روى الإمام «أحمد» عن «عُقبةَ بنِ عامرٍ» رضي اللهُ عنه، قال "لقيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: يا عُقبة بنَ عامر، صِلْ مَن قَطَعَك وأَعْطِ مَن حَرَمَك واعْفُ عمّن ظَلَمَك"، وهذا التوجيهُ النبويُّ الشريفُ مِن أعظمِ التوجيهات وأجلِّها وأرفعها، ذلك أنّ فيه إرشاداً لمعالي الأخلاق وأكمل السَّجايا والصفات، وأورد «ابنُ كثير» هذا الحديثَ في سياق تفسِيرهِ قولِ الله تعالى "خُذ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْف وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِين"، والتقابُلُ في المعنى والمبنى بين الآية والحديث ظاهر، حتى في ثلاثِيّةِ التوجيه والأمر؛ فَصِلَة القاطع تُقابَل بالعفو، وإعطاء المحروم تقابَلُ بالمعروف والعفو عن الظالم يُقابل بالإعراض وعن «وهب بن كيسان»، قال "سمعتُ «عبد الله بن الزبير» يقولُ على المنبر: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين"، قال "واللهِ ما أَمَر بها أن تُؤْخَذَ إلا مِن أخلاق الناس، والله لآخُذُها منهم ما صحبتُهم"، وقال «ابنُ القيّم» رحمه الله "ليس المرادُ إعراضَه عمّن لا علم عنده فلا يُعلّمه ولا يُرشده، وإنّما المُراد إعراضه عن جهل من جهل عليه فلا يُقابله ولا يُعاتبه"، وذكر «ابنُ القيّم» أنّ هذه الآية "جمعت للنبي صلى الله عليه وسلم مكارمَ الأخلاق"، وقال «أبو هلال العسكري» "وأنت ترى أنّ في العفو صلَة القاطعين والصفح عن الظالمين وإعطاء المانعين، وفي الأمر بالمعروف تقوى الله وصِلَة الرحم وصون اللسان من الكذب وغضّ الطرف عن الحُرُمات والتّبرُّؤ من كلّ قبيح، لأنه لا يجوز أن يأمر بالمعروف وهو يلابس شيئاً من المنكر"، وروى «البخاري» عن «ابن عباس» رضي الله عنهما، قال "قَدِمَ عُييْنة بنُ حِصْن بن حُذيفة فنزَل على ابن أخيه الحُرِّ بن قَيْس -وكان من النّفر الذين يُدنيهم عُمَر- وكان القُرّاءُ أصحابَ مجالسِ عُمر، ومُشاورتَه -كُهُولاً كانوا أو شُبَّاناً-، فقال عُيَيْنة لابن أخيهِ: يا ابنَ أخي لك وَجهٌ عِنْدَ هذا الأمير، فاستأذِنْ لي عليه، قال سأستأذِنُ لك عليه"، قال «ابنُ عباس» "فاستأذَنَ الحُرُّ لعُييْنةَ، فأذِنَ لهُ عمَر، فلمّا دَخلَ عليه، قال: هِيْ يا ابنَ الخطّابِ، فواللهِ ما تُعطينا الجزْلَ ولا تحكُمُ بيننا بالعدْل"، فَغَضِبَ «عُمَر» حتى همَّ به فقال له «الحُر» "يا أميرَ المؤمنين، إنّ الله تعالى قال لنَبِيّه صلى الله عليه وسلم: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين، وإنَّ هذا من الجاهلين"، قال «ابن عباس» "واللهِ ما جاوَزَها عُمَرُ حينَ تلاها عليه، وكان وقَّافاً عِنْدَ كِتابِ الله".