شكل مشروع الدرع الصاروخية حلم جماعة الإمبراطورية الأمريكية منذ إدارة رونالد ريغان إلى إدارة جورج ولكر بوش، وبدأت الدعاية الهوليودية مع الممثل الأمريكي ريغان بتسميته بالمبادرة الإستراتيجية أو لعبة حرب النجوم، وكان فريق الإمبراطورية الأمريكية يضخم التفوق العسكري الإستراتيجي للاتحاد السوفياتي حتى يقنع الجماعات المعارضة في الداخل بضرورة الإنفاق على المشروع الذي يهدف -حسبهم- إلى صد أي هجوم بالصواريخ العابرة للقارات المحملة برؤوس نووية، وهي الفكرة ذاتها التي حملتها إدارة بوش الابن بضغط من جماعة ما يعرف بأصحاب مشروع القرن الأمريكي الجديد، والذي أصبح معظمهم في إدارة بوش، مثل وزير الدفاع دونالد رومسفيلد ونائب وزير الدفاع بول وولفويتز ونائب الرئيس ديك تشيني·ويقوم مشروع القرن الأمريكي الجديد على إبقاء الولاياتالمتحدةالأمريكية القوة العسكرية الأحادية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي مع تضخيم الأخطار المحدقة بالأمن القومي الأمريكي، وكانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر الفرصة المناسبة لبعث المشروع بعد العمليات الهجومية التي تمت عبر الطائرات وفي السماء، لتحقق هذه الجماعة غرضها بعدما عجزت مع إدارة بيل كلينتون في فرض المشروع، حيث شكك كلينتون في نهاية حكمه بالقدرات الإستراتيجية بعد التجارب الفاشلة مع خطر الآثار البيئية للمشروع وتكاليفه المالية الضخمة· ومع قرار أوباما بتعديل مشروع الدرع الصاروخية بنشر عشرة صواريخ في بولونيا ورادار للاتصالات في جمهورية التشيك بعد التوقيع عليهما في صيف 2008 من قبل إدارة بوش، نتساءل هل أوباما يقف أمام جماعة مشروع القرن الأمريكي الجديد أو ما وصفهم إيزنهاور بعد مغادرته البيت الأبيض في بداية الستينات بخطر المركب الصناعي العسكري؟ القراءة الأولية في الخطاب الرسمي لإدارة أوباما تعلل قرار التعديل بدوافع تبدو عقلانية، أولها التقليل من التكاليف مع الإبقاء على المشروع بأكثر اقتصادية وفعالية، وهو السبب الذي يبدو أكثر إقناعا في ظل الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي تسببت فيها جماعات ولت ستريت· وتشير بعض المصادر إلى أن الإنفاق على المشروع منذ إدارة ريغان في سنة1938تاريخ انطلاقه كلف الخزينة الأمريكية 100 مليار دولار· السبب الثاني الذي قدمته إدارة أوباما يبدو أنه موجه كتحدي لجماعة المركب الصناعي العسكري التي كانت دائما تضخم من تفوق العدو في المجال الإستراتيجي حتى تبقي على المشروع حيا، حيث اتضح بعد تقييم المخاطر العسكرية الإيرانية أنها لا تملك الصواريخ الباليستية الطويلة المدى، وبالتالي فإن الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى لا تحتاج في القوت الراهن إلى بعث المشروع في اليابسة في الأراضي البولونية والتشيكية، وهو ما جعل المشروع في مراحله الأولى يعتمد على وضع صواريخ أس·أم 3 في السفن المتنقلة، مما يعطي حيوية أكثر للمراقبة، وهذا لا يعني أن إدارة أوباما قد ألغت المشروع من اليابسة وإنما في مرحلته الثانية التي تمتد إلى سنة2015سيتم نشر النموذج المطور للصاروخ الاعتراضي أس·أم 3 بريا وبحريا· ورغم هذه التطمينات من إدارة أوباما لجماعة المركب الصناعي