الصيف، خاصة أن بعض السجون الأوروبية مثل السجون السويدية والنرويجية أكثر أناقة وجمالا من فنادق الثلاثة نجوم في أوربا، فما بالك بفيلات وقصور العالم الثالث.