بعد كل الفقد الذي ودعناه مع توديع العام 2010 نستقبل عاما جديدا بفقد آخر يضاف للقائمة فقد توفي أول أمس قبل الفجر الشيخ العلامة محمد شارف - رحمه الله - عن عمر يتعدى القرن 102 سنة، قضاها كلها في التعليم ونشر الفضائل ومكارم الأخلاق، لقد كان قطبا ساطعا ونجما لامعا سطع في سماء العالم الإسلامي وها هو يغادرنا من أفول.. ليظلّ نور علمه خير ما ورّثه لكل الجزائريين بل المسلمين قاطبة وإزاء هذا المصاب الجلل قال محمد إدير مشنان في تصريح له لإذاعة القرآن الكريم أن الجزائر بهذا المصاب تفقد علما من أعلامها الكبار بعد أكثر من مئة عام من العطاء دون أن يأخذ مقابل، وإنه في هذا الموقف لخسارة كبرى ألمت بالعالم الإسلامي.. كما نقلت قناة القرآن الكريم مقطعا صوتيا للشيخ يتحدث فيه عن آخر أيام عمره ، العلامة الشيخ محمد شارف أحد علماء الجزائر البارزين والمعروفين بخدمتهم للإسلام ونشر تعاليمه في المجتمع. وينحدر الشيخ محمد شارف من أسرة مجاهدة معروفة باسم الحوامد بضواحي خميس مليانة بولاية عين الدفلى، فوالد الشيخ وإخوته كلهم من حفظة كتاب الله. وولد الشيخ العلامة محمد شارف عام 1908، حيث حفظ القرآن وأتمه في سن العاشرة من عمره، ثم انتقل إلى العاصمة للدراسة، وهناك تعرّف على مشايخ أخذ عنهم العلم والفقه. وكان الشيخ شارف رحمه الله يحب الاختلاء، ليراجع ما أخذ عن شيوخه, وظل على هذه الحالة حتى انضم إلى جمعية علماء المسلمين، فكان الشيخ حريصا أشد الحرص على حضور الدروس التي كان يلقيها أعضاء الجمعية في نادي الترقي مثل الشيخ بن باديس والبشير الابراهيمي، والطيب العقبي. وفي سنة 1936 حصل الشيخ شارف على رتبة الإمامة إلا أنه لم يلتحق بمنصبه كإمام، لأن الاستعمار الفرنسي حينها فرض التجنيد الاجباري ابان الحرب العالمية الثانية، فوقع كثير من الشباب تحت الأسر ، وكان الشيخ ضمن هؤلاء الأسرى حيث ظل محتجزا من سنة 1939 إلى سنة 1945.وخلال مدة السجن واصل نشاطه التعليمي، فالتفَّ حوله عدد هائل من المعتقلين بعد أن أدركوا مكانته العلمية، فكان يلقي عليهم دروس الفقه واللغة، وقد درس على يديه مجموعة من المعتقلين من تونس والمغرب والسنغال. وبعد الإفراج عن الشيخ رحمه الله تم تعيينه مؤذنا في الجامع الكبير. وبعد الاستقلال عن فرنسا عُين الشيخ إماما وخطيبا في عدد من مساجد العاصمة الجزائرية. ومن تضحيات الشيخ رحمه الله أنه باع منزله الواسع الذي كان يسكنه بأعالي بوزريعة، ليشتري منزلا أضيق منه ليتمكن من التفرغ لطلبته. وظل الشيخ شارف رحمه الله لسانه ذاكرا إلى آخر لحظة من حياته, حيث كان يستمع المقربون منه إلى "همهمة"، فلما يسارعون إليه يجدونه يقرأ القرآن، ويراجعه، إلى أن ، وافته المنية. محطات من حياته: - جمع الشيخ بين نشاطي العلم والتعليم في آن واحد، فكان يحضر مجالس العلم عند شيوخه، ثم يكرر على بعض أقرانه، فكان تلميذا وأستاذ في الوقت نفسه. - كان الشيخ محمد شارف يحضر دروس الشيخ مَحمد وكال المعسكري الأزهري في شرح الأجرومية، مع طلبة يكبرونه سنا و تقدما في التحصيل، وفي أحد المجالس امتحن الشيخ تلامذته، فطلب منهم إعراب هذه الجملة: (الإعراب هو تغيير أواخر الكلم لاختلاف العوامل الداخلة عليها غالبا)، فأخذ الطلبة الكبار في إعرابها، ولما وصلوا إلى كلمة "غالبا" أعربها بعضهم بأنها تمييز، والبعض الآخر بأنها حال، ولم يرتض الشيخ إجابتهم، فاستأذن الشيخ محمد شارف أستاذه و كان في بداية الطلب لعلم النحو، فأذن له، فبيّن بأنّ الكلمة منصوبة على نزع الخافض، وأن التقدير ( في الغالب )، ففرح شيخه بذلك ولاحظ عليه سمات النبوغ، فعمل على صقلها وبعثها. - في سنة 1936 تحصل الشيخ على رتبة الإمامة، بعد أن أجرى امتحانا كتابيا، ثم شفويا، ولم يتمكن من وظيفة الإمامة لعدم شغور المناصب، كما ذكر لنا. - ومن جملة الأسباب التي منعت الشيخ من الالتحاق بوظيفة الإمامة، أن الاستعمار الفرنسي فرض التجنيد الإجباري أثناء الحرب العالمية الثانية، فوقع كثير من الشباب تحت الأسر الألماني بفرنسا، وكان حظ الشيخ أن وقع أسيرا معهم فأودع المحتشدات هناك، حيث بقي تحت الأسر من سنة 1939م إلى سنة 1944م، ثم تحت سلطة ومراقبة الاستعمار الفرنسي خلال سنة 1945م. - غير أن ذلك لم يُعِقْه من مواصلة نشاطه التعليمي، ففي هذا المحتشد التَفَّ حوله عدد هائل من المعتقلين بعد أن أدركوا مكانته العلمية، فكان يلقي عليهم دروسا في الفقه لعامة الناس، ودروسا في النحو لخصوص بعض الطلبة الراغبين في تعلم قواعد اللغة العربية، فكان من جملة الحاضرين أفراد من بلدان كثيرة كالجزائر، وتونس، والمغرب، والسنغال وبعض البلاد الإفريقية والآسيوية.