العسكري، إلا أن المشروع لا يعد تراجعا وإنما تعديلا هيكليا ليكون أكثر فعالية وأكثر عقلانية من حيث التكاليف· بينما المشككين يربطون قرار أوباما بالتنازلات المؤلمة لروسيا وبدون مقابل، بدأت مؤشرات هذه التنازلات في البيان الأمريكي الروسي المشترك الذي وقعه أوباما مع ميدفيدف في هذا الصيف، ويقضي بربط المفاوضات حول الأسلحة الإستراتيجية الهجومية بتجديد اتفاقية ستارت 2، مع مبادرة الدفاع الاستراتيجي وهو ما اعتبره الرئيس الروسي بالانتصار التاريخي والإستراتيجي وبمثابة الخطوة إلى الأمام في الطريق إلى الحل الوسط بشأن مسألة الدفاع المضاد للصواريخ، حيث الرؤية الروسية القائمة على التعاون الأمريكي الروسي في مبادرة الدفاع المشترك وهو ما طرحه الرئيس الروسي السابق بوتين على الرئيس بوش خلال قمة مجموعة الثمانية بألمانيا في سنة 2007، عندما اقترح نشر تلك الصواريخ في أذربيجان· ويبدو أن مسألة الانتقادات الحادة الموجهة لإدارة أوباما فيما يخص الضغوطات الروسية عليها، جعلت كل من وزير الدفاع روبرت غيتس ووزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون، يشرحون قرار أوباما في مقالين لهما، الأول كتب في صحيفة نيويورك تايمز مؤكدا أن قرار أوباما لم يأخذ في الحساب مسبقا أي رد فعل روسي محتمل، موجها انتقادا لاذعا لأصحاب هذا الطرح بقولهف: بعض الأمريكيين الذين يعتنقون وجهة نظر تشبه اللاهوت، تعتبر أي تغيير في الخطط بمثابة تخل عن العقيدةف، ونفس الطرح ذهبت إليه كلينتون في مقال لها بصحيفة الفايننشال تايمز اللندنية وهي ترد على المنتقدين بأن القرار يهدف إلى التقليل من التكاليف مع الإبقاء على المشروع بأكثر فعالية وأكثر تطورا· وفي الواقع، فإننا لا ننكر أن قرار أوباما هو في النهاية نتيجة تقديرات أعضاء مجلس الأمن القومي من أن تكاليف المشروع لا تطاق في ظل الأزمة المالية الحادة، كما قد تجعل من روسيا توسع من خياراتها المعادية لسياسة واشنطن الخارجية، وهي خيارات واسعة تبدأ بنشر الصواريخ الاعتراضية بجبال لينينغراد الواقعة بين بولونيا وليتوانيا، مع التوسع في التجارب الصاروخية العابرة للقارات وهو ما حصل مع انطلاق المشروع في فترة بوش الابن، كما أن روسيا تملك أوراقا حيوية في المعضلات الأمنية الأمريكية، فإدارة أوباما تحتاج للتعاون اللوجيستيكي الروسي في أفغانستان وهو ما تم التوقيع عليه بين البلدين فيما يخص الترانزيت للمعدات العسكرية والقوات المسلحة في طريقها نحو أفغانستان مما يكسب واشنطن الوقت والتكاليف· كما تحتاج واشنطن للتفاهم الروسي فيما يخص المفاوضات حول الانتهاء بالعمل باتفاقية ستارت 2 واستبدالها باتفاقية أكثر عقلانية من حيث التكاليف، إذ ستقلص من الترسانة النووية إلى الثلث بعد سريان المعاهدة الجديدة الذي يصر أوباما على التوقيع عليها قبل نهاية العام الحالي· وقبل ذلك كله تحاول واشنطن كسب روسيا إلى جانبها فيما يخص الملف النووي الإيراني مع الضغط عليها بعد الانسحاب من العراق بما يخدم المصالح الأمريكية، وهي كلها حقائق يدركها أوباما لإنقاذ الإمبراطورية الأمريكية من الانهيار بعدما زج بها أصحاب المركب الصناعي العسكري في حروب خارجية مكلفة ومشاريع للتسلح لا تطيقها الخزينة الأمريكية·