بقلم: فاديا عيسى قراجه/ سوريا اشترت صديقتي جوى سيارة قديمة وهي دائماً تصفها بأنها نصف عمر.. حاولت كثيراً أن تقنعني بامتطائها وهي تضحك على تعبير الامتطاء الذي أطلقه على ركوب السيارة..وكأنني أتحدث عن فرس أو حصان وما شابه . بعد الذي جرى كان يجب أن أضع النقاط على الحروف، كيف سأصل، برقت جوى وسيارتها في ذهني كلمح البصر.. دخلت مكتبها وسألتها عن وضع السيارة ، بدأت بتعداد مناقب سيارتها دون أن تعلم بأنها تقع في فخ كنت قد نصبته لها متعمدة .. وعندما عرفت نيتي..اضطربت ، وأصابتها السكتة.. ألقيت نظرة على السيارة ,ثم رميت حقيبتي من الشباك ذو الزجاج المكسور ,لم يكن أمامي سوى هذا الحل مخرجاً والذي أسمته جوى : هو الجنون عينه . لكن جوى لا تعرف السر , ولم تضع يدها على ما عرفته ووضعت يدي عليه .. الخروج المبكر ليس من عادتي ...طقس المدينة الآن يختلف عن طقس القرية لذلك أعطتني جوى قبعتها وشالها الصوفي وقالت لي: احذري الجروف والمنحدرات لأن سيارتي نصف عمر , ونصف........ لم أستمع لبقية أنصافها لأنني قدت السيارة بجنون فصاحت: أرجوك لا تمارسي جنونك عليها , لأنني لم أوف حقها بعد. فتحتْ الشوارع صدرها لاستقبال عاصفتي , كان الناس ينفرون من أمامي مثل شهب يعبر كتف السماء الرمادية ثم يتلاشى .. أدرت مذياع السيارة , انبثق صوت عبد الحليم , جوى عاشقة العندليب, كانت تسمي نفسها أيام الثانوية خطيبة العندليب رغم أنه كان قد رحل منذ زمن , صوره تتوزع في بيتها ابتداءً من مدخل البيت حتى المطبخ , هناك صورة له بلباس البحر ملاصقة لصورة زفافها ,وتلك الصورة كانت ستودي بحياتها الزوجية إلى أخطر السبل لكن جوى عنيدة كثور , لم ترضخ لأوامر زوجها وأبقت على صورة العندليب مكانها وأصبح يتلصص عليهما.. صاح العندليب: مشيت على الأشواك ........... انتفضتُ وقمتُ برِّدة فعل ٍغريبة , نزعت الكاسيت من المسجل ووضعت بدلاً عنه فيروز , فتسرب صوتها و هدهد سرير المسافات , وسافر بي إلى بيتنا القروي حيث يتربع على تلة خضراء تبرز فيها شجيرات الكينا والزنزلخت , والسرو والتوت الشامي فتبدو كغابة صغيرة يحتضنها التل, أما البيت فعبارة عن غرفة مربعة , وصالون دائري , وحديقة مثلثة هذا ما أراده أبي لأنه يعشق الأشكال الهندسية , لدرجة أنه أطلق على كل واحدٍ منا اسماً هندسياً فمثلاً أمي مثلث لأنها تحصره في زاوية حادة إن أحست بشيء ما, و أنا دائرة لأنه كلما دار وابتعد ثم اقترب لا يجد سواي أنتظره في المركز, وأختي مربع لأن ردود أفعالها تتساوى مهما كان نوع الحدث ,..