أصدر مشروع "كلمة" للترجمة التابع لهيئة أبوظبي للسياحة بدولة الإمارات والثقافة كتاباً جديداً بعنوان"فرنسا ومسلموها... قرن من السياسة الإسلامية لفرنسا: 1895 -2005"، وهو المعروف المتخصص في الدراسات الإسلامية، وقد قامت بترجمته د. زهيدة درويش جبور. ولعل خير تعريف بالكتاب وأهدافه هو ما ورد على لسان صاحبه في المقدمة حيث يقول: "آن الأوان للعبور من رواية الإسلام في فرنسا إلى تاريخه الحقيقي، ولمزيد من التفكير في أوضاع المسلمين في فرنسا بدل الاكتفاء بشكل غير محدود باستثمار الخوف من التيارات الراديكالية التي لا تشكِّل إلا أقلية ضئيلة جداً". عمد الكاتب إلى قراءة للظروف الموضوعية السياسية والاجتماعية التي ساهمت في تشكل تصوّر عن الإسلام وعلاقته بالغرب عموماً، فهو يسلط الضوء على محطاتٍ مشرقة في تاريخ الإسلام في فرنسا، لطالما بقيت طي النسيان، والتي شهدت علاقات تفاعل وانفتاح وحوار بنّاء بين المفكرين والفلاسفة الفرنسيين، من جهة، والمثقفين المسلمين، من جهة أخرى، أسهمت في إثراء الفكر الإسلامي المعاصر وفي تقدم المعرفة المتبادلة بين المسلمين والمسيحيين. وهو مؤلَّف ضخم، وشيِّق، غني بالمعلومات التي تكشف عن جهد توثيقي كبير يمنحه مصداقية علمية أكيدة. يستعرض الكتاب في أقسامه الثلاثة المحطات الأساسية في تاريخ الإسلام في فرنسا، لكن أهميته لا تقتصر على المنحى التأريخي التوثيقي ذلك أنه يقوم على قراءة المنهجية التي انتهجتها فرنسا تجاه الإسلام والتي بدأت في الجزائر، ثم استمرت خارج الجزائر وداخل فرنسا هذه المرة مع قدوم المهاجرين الجزائريين إليها واستقرارهم فيها في مرحلة ما بعد الاستقلال ثم في فترات لاحقة وحتى يومنا هذا. في القسم الأول يستعرض الكاتب دخول المسلمين إلى فرنسا والذي يعود إلى عدة قرون، بحسب رأيه. وفي القسمين الثاني والثالث يتوقف ليشرح العلاقات بين فرنسا والمسلمين في الفترة بين 1830 و1947، حيث كان يُنظر إليهم ك "رعايا" ثم في الفترة الممتدة من 1947 حتى عام 2004 أي بعد مرور سنة على تأسيس "المجلس الفرنسي للدين الإسلامي"، بقرار من وزارة الداخلية الفرنسية. يرى صادق سلام أن وجود المسلمين في فرنسا ليس حديث العهد إنما بدأ في القرن السادس عشر عندما طُرد الموريسكيون من إسبانيا ولجأوا إلى مرسيليا حيث استقروا. في مرحلة لاحقة، سهلت بواكير الحقبة الاستعمارية الاحتكاك بالإسلام مع حملة نابليون على مصر حيث استقر في هذا البلد عدد من الضباط الفرنسيين الذين اعتنقوا الإسلام ومن بينهم الجنرال عبدالله مانو الذي يخصّه الكاتب بصفحات عدة، لكن الاحتكاك المكثَّف بالإسلام حدث في القرن التاسع عشر وتحديداً بعد احتلال الجزائر. وكانت كل من فرنساوالجزائر مسرحاً لهذا الاحتكاك بوجهيه المشرق والمظلم. لقد شكلت باريس في أواخر القرن التاسع عشر ساحةً لحراك ثقافي إسلامي ولحوار فكري بين عدد من المثقفين ورجال الدين المسلمين الإصلاحيين ونظرائهم الفرنسيين، وعلى رأسهم الفلاسفة الوضعيين المتحمسين للإسلام والمدافعين عنه. لعبت "مجلة الإسلام" التي أسسها دوجاريك سنة 1894 دوراً مهماً في هذا المجال، كذلك نشطت "جمعية الأخوة الإسلامية" التي تشكلت في باريس سنة 1907 والتي ترأسها كريستيان شرفيس وهو فرنسي اعتنق الإسلام ودافع عن إنشاء مسجد باريس الذي دُشِّن بعد وفاته بعدة أشهر. ولم يكن من المستغرب، في ظل هذا المناخ من التفاعل والانفتاح أن يطلق على فيليب غرونييه وهو عضو في البرلمان الفرنسي كان قد اعتنق الإسلام لقب "نائب العرب". وفي سنة 1920، أنشىء المعهد الإسلامي في باريس الذي سوف يُعرف فيما بعد بمسجد باريس، مكافأةً للمسلمين الذين شاركوا في الحرب العالمية الأولى، وبين عامي 1920 و 1930 تضاغف عدد المسلمين الجزائريين في فرنسا حتى أصبح بمئات الآلاف. أما في الخمسينيات فقد لعب "المركز الثقافي الإسلامي" دوراً ريادياً حيث شكّل ملتقى لمفكرين إسلاميين كبار مثل مالك بن نبي وخلدون الكناني، ومستشرقين فرنسيين أولوا اهتماماً كبيراً للثقافة الإسلامية مثل ماسينيون وجاك بيرك وهنري كوربين. ويخلص الكاتب إلى وجود تناقض واضح بين وجهين للإسلام في فرنسا: "الإسلام العائلي" المنفتح على الحياة الفرنسية، والإسلام السائد في الجمعيات الدعوية. أخيراً لا بدّ من الإشارة إلى أن هذا الكتاب الذي يمتاز بدقة لافتة في التوثيق وبتنوع المصادر، حيث أن المؤلف اعتمد على الأرشيف الرسمي والخاص كما على آراء وتصريحات وشهادات معاصرة، يسهم إلى حدٍ كبير في تعميق التفكير وإثراء النقاش الدائر حالياً في فرنسا وخارجها حول وضعية الإسلام والمسلمين في هذا البلد. مؤلف الكتاب صادق سلام باحث جزائري في الشؤون الإسلامية، له عدة مؤلفات، منها: الإسلام والمسلمون في فرنسا(1987)، أن تكون مسلماً اليوم (1989)، شارك في برنامج "تعرف إلى الإسلام" الذي بثه التلفزيون الفرنسي. مترجمة الكتاب د.زهيدة درويش، باحثة وكاتبة حائزة على شهادة دكتوراة في الأدب المقارن ودكتوراة دولة في الأدب الفرنسي من جامعة ليون في فرنسا، وهي أستاذة في الجامعة اللبنانية-قسم اللغة الفرنسية وآدابها، ولها مجموعة من المؤلفات معظمها بالفرنسية منها: "الشعر والكشف في أعمال ناديا تويني الشعرية"، التاريخ والتجربة في (الكتاب) لأدونيس، كما لها إسهامات في ترجمة شعر كل من ناديا تويني وفينوس خوري غاتا، كذلك نقلت إلى العربية كتابين صدرا عن الأونيسكو: "بانتظار بدر البدور" للأمين العام السابق للأمم المتحدة بطرس بطرس غالي، و"القيم إلى أين؟" لمجموعة من المفكرين والفلاسفة.