شبه خاوية.. دخلت المحطة بخطوات شبه واثقة أو هكذا تبدو لمن يراها.. تتحسس كوفيتها حول رقبتها للتأكد من دفئها... تلقي نظرة واسعة سريعة تتمهل لتسرح في تفاصيل الأشياء والأشخاص الموجودين في محطة القطار. شبه فارغة.. تمارس فيها الرياح دورانها غير عابئة بما تصدره من عويل, قد يخيف طفلا صغيرا يحاول مواصلة الركض خلف أبيه للحاق بقطار كاد أن يتحرك أو يزيد من شعور امرأة عجوز تجلس -في صبر- بالوحدة والبرد. ثلاثة أرصفة تفصل بينها أربعة قضبان حديدية شهدت الكثير من الوداعات ونهايات الحكايات.. كما أدفأها القليل من أحضان الشوق ودموع اللقاء. مقهى صغير, يدور حول طاولاته الحديدية اللامعة نادل لم يعد يري شيئا من كثرة ما رأي! ورجل يجلس ليبحث عن الدفء في البخار المنبعث من كوب الشاي الموضوع أمامه, ودخان سيجارته الذي يحيطه بهالة من عدم الوضوح.. وبجواره على الرصيف تراصت صحف لا تدري إن كانت صحف اليوم أم الأمس, يعبث الهواء بأوراقها محاولا في عناد التغلب على الأثقال الحجرية التي ترسخ فوقها.. عله ينجح في تمزيق بعض صفحاتها فيريح الناس من بعض هموم ذلك الوطن الذي لم يعودوا ينتمون إليه! شعرت أن كوفيتها لم تعد تعطيها الدفء الذي تنشده, فراحت تحرك قدميها سائرة إلى اللاشيء وقد أغشت عينيها دموع ربما تكون بسبب البرد الذي بدأ يتخلل جسدها.. أو ربما تكون بسبب الذكريات التي راحت تتدافع علبها الواحدة تلو الأخرى.. رأت نفسها تقف على الرصيف المقابل.. تبدو أصغر سنا وأكثر إشراقا, تحمل أمالا عريضة لمستقبل رسمته لنفسها بنفسها.. طريق صممت أن تمضي فيه رغم اعتراض الآخرين. رأت نفسها عائدة على نفس الرصيف وقد خذلها الخوف وعدم الثقة وكلام أمها.. فكان أن خذلت هي نفسها! رأتها تقف هنا وقد مضت بضع سنين تودع زوجا لم تعد تذكر ما الذي ربطها به.. تتعلق به لأنها لم تكن تجد سواه تتعلق به.. تتركه مرغمة ليمضي.. لتترك بعد ذلك كل ما بينهما يمضي! ما الذي جاء بها إلى هنا اليوم؟! حاولت جاهدة أن تتذكر.. أجاءت لتستقبل غائبا أم لتودع أخر سيغيب؟ شبه نائمة.. سرحت ببصرها فرأت قطارا يقترب ببطء.. يبدو مختلفا عن غبره من القطارات.. لا يصدر الضجة المعتادة وكأنه يتسلل كى لا يشعر به أحد! توقف أمامها مباشرة.. نظرت بداخله فبدا لها ركابه أيضا مختلفين.. يبدون أقل صخبا وأكثر سكينة ورضا.. استغرق كل منهم في أفكاره وكأنه وحده تماما!.. ما الذي جاء بها إلى هنا؟! راحت تعتصر ذاكرتها المتعبة.. أتعطي شخصا ما شيئا ما ليسلمه لشخص ما؟! أم لتأخذ شيئا ما من شخص ما لتعطيه لشخص ما؟! ازدادت الضجة من حولها وقطار آخر يهمّ بالرحيل مصدرا صافرته الأخيرة ورجل يركض لاهثا خلفه ليلحق به.. فراح يتخبط بأحماله وأمتعته وهمومه.. وأخر يسير بخطى واسعة متابعا النوافذ التي راحت تتلاحق أمامه حتى وجدها مستندة برأسها على النافذة وقد أصابها اليأس من أن يأتي لوداعها, وما إن رأته حتى عاد الدفء إلى عينيها وراحت تلوح له بكل ما بها من عزم وكأنها كلها قد صارت يدين تلوحان وتخبران وتشتاقان وتتشبثان! بات طعم الملح متلاحقا فوق شفتيها, توقفت عن محاولاتها اليائسة للتذكر.. تجاهلت هاتفها المحمول الذي راح يرنّ في إلحاح.. شعرت بكوفيتها تكاد أن تخنقها، فأزاحتها من حول رقبتها وتركتها تقع بجوارها.. تقدمت بخطوات شبه ثابتة نحو القطار الساكن أمامها والذي بدأ أيضا في التحرك دون أن يصدر أي صوت.. خطت خطوة ثم خطوتين ثم باتت الخطوات أكثر سهولة.. راحت جميع الأصوات تبتعد.. وهمس صامت يعلو بداخلها.. إلى أين؟ وضعت قدما داخل القطار تبعتها الأخرى لأنها لا تملك سوى ذلك.. إلى أين؟ استدارت لتنظر حيث كانت تقف, رأت كوفيتها وقد تكومت على الأرض وحيدة.. ألقت نظرة أخيرة على المودعين والراكضين والمنتظرين شيئا ما.. ابتسمت.. أي مكان أفضل من هنا!