وحقيقة التوكل: هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح، ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها ، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه. وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في دعائه: «اللهم اجعلني ممن توكل عليك فكفيته» . لكن الناس إنما يُؤْتَون من قلة تحقيق التوكل، ووقوفهم مع الأسباب الظاهرة بقلوبهم ومساكنتهم لها، فلذلك يتعبون أنفسهم في الأسباب، ويجتهدون فيها غاية الاجتهاد، ولا يأتيهم إلا ما قدر لهم، فلو حققوا التوكل على الله بقلوبهم، لساق إليهم أرزاقهم مع أدنى سبب، كما يسوق إلى الطير أرزاقها بمجرد الغدو والرواح، وهو نوع من الطلب والسعي، لكنه سعي يسير. وفي حديث جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم» . والرزق مقسوم لكل أحد من بر وفاجر، ومؤمن وكافر، كما قال تعالى: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ، هذا مع ضعف كثير من الدواب وعجزها عن السعي في طلب الرزق، قال تعالى: وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم. وثمرة التوكل الرضا بالقضاء، فمن وكل أموره إلى الله ورضي بما يقضيه له، ويختاره فقد حقق التوكل عليه ولذلك كان الحسن والفضيل وغيرهما يفسرون التوكل على الله بالرضا. فالمتوكل على الله إن صبر على ما يقدره الله له من الرزق أو غيره، فهو صابر، وإن رضي بما يقدر له بعد وقوعه فهو الراضي، وإن لم يكن له اختيار بالكلية ولا رضا إلا فيما يقدر له، فهو درجة المحبين العارفين، كما كان عمر بن عبد العزيز: يقول أصبحت وما لي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر. وتحقيق التوكل لا ينافي السعي في الأسباب ، فإن الله تعالى أمر بالأخذ بالأسباب مع أمره بالتوكل، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة له، والتوكل بالقلب عليه إيمان به، كما قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم ، وقال تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ، وقال: فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله. وقد روي عن ابن عباس، قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن متوكلون فيحجون، فيأتون مكة فيسألون الناس، فأنزل الله هذه الآية: وتزودوا فإن خير الزاد التقوى. ولقي عمر بن الخطاب ناسا من أهل اليمن، فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون، قال: بل أنتم المتأكِّلون، إنما المتوكل الذي يلقي حَبَّه في الأرض، ويتوكل على الله عز وجل. وقد سئل الإمام أحمد عمن يقعد ولا يكتسب ويقول: توكلت على الله، فقال: ينبغي للناس كلهم أن يتوكلوا على الله، ولكن يعودون على أنفسهم بالكسب. وقال الفضيل بن عياض: لم يفعل هذا الأنبياء ولا غيرهم، ولم يقولوا: نقعد حتى يرزقنا الله عز وجل، وقال الله عز وجل: وابتغوا من فضل الله . فلابد له من الأخذ بالأسباب لاسيما من له عيال ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت» .