لقد تم شراء الأرض التي شيدت عليها ''دار الحديث'' بتلمسان سنة ,1935 أي أربع سنوات فقط بعد تأسيس جمعية العلماء المسلمين، وتتحدث المصادر عن أن القطعة تلك كانت ملكا ليهودي تبرع أهل تلمسان لشرائها لصالح الجمعية التي كانت حريصة على بناء المدارس ودور العلم، لأنها الخطوة الأولى التي يتحرر فيها الإنسان من العبودية والاستعمار. وكان للمهندس الراحل عبد الرحمن بوشامة الفضل في وضع التصميم الهندسي لبناء المدرسة التي تجند لها أهل تلمسان كل بما يملك.. وما هي إلا سنوات قليلة حتى تم افتتاح ''دار الحديث'' في ال 27 سبتمبر 1937 في حفل بهيج حضره علماء وشيوخ جمعية العلماء يتصدرهم العلامة عبد الحميد بن باديس الذي حظي باستقبال حار من أهل المدينة التي سبق أن تعرفت عليه حينما زارها أول مرة سنة 1932 حيث ألقى حينها خطابا اهتزت له الجماهير معجبة بفصاحته وغزارة علمه. وعند عودته لمسقط رأسه قسنطينة؛ كلف رفيق دربه الشيخ البشير الإبراهيمي ليلتحق بتلمسان حتى يقوم بواجب الإصلاح، فكان أن وفق الإبراهيمي في مهمته، وفي وقت وجيز وليس كحال مشاريعنا اليوم، تم تشييد ''دار الحديث'' التي أحدثت نهضة علمية وحضارية غيرت وجه تلمسان التي تحولت إلى محج للعلماء والمصلحين. ولو تم الاعتناء بهذه المدرسة لصارت مرجعا لا يقل مقاما عن الزيتونة أو الأزهر أو القرويين. حينما تسلم الشيخ بن باديس مفتاح ''دار الحديث'' من يد صاحبه وخليفته الوفي الشيخ الإبراهيمي، وبعدما افتتح المدرسة بذكر اسم الله وتلاوة بعض الآيات القرآنية، توجه إلى الجماهير التي شاركت في حضور هذا الحفل بخطاب يعترف فيه بفضل أهل تلمسان وما بذلوه من تضحيات في سبيل الله بأموالهم وعرقهم، صغيرهم وكبيرهم ومما جاء في مقولته ''يا أبناء تلمسان، أبناء الجزائر.. إن العروبة من عهد الفتح إلى اليوم تحييكم، وإن الإسلام من يوم محمد صلى الله عليه وإلى اليوم يحييكم، إن أجيال الجزائر من هذا اليوم إلى يوم القيامة تشكركم وتذكر صنيعكم الجميل. يا أبناء تلمسان كانت عندكم أمانة بين تاريخنا المجيد فأديتموها فنعم الأمناء أنتم، فجزاكم الله جزاء الأمناء، والسلام عليكم ورحمة الله''.. و لكن هل يقبل الاستعمار الفرنسي أن تقوم هذه المدرسة التي أراد أصحابها أن تخرج الناس من الظلمات إلى النور أن تقوم بواجبها؟.. كلا، فقد تعرضت المدرسة والقائمون عليها إلى المضايقات والملاحقات وأغلقت المدرسة لفترات متفرقة ذاق فيها التلمسانيون مرارة الظلم، لأن المدرسة بالنسبة إليهم كانت مفخرة بلدهم. ولكن في النهاية انتصر الحق على الباطل وفرح المؤمنون بنصر الله. لقد كان الشيخ عبد الحميد بن باديس مدرسة متكاملة، متمسكا بهويته الوطنية والدينية، محبا للتربية والتعليم والفضيلة والفنون بما فيها الموسيقى، متواصلا بأخوة مع أهل الزوايا المخلصين، مؤمنا بحوار وتعايش المذاهب وفي مقدمتهم إخواننا الإباضية، متسامحا مع أهل الكتاب، مقرا بمبدأ الديمقراطية كآلية متطورة لمفهوم الشورى، وبالقيم الغربية التي جاءت لصالح حقوق الإنسان مثل الحرية والمساواة. ولكن في نفس الوقت؛ شديدا في مقاومة الاستعمار. وليس صحيحا أن أبناء جمعية العلماء