يودع العالم في نهاية عام 2017، الذي يعد عام الأثرياء بحق، إذ شهدت فيه أسواق الأسهم، خاصة سوق "وول ستريت" تحقيق أكبر ارتفاع في تاريخها، حيث كسب المستثمرون في بعض القطاعات أكثر من 25%. كما اقتربت فيه القيمة السوقية للبورصات العالمية من مائة تريليون دولار. وحسب نشرة بلومبيرغ الأميركية، ازدادت ثروة أغنى الأثرياء في العالم بمقدار تريليون دولار خلال 2017، وهو ما يعادل 4 أضعاف ما أضافوه من مكاسب خلال 2016. كما كسبت أسعار الذهب حوالى 12% وارتفعت المؤشرات السعرية لجميع الموجودات الاستثمارية المعروضة في الأسواق العالمية. كان أكبر هذه الارتفاعات من نصيب "العملات الرقمية" التي بلغت قيمتها السوقية حتى يوم الخميس حوالى 600 مليار دولار. وتمكن العديد من الذين غامروا باستثمار بضعة آلاف من الدولارات في عملة بيتكوين قبل أعوام من الصعود إلى خانة المليونيرات، كما خلقت بيتكوين أول ملياردير خلال شهر أكتوبر الماضي. أما على الصعيد الاقتصادي، فقد شهدت الاقتصادات الكبرى معدلات مرتفعة من النمو الاقتصادي، وتتجه هذه الاقتصادات نحو النمو بمعدلات كبرى خلال العام المقبل. وحسب تقديرات البنك الدولي الأخيرة، يتجه الاقتصاد الأميركي للنمو بنسبة 3.3% خلال العام المقبل، كما تتجه الاقتصادات الأوروبية للنمو بمعدلات تراوح بين 2.0% و2.5% لأول مرة منذ أزمة المال العالمية. كما خرج الاقتصاد الياباني من أسوأ مرحلة تباطؤ ويتجه للنمو بنسبة 5.0% لأول مرة منذ العام 2000. وفي المقابل فإن معدل النمو الصيني يتجه نحو الاستقرار فوق 6.5%. ولكن على الرغم من هذه الصورة الوردية التي ترسمها أرقام الثروة والنمو الاقتصادي العالمي ، تبدو هنالك مخاطر كبرى محدقة بالعالم، تتبدى في الاختلالات المريعة في النمو غير المتوازن بين الذين يملكون المال والذين لا يملكون، وبين الدول الثرية والفقيرة. كما أن تكدس الثروة في أيدي حفنة قليلة لا تتجاوز نسبتها الواحد في المئة من إجمالي سكان العالم، يفاعل من الغبن الطبقي ويهدد بالتمزق الاجتماعي والسياسي. كما يلاحظ أن هذه "الثروات الدفترية"، لم تصنع عبر القيمة المضافة في إنتاج السلع والخدمات وإنما صنعت في المضاربات على أسعار الأسهم والسندات والعملات الرقمية. وبالتالي فهي لا تعكس القيمة الحقيقية للأصول، حيث إنها تضخمت بسبب السياسات النقدية التي اصطنعتها البنوك المركزية العالمية وعلى رأسها مصرف الاحتياط الفدرالي "المركزي الأميركي"، بضخ أموال مجانية في أسواق المال لحمايتها من الإفلاس أوحمايتها من وقوع تصحيح مؤلم، تراجع كبير، في الأسعار والمؤشرات. وبالتالي فهنالك مخاوف على تبخر هذه الثروات خلال الأعوام المقبلة التي تتجه فيها السياسات النقدية العالمية نحو التشدد برفع سعر الفائدة بدلاً من خفضه، وهو ما يعني نهاية الأموال المجانية التي استخدمت في دفع ماكينة الصعود المتواصل للبورصات العالمية. والسؤال الآن ما الذي سيحدث في العام المقبل 2018، حينما تعود أسعار الفائدة إلى وضعها الطبيعي؟ ببساطة يرى العديد من خبراء المال وعلى رأسهم الاقتصادي الدكتور محمد العريان، خبير أميركي من أصل مصري، أن عالم المال والاقتصاد يواجه احتمالين، وهما إما نجاح هذه السياسات النقدية التي أطلق عليها هو وزملاؤه في شركة بيمكو العالمية مصطلح "الأمر العادي الجديد"، في إطلاق دورة جديدة من الانتعاش العالمي، أو حدوث انتكاسة تعيد العالم إلى ركود اقتصادي واضطراب في أسواق المال. من جانبه يرى البروفيسور بجامعة ستانفورد مايكل جى بوسكن، أن الانتعاش الاقتصادي العالمي سيتواصل في العام المقبل 2018، ولكن بمستوى