ما الذي يدفع دولة صغيرة مثل الإمارات بحجم سكاني لا يتعدى الخمسة ملايين نسمة وبمساحة جغرافية أقل من 84ألف كلم مربع أن تكون- حسب تقرير ستوكهولم لأبحاث السلام- في المركز الثالث في قائمة أكبر مستوردي السلاح في العالم في سنة 2008وللعام الخامس على التوالي بعد كل من الصين والهند البالغ عدد سك ران ذات الطموح النووي الممسكة بالجزر الثلاثة المتنازع عليها. أبو موسى وطنب الصغرى وطنب الكبرى، ومرورا بإسرائيل الاستيطانية التوسعية وتهديداتها النووية، ومن ورائهما باكستان والاضطرابات الداخلية والإقليمية في أفغانستان، وقبل هؤلاء جميعا حالة التمزق الداخلي في العراق والهلع الشيعي في حالة تقسيم العراق أو النفوذ المتزايد لإيران هناك، فالإمارات بما تملكه من ثروات نفطية واستثمارات ضخمة تشكل عامل جذب وتنافس للقوى الإقليمية والدولية عليها. وفي الوقت ذاته يشكل ضعف بنيتها الديمغرافية وانكشافها الجغرافي عامل تهديد دائم ومستمر لأمنها الوطني، وهو ما يجعلها توظف مداخيلها في الإنفاق على التسلح وطلب الحماية الفرنسية من خلال قاعدة السلام، وهذا هو ما يسمى اختصارا بمأزق الأمن، أي أن تبني الإمارات كل إستراتيجيتها على الأمن العسكري مقابل البحث عن الاستقرار والحفاظ على الهوية وتماسك الدولة. إذا كان الأمر يبدو واضحا بالنسبة للإمارات من خلال مفهوم مأزق الأمن، فإن الطموح الفرنسي في لعب ورقة الخليج من خلال القاعدة العسكرية يجعل فرنسا ساركوزي تضع قدمها العسكري في منطقة خارج نفوذها التقليدي كما هو الحال في القارة الإفريقية، وهي بذلك تقترب أكثر من النفوذ الأنجلوساكسوني حيث القواعد العسكرية البريطانية والأمريكية. وخلف القاعدة العسكرية الفرنسية في أبو ظبي، يسهر ساركوزي ومن ورائه رجال الأعمال والصناعات العسكرية لكسب الصفقات العسكرية والنووية، ويبدو التطور واضحا بين باريس وأبو ظبي كما يشير مركز الإمارات للدراسات الإستراتيجية. بحيث يبلغ حجم الاستثمارات الفرنسية في الإمارات نحو نصف الاستثمارات الفرنسية في منطقة الخليج، مع تزايد حجم الصادرات الفرنسية إلى السوق الإماراتية بثلاث مرات خلال العشر سنوات الماضية، كما أن الشركتين الجويتين في الإمارات تعد من بين الزبائن الأوائل لشركة إيرباص في الوقت الذي يعتمد فيه الجيش الإماراتي على 50بالمائة من التجهيزات العسكرية الفرنسية لاسيما دبابات لكلارك وطائرات ميراج 2000التي تصنعها شركة داسو للطيران التي كانت حاضرة وبقوة بمديرها العام شارل إيدلستان في زيارة ساركوزي لأبوظبي، وعقل وقلب إيدلستان على صفقة طائرات رافال. خصوصا بعدما أعلنت أبو ظبي استعدادها لاستبدال 60طائرة ميراج 2000بطائرة رافال الفرنسية الأكثر تطورا بصفقة تتراوح ما بين 5,8 إلى11 مليار دولار، وقد تكون القاعدة العسكرية الجديدة البوابة للظفر بالصفقة خصوصا وأن فرنسا عانت كثيرا من إيجاد أسواق خارجية لهذا النوع من الطائرات أمام المنافسة الأمريكية بالأخص مع منافسها القوي طائرات أف16، حتى مع أقرب حلفائها القريبين كما جرى مع المملكة المغربية التي فضلت أ.