وأخي شبه منحرف أظن أن ذلك لا يحتاج إلى تفسير .. ما زالت الشوارع تجود عليّ بصدر مفتوح وأبواب تتناثر على الجانبين محكمة الإغلاق والغموض , كم يأسرني منظر البيوت من الخارج كم أرسم لها حكايات في ذهني , لم أتخلص بعد من عادة استراق النظر إلى مداخل البيوت التي تبدو كألسنة طويلة تغريني باختراقها والتلذذ بتصور دفئها .. السيارة تشق هدأة الصبح .. وفيروز تطرز طريقي بعبق صوتها , وتنزل الذكريات فوق رأسي كزخ المطر , أذكر أن آخر كلمة تلفظنا بها كانت من نصيبي , قلت له: - الزواج هو الحل الفاشل لكلينا . لم أكن أعلم أنني بكلمتي هذه أقتله , وإلى الآن لم أعرف سر احمرار عينيه , وارتجاف ذقنه , وتوتر حباله الصوتية , وكأنني نطقت بكفر لا توبة بعده .. أدار محرك سيارته وتركني أبعثر أوراق الطريق بخطوات سلحفاتية .. على مدى شهر كامل كان هاتفه مغلقاً , وكلما سألت أصدقائه يبادرونني بأنهم كانوا سيسألونني عنه .. اليوم وضعت يدي على مفتاحه , وما عليّ سوى إدارته بالقفل كي يخرج مارد ذهولي ويسافر بي عبر المجهول , كي ألتقيه وأقول له: أنا هنا و لست خائفة من قراري لأن الزواج مضيعة للوقت ولم يكن يوماً لباساً و لا سكينة ..سأقول له : انظر إلى أصدقائنا وإلى علاقاتهم وإلى الملل الذي استوطن عمرهم مثل مرض عضال لن ييرأوا منه ما لم يستأصلوا مكان الورم ..وسأضيف : الزواج يريد أرضاً ثابتة وأنت متحرك لا تملّ من الدوران.. وسأعلن أمامه : حتى لو وضعت علاقتنا على المحك , وخيرتني بين استمرارنا أو زواجنا سأقول لك الزواج سيهدم قصورنا , سيقتل مجدنا , سيلوث ذائقتنا , ثم سأقول له : سأبقى أحبك هكذا طيراً حراً ,فراشة يحرقها نار وصالي وستبقى تموت في رحيلي الجنوني عبر بساط سحري غزلته وأحكمت ربط خيوطه كيلا أقع في موت التكرار التي تمارسه الزوجات... وبعد ذلك سألف بسيارة جوى وأعود .. أسعدتني النتيجة التي وصلت إليها عبر تداعياتي , لقد اختار القرية كي يمضي فيها أيامه , وأنا أعرف أين سأجده الآن , سأركض إليه, وأرتمي بين ذراعيه , سيفاجأ بقدومي , سيترك قفير النحل الذي يدوي بطنين لا ينقطع , سنبتعد عن مملكته النحلية وسيقدم لي آخر مخترعاته , فهو مهندس زراعي , يمضي حياته في مشروع تحسين نوع العسل عبر تحسين جينات الملكات .. لذلك لا همَّ له سوى الحديث عن تحسين النوع , والزواج هو عسل الحياة .. يا ربي كيف سيتلقى كلامي؟ ماذا لو فتح في وجهي خلايا النحل ؟ فهو لا يقل عني جنوناً .. اتنهى بوح فيروز , فتحت باباً صغيراً خاصاً بأشرطة الكاسيت.. بعثرت عن شريط كاسيت يرافقني ما تبقى لي من طريق .. لمحت علبة كرتونية صغيرة ..اشتعل فضولي ..فتحت العلبة .. كانت علبة دواء .. يا إلهي .. إنها بخاخ الربو الذي تستعمله جوى.. كيف نسيته ؟ مالعمل الآن ؟ بقيت دقائق وكأنها دهراً .. جوى تعاني من ربو مزمن .. وهي تبخ في فمها كل ساعة لأن حالتها ......... حسمت أمري , وأخذت قراري .. أدرت السيارة بالإتجاه المعاكس وعدت من حيث أتيت .......... وعاد صوت فيروز يكوم باقات الخيبة فوق الطرقات . . * شارك: * Email * Print