أقل من معدله الحالي. ويتوقع بوسكن في لقاء مع مجلة " فاينانس آند وير شافت" الألمانية، أن "النمو الذي تحقق في العام 2017 فاجأ الجميع ولكن السؤال هل سيستمر في العام 2018". ويجيب على السؤال بقوله إن ذلك يعتمد على السياسات المالية والنقدية في أنحاء العالم". ويرى أن المشكلة الرئيسية في صعوبة التنبؤ، تأتي من وجود رؤساء جدد في كل من أميركا وفرنسا وبريطانيا كما أن هنالك رئيساً جديداً في أميركا". أما الخبير الاقتصادي دانيال غروس، فيعتقد أن وجود ثلاث كتل اقتصادية كبرى متصارعة داخل منظمة التجارة العالمية، تهدد الانتعاش الاقتصادي في العالم. ويشير في هذا الصدد إلى الصراع الجاري بين كل من أميركا والصين ودول الاتحاد الأوروبي. فالعالم يدخل العام الجديد 2018، وسط مجموعة من المجاهيل على صعد السياسة والعلاقات التجارية العالمية والاستقرار السياسي والأمني في العديد من مناطق العالم.. كما أن هنالك مجموعة من الأزمات السياسية في المنطقة العربية، وهي أزمات يمكن أن تتفجر في ظل عدم المبالاة السياسية التي تمارسها بعض القوى الإقليمية ووضع أمن المنطقة في سلة الرئيس ترامب الذي لا يأبه سوى بالصفقات وجمع المال. وعلى صعيد صراع النفوذ العالمي، يواجه العالم مرحلة رمادية في العام الجديد، تتجاذب فيها واشنطن بمفهومها الانعزالي للسيادة والهيمنة على العالم مع القوى الصاعدة والتي تمثلها بكين وتوابعها التي ترغب في بناء نظام عالمي جديد "متعدد المحاور" مواز للنظام القائم يقلم من أظافر واشنطن نقدياً وتجارياً واقتصادياً. بدأت مظاهر هذا التجاذب بين واشنطنوبكين تظهر في العديد من المحافل الدولية، خاصة في اجتماعات منظمة التجارة العالمية ومجموعة العشرين. وهنالك مخاطر حقيقية على الاستقرار السياسي والرخاء الاقتصادي من النزعات الشعبوية والانعزالية التي يمثلها الرئيس دونالد ترامب الذي يسعى لتخريب النظام المالي والنقدي والتجاري القائم منذ الحرب العالمية الثانية وبناء نظام جديد قائم على مبدأ "أميركا أولاً وأميركا العظيمة". ويرى ترامب أنه عبر تخريب النظام الحالي متعدد الأقطاب، سيتمكن من استعادة الهيمنة المطلقة للولايات المتحدة كقوى عظمى وحيدة تتمكن من صياغة العالم وفقاً لتطلعاته الشوفينية. وبالتالي، فهنالك مخاوف حقيقية من تمكن ترامب من الفوز بأغلبية في انتخابات الكونغرس في نهاية العام المقبل والمضي قدماً في تنفيذ "سياسة الفوضى وتخريب الاستقرار العالمي". على الصعيد الاستثماري، هنالك مخاوف من تكثف المضاربة على "منتجات ورمية"، مثل المضاربة على أسعار أسهم وموجودات ليست لديها أصول محسوسة أو حتى خدمات منظورة، يمكن بيعها أو الحجز عليها في حال حدوث إفلاس، أو حتى لديها عناوين معروفة يمكن الوصول إليها مثل "العملات الرقمية" التي تحكمها مجموعة من الحواسيب غير المركزية. كما يلاحظ انتشار المضاربة على ارتفاع وانخفاض المؤشرات السعرية ومجموعة كبيرة من المنتجات الاستثمارية المبنية على تناسب الأصول. ومعروف أن النسبة ليست بشيء وإنما هي علاقة تظهر وتختفي بظهور الأشياء. وبالتالي فهي في ذاتها لا شيء.. ومن الأمثلة الكبرى على "الموجودات الورمية"، عملة بيتكوين التي شغلت العالم، من الناحية الاقتصادية، التي تعد حالياً مخزناً لقيمة موجودات متوهمة في فضاء إلكتروني. أي أن المستثمر لا يعرف حقيقة ماذا اشترى وماذا باع، وما الذي سيحدث إذا حدث عطل حقيقي في الإنترنيت واستمر لشهور، هل ستكون هنالك عملة بيتكوين. وبالتالي فالمستثمر يدخل العام الجديد وسط العديد من المخاطر، رغم ما تحقق له من ارباح كبرى في العام الآفل 2017. ++++