المسلمين تراخوا عن الالتحاق بثورة التحرير وهم الذين باركوها وسقط منهم العديد من الشهداء بعدما ناصروها بكل وضوح وصراحة في اليوم الموالي من اندلاعها، وذلك من خلال البيان الذي أصدره مكتب جمعية العلماء المسلمين الجزائريينبالقاهرة في الثاني نوفمبر 1954 والذي نقتبس منه هذه الفقرات لأهميتها ''أذاعت عدة محطات عالمية في الليلة البارحة أن لهيب ثورة اندلعت في عدة جهات من القطر الجزائري.. ثم قرأنا في جرائد اليوم بعض تفاصيل لما أجملته، فخفقت القلوب لذكرى الجهاد الذي لو قسمت فرائضه لكان للجزار منه حظا بالفرض والتعصب، واهتزت النفوس طربا لهذه البداية التي سيكون لها ما بعدها.. أما نحن المغتربون عن الجزائر، فوالله لكأنما حملت إلينا الرياح الغربية حين سمعنا الخبر روائح الدم زكية.. ونحن في القاهرة وكأننا في مواقع النار..''. وتلا هذا البيان عدة نداءات، تدعو كلها إلى وحدة الجزائريين لتحقيق هدف الاستقلال وعدم الثقة في العدو ووعوده الكاذبة.. كل ذلك جاء مفصلا في النداء المؤرخ في ال 15 نوفمبر 1954 بالقاهرة الذي انتهى بالقول ''فسيروا على بركة الله، وبعونه وتوفيقه إلى الكفاح المسلح، فهو السبيل الواحد إلى إحدى الحسنيين.. إما الموت وراءه الجنة، وإما حياة وراءها العزة والكرامة''، ولكن وبعدما أكرمنا الله بالنصر هل تحققت العزة والكرامة؟. مما لا شك فيه فإن موقع البيان السابق الشيخ البشير الإبراهيمي قد صدم لما آلت إليه الأمور بعد الاستقلال من انحراف سياسي وديني، فاضطر إلى إصدار بيانه الشهير في ال 16 أفريل ,1964 وللقيمة التاريخية والسياسية لهذه الوثيقة نذكر أهم ما جاء فيها بحيث خرج الشيخ الذي لم يكن يتهافت على موائد السلطان عن صمته بعدما انحرفت الأمور عن مبادئ أول نوفمبر وانفراط عقد الأمة وذهب أبناؤها إلى الصدام المسلح من أجل مصالح فئوية خاصة، والابتعاد عن شرع الله. وعليه أمام هذه الفتنة التي لازالت تطل علينا من حين إلى آخر، خاطب المسؤولين بالقول ''لقد آن للمسؤولين أن يضربوا المثل في النزاهة وألا يقيموا وزنا إلا للتضحية والكفاءة، وأن تكون المصلحة العامة هي أساس الاعتبار عندهم، وقد آن أن يرجع لكلمة الأخوة التي ابتذلت معناها الحق، وأن نعود إلى الشورى التي حرص عليها النبي صلى الله عليه وسلم. وقد آن أن يحتشد أبناء الجزائر كي يشيدوا جميعا مدينة تسودها العدالة والحرية.. ''مدينة'' تقوم على تقوى من الله ورضوان''.. إذن هل تحقق حلم الشيخ الذي هو حلمنا جميعا بعد انقضاء خمسة عقود من عهد الاستقلال؟.. أعتقد أن المسؤول الأول في البلاد السيد رئيس الجمهورية كانت له الشجاعة الكافية ليعلن في وقت سابق، وقبل الحراك التي يشهده الشارع العربي من أن جيل الثورة قد فشل في تحقيق التنمية للبلاد، وهو كذلك يعترف في خطابه الأخير الذي جاء على موعد مع ''يوم العلم'' المتزامن أيضا مع انطلاق تظاهرة ''تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية''، بتفشي الرشوة والفساد والمحسوبية والبيروقراطية.. هذه الآفات كلها في حاجة إلى إصلاحات شاملة وحقيقية وبوصفة جديدة تعمل فعلا على عودة الروح والوعي والأمل وهذا قبل فوات الأوان