ف 16 الأمريكية على رافال الفرنسية. وإلى جانب رهان فرنسا على الصفقات العسكرية، تراهن كذلك على كسب السوق النووية في الإمارات حيث تعتزم أبو ظبي بناء ما بين 12إلى 16 مفاعل نووي بقيمة مالية تصل إلى 40مليار دولار، والمجال هنا لا يعد سهلا على فرنسا التي تدرك جيدا تلك المنافسة الشرسة من قبل المعرفة النووية الأمريكية والكورية الجنوبية، وهو ما جعل فرنسا تشكل تكتلا لمؤسساتها النووية ما بين توتال، غاز فرنسا، سويز وأريفا، كقطب يدخل المنافسة النووية مع مجموعة جنرال إلكتريك الأمريكية وتكتلات كورية على أمل كسب السوق الخليجية المغرية، حيث الإمارات الأكثر إغراء لاكتسابها ترسانة قانونية جاهزة لتأمين استقبال المفاعلات النووية. أمام هذه المنافسة التي تقترب منها فرنسا في الخليج جعلت صانعي القرار يرتبون أولويات السياسة الخارجية، كما يوضحه الشعار الدبلوماسي الفرنسي القائل بأن سنة 2009هي سنة الخليج، وقد تكون سنة الخليج بكل امتياز في حالة ما إذا أعلنت أبو ظبي في سبتمبر القادم منح صفقة استبدال طائراتها العسكرية إلى شركة داسو، ويصاحبها فوز تكتل المؤسسات الفرنسية النووية بصفقة إقامة المفاعلات النووية لتأمين الكهرباء ولأغراض سلمية أخرى. ستبقى عين ساركوزي ساهرة على تأمين السوق الإماراتية وهو يدشن القاعدة العسكرية الفرنسية في ميناء زايد، مستخدما كل الخطابات السياسية الودية والإستراتيجية التي تجعل صناع القرار في الإمارات يختارون باريس بدلا من واشنطن أو سيول، ويمكن أن نقرأ ذلك في المقالة التي كتبها ساركوزي في يومية الإتحاد الإماراتية بعنوان: ''الشراكة الإستراتيجية بين فرنساوالإمارات''. وما يلفت الانتباه أكثر في خطاب ساركوزي تركيزه على الأمن المشترك بين باريس وأبوظبي، واعتبار أي تهديد أو هجوم عليها يعد هجوم على باريس، وهي ترجمة فعلية لأدبيات الكتاب الأبيض للدفاع الفرنسي لسنة 2008، ومما جاء في مقال ساركوزي: ''منذ 15عاما تقريبا ونحن شريكان إستراتيجيان مرتبطان باتفاقية دفاع.. وهذه القاعدة العسكرية دليل على أن بلدنا مستعد للانخراط كليا معكم في تحقيق أمن المنطقة، إنها دليل على أن فرنسا مستعدة لتحمل كل المخاطر من أجل أصدقائها. ورسالتنا واضحة: سنقف إلى جانبكم في كل الظروف، بما في ذلك الصعبة منها وكما يقال يعرف الأصدقاء عند الشدائد..''، وما لم يقله ساركوزي في مقاله، أنه إذا كانت فرنسا مستعدة للدفاع عنكم في مضيق هرمز وتأمين ناقلات النفط، وجعل القاعدة العسكرية الفرنسية رأس الحربة في المياه المجاورة لإيران التي تختبر يوميا قدراتها الدفاعية التي تصل إلى العمق الخليجي، ومقابل اختبار الأصدقاء في وقت الضيق، يستلزم منكم في الإمارات التفكير في داسو وأريفا وأخواتها لمنحهم حقوق الحماية الأمنية، لأن الكل مرتبط ببعضه البعض، فساركوزي يدرك أن وجوده في الرئاسة الفرنسية قائم على دعم اللوبيات المالية والعسكرية. وأن مصلحة فرنسا تقتضي البحث عن صفقات عسكرية- نووية في منطقة البترودولار التي صنفتها باريس ضمن أولوياتها الإستراتيجية كما قالت صحيفة لوفيغارو اليمينية، وهنا قد تتراجع إفريقيا مقارنة بالخليج وفي الوقت ذاته هي مؤشر على عودة فرنسا لسياسة عالمية تنافس الإمبراطوريتين التقليديتين لندنوواشنطن، وقد نفهم لماذا اختار ساركوزي العودة السريعة إلى قيادة الحلف الأطلسي بعدما انسحب منها شارل ديغول. فالظرف العالمي مناسب حيت تتهاوى واشنطن في بغداد وكابول وإسلام أباد، لكن نتساءل: ألسنا أمام توزيع للأدوار بين باريس وواشنطنولندن في الخليج مقابل اتفاق سري بينهم لتقاسم الأعباء، لأنه في كل الأحوال يبقى العالم الإسلامي هو الذي يدفع الفاتورة الأمنية بسبب مأزق الأمن الدائم في منطقة يسميها الكتاب الأبيض للدفاع الفرنسي بمنطقة قوس الأزمات تمتد من كابول إلى مقديشو؟!