قال تعالى "وبُعولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحًا ولَهُنَّ مِثْلُ الذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعروفِ وللرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ واللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"، وفي معنى هذه الآية قال المفسرون إن المراد بالدرجة، درجة العفو والصفح والتسامح، لا الغلظة والشدة والتأديب، لأن الحديث وارد في سياق الطلاق والمطالبة بالحقوق، وهذه الآية تُعالِج وضعًا في العلاقة الزوجية، وهو الوضع الذي يُطَلِّق فيه الزوج زوجته، وهذا الوضع من شأنه أن يكون متوتِّرًا وأن يكون تَصَرُّف كل من الزوجين فيه واقع تحت التأثُّر بانفعالات خاصَّة، هي انفعالات الغضب أو الرَّغبة في التشَفِّي أو الانتقام أو الرغبة في التشهير والتنديد بتصرُّفات الطرَف الآخر أثناء العِشْرَة الزوجية، ذلك هو الوضع النفسي الذي يقوم عليه الإنسان إذا ترك طبيعته لغرائزه تتحكَّم فيها، والإسلام منهج حياة يُلزم مَن يؤمن به أن يسير وفقًا له في معاملته لنفسه أو في معاملته لغيره، في حال اليُسر والرخاء أو في حال العُسر والشِّدّة، في حال السَّعة أو في حال الضيق، وهو حريص كل الحرص في منهجه هذا على أن يكون الإنسان أكثر ما يكون مهذَّبًا في معاملته لغيره؛ وقت شِدّة الغير ومِحْنَتِه بالأخصّّ إذا كانت هناك علاقة بين الاثنين تتَّسم بالسِّرِّيّة وبالحساسية، كما هي بين الزوج وزوجته، ولا شكَّ أن الزوجة أثناء انقضاء شِدَّتها بعد أن طلِّقت من زوجها في حالة قلق نفسي على مستقبلها ومستقبل ولدها إن كان لها ولد، وفي هذا الوقت بالذات أجاز الإسلام للزوج مُراجعة زوجته وإعادة العلاقة الزوجية بينهما وجعله أحقَّ بذلك من أي رجل آخر يتقدّم لخطبتها، وهذا هو قوله تعالى "وبُعولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصلاحًا"، وفي هذه الحالة يقرِّر القرآن من جديد أن تكون الحقوق والواجبات فيما يَضمَن حُسْن المُعامَلة والعِشْرة بينهما مُتَماثِلة، كما هو شأن الزواج وطبيعته، ذلك الذي امتَنَّ به الله على الإنسان في قوله "ومِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفسِكُمْ أَزْواجًا لِتَسْكُنوا إِلَيْهَا"، فجعل السَّكَن والهدوء والاستقرار في الحياة عدل الزوجية، ثم جاء بعد تقرير المُماثَلَة بين الزوجين في الحقوق والواجبات من قوله "وللرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرجةٌ" هو زيادة في حُسْن المُعامَلة، طلبها القرآن من الزوج خاصة، فالقرآن لم يكتفِ بالمماثلة بين الزوجة والزوج وأن يكون ما يأتي به الزَّوج في حُسن المعاملة مساويًا تمامًا لما تأتي به الزوجة، بل يُنتَظَر من الزوج أكثر من المُماثَلة فيما يُعطي هو ويقدِّم لزوجته، لا فيما يأخذه منها، وذلك هو "الدَّرجة" في قوله "وللرِّجال عليهن دَرَجةٌ"، وآية ذلك أنه: - يُطلَب من الزوج إذا استقرَّ الأمر على الطلاق أن يكون في طلاقه مُحسِنًا كما كان في عشرته محسنًا ومهذَّبًا "الطّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعروفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَان". - يُطلَب من الزوج أن يُعطي زوجته بعد طلاقها ما يسمَّى "مُتْعة"، تستعين به في حياتها إلى أن تُنَظِّم وضعها من جديد، مما يُشعِرُها بأنّه الآن كما كان قبل الآن، إنسان في معاملته إيّاها، يُكرمها ولا يُسيء إليها وإلى سمعتها "ومَتِّعُوهُنَّ عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالمَعْروفِ حَقًّا عَلَى المُحْسنينَ"، فجعل ذلك لِزامًا على الإنسان المُهَذَّب وهو المؤمن على الحقيقة بالإسلام. - كما يُطلَب في حال طلاق الزوجة قبل الدخول بها أن يَتسامَح الزوج فيما يحقُّ له من استرداد نصف المهر منها ويترك لها المهر كله "وأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ للتَّقْوَى ولاَ تَنْسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْملونَ بَصيرٌ"، فآثَر القرآن أن يكون الإعفاء عن نصف المَهْر من جانب الرَّجُل وليس من جانب المرأة، فالدرجة هنا مرتبة في حسن المعاملة وليس في الغلظة فيها، فخلق المؤمن على الإطلاق هو خلق المُحسِن الذي يُعطِي من نفسه ومُرُوءته وماله أكثر ممّا يأخذ من غيره، والرجل قبل المرأة في